التساؤلات المطروحة هنا لا علاقة لها بالجدل المستمر حول الحل التفاوضي أم الحل العسكري لمشكلة سد النهضة الإثيوبي من جانب مصر، سواء كان الجدل ترجيحًا أو توقعًا أو تفضيلاً لهذا الحل أو ذاك، ولا علاقة لها كذلك بتفاوت التصريحات الرسمية المصرية ما بين التشدد تارةً أو اللين تارة أخرى، ولكنها تدور حول تفاوت رؤى الخبراء المصريين المشهود لهم بالدراية المتخصصة في قضايا الري والمياه والسدود لطبيعة المشروع الإثيوبي وأغراضه وآثاره المؤكدة على مصر، وعدم وجود أو صدور دراسة متكاملة فنيًا، ومعتمدة سياسيًا، تقطع الشك باليقين حول ذلك التفاوت في الرؤى والتقديرات، إمَّا من الحكومة نفسها، أو من مركز دراسات موثوق في صلته بالدوائر الرسمية، مثلما يحدث في أغلب دول العالم في قضايا أقل شأنًا بكثير من قضية السد الإثيوبي وحصة مصر من مياه النيل.
على سبيل المثال، كتب الدكتور نادر نور الدين أستاذ المياه والأراضي بجامعة القاهرة في صحيفة المصري اليوم مؤخرًا مقالاً جعل عنوانه كما يلي (مصر لن تسمح لإثيوبيا بتجفيف بحيرة السد العالي)، ويكفي العنوان نفسه دون حاجة إلى قراءة المتن- الذي قرأته بالطبع- للافتراض أن إثيوبيا لديها مخطط للاستمرار في الحد من تدفق مياه الفيضان إلى مصر، حتى بعد اكتمال ملء بحيرة سد النهضة، كما يكفي المقال للافتراض بأن الإثيوبيين لديهم القدرة الفنية اللازمة لتنفيذ هذه الإرادة السياسية.
ويقترح الدكتور نور الدين في مقال تالٍ في الصحيفة نفسها إزالة السد الركامي الذي أضافته إثيوبيا إلى السد الخرساني المخصص لتوليد الكهرباء، وهو أي هذا السد الركامي الملحق أو الإضافي لا علاقة له بتوليد الكهرباء، ومن ثمَّ لا فائدة منه سوى تخزين المياه، ويسميه سد الأذى (طبعا لمصر)، فهل هي مسألة أذى للأذى، أم هي مسألة أذى لأغراض أخرى؟!، وهنا يأتي أحد الأمثلة على أهمية الدراسة المعتمدة رسميًا من جانب حكومتنا لقطع الشك باليقين.
في الوقت نفسه، يشارك الدكتور محمد نصر علام وزير الري المصري الأسبق، الدكتور نور الدين في التوجس من النيات الإثيوبية، كما يشاركه التفاؤل بقدرة مصر على حماية حقوقها في النيل في نهاية المطاف، والثقة في توافر إرادة وأدوات الحل الناجع لدي القيادة المصرية.
لا تختلف تقديرات الدكتور عصام حجي كثيرًا عن تقديرات الدكتور نور الدين والدكتور علام، وكما نعلم فقد نشرت تقديرات حجي لحجم الضرر الذي سيلحق بمصر زراعيًا، ومن ثم اقتصاديًا واجتماعيًا من جرَّاء الخطط الإثيوبية، وفقًا لمجموعة من النماذج الرياضية المتفق عليها بين أهل الاختصاص في إحدى الدوريات العلمية الدولية المحكمة، وكما نعرف، فإنَّ حجي اتهم بالمبالغة، وأخذ عليه بين المتجادلين على الشبكات الاجتماعية أنه صدَّر بحوثَه بإقرار حق إثيوبيا في تنفيذ مشروعات ري وطاقة للتنمية.! وهذا جدل لن ندخل فيه، ولكنه يثبت مرة أخرى حاجة الرأي العام إلى قول فصل من الجهة الرسمية المسئولة يقطع الشك باليقين، كما سبق القول.
على الناحية الأخرى يقطع الدكتور مهندس خالد محمد مندور بأنّ أضرار مشروع سد النهضة الإثيوبي على مصر لا تكاد تذكر، وأنّ النقص في إيراداتنا من الفيضان طوال سنوات ملء بحيرة السد يمكن تعويضه من مخزون بحيرة السد العالي المصري، كما حدث في أثناء دورة الجفاف الماضية في أواخر سبعينيات القرن الماضي، بالإضافة إلى الإجراءات المعززة كتحديث نظم الري، وتحلية مياه البحر الخ، ويقترب من هذه الرؤية اتفاق عدد كبير من الخبراء على أنَّ المشكلة الأساسية ليست هي سنوات الملء، وما بعدها، ولكنها الحاجة الى اتفاق على توزيع عادل لتدفقات المياه في سنوات الجفاف.
لا يقتصر تباين الرؤى إلى حد التناقض بين الخبراء المعتبرين على كل ما تقدم، وإنما يمتد ليشمل عنصر الأمان الجيولوجي والهندسي للسد الإثيوبي
لا يقتصر تباين الرؤى إلى حد التناقض بين الخبراء المعتبرين على كل ما تقدم، وإنما يمتد ليشمل عنصر الأمان الجيولوجي والهندسي للسد الإثيوبي، فنحن نعرف أنَّ هناك روايات مرسلة عن تحذيرات واشتراطات اقترحتها بيوت خبرة عالمية لم تأخذ بها الحكومة الإثيوبية، وليس أي من الخبراء سالفي الذكر هو طبعًا مصدر هذه الروايات، وعلى الجانب الآخر لا يعقل بداهة أن تهدر دولة فقيرة مثل إثيوبيا كل هذه الموارد لإقامة مشروع تنموي مشكوك مقدمًا في صموده وفوائده، فما هي الحقيقة كما تراها وجهة النظر المصرية الرسمية؟!
ونصل الآن إلى المسألة الأكثر جدلاً وهي ما يسمى بمشروع بنك المياه الإثيوبي أو خطط إثيوبيا لبيع المياه باعتبارها موردًا اقتصاديًا مثلها مثل البترول، ورغم أنه لا يوجد تأكيد رسمي من مصادر رفيعة المستوي في إثيوبيا أو مصر لوجود مثل هذه الخطط، فقد كان يكفي أن يذكره ذات مرة المتحدث باسم وزارة الخارجية الإثيوبية، لكي نأخذ الأمر بجدية، ولا نعتبره محض مكايدات أو (طق حنك)، ويعزز ضرورة التعامل الجدي مع هذا الاحتمال التقارير القديمة نسبيًا التي تؤكده، وهي لمراسلين وخبراء مصريين من واشنطن (أيّ قريبين من البنك الدولي ومراكز الأبحاث المعنية هناك خصوصًا في جامعة هارفارد)، وكان على رأس هؤلاء المرحوم الدكتور رشدي سعيد أستاذ الجيولوجيا المصري العتيد، الملقب بأبي النيل. فمن سيشتري؟وكيف؟ وما تأثير ذلك بفرض أنه صحيح على مصر؟ هنا أيضًا تتجدد الحاجة إلى إجابات مصرية رسمية، وحبذا لو نفي هذا الاحتمال مرة واحدة وإلى الأبد.
يدخل ضمن قائمة المختلف عليه دون توثيق رسمي من أية جهة رسمية عندنا دور الدول الخليجية في تمويل المشروع الإثيوبي، فهناك روايات عن تمويل مباشر سعودي إماراتي قطري لسد نهضة إثيوبيا، وهناك روايات أخرى تنفي التمويل المباشر، وتحصر الاستثمارات الخليجية في إثيوبيا في الزراعة وتربية المواشي، لتلبية الاحتياجات الغذائية لهذ الدول.
كما يبقي الدور الإسرائيلي في كل تلك الخطط الإثيوبية غامضًا، ولا دليل معلنًا عليه، وكذلك لا نفي معلنًا وموثقًا له. ويمكن أن يقال مثل ذلك على الدور الأمريكي.
لا غرابة إذن في أن يصاب المصريون جميعًا بدوار النيل أو دوار السد الإثيوبي. لكن الغريب حقًا هو أن تظل هذه الأسئلة كل تلك السنوات بلا إجابات ممن يملكون تلك الإجابات، ومرة أخرى أؤكد ما قلته في البداية، فهي أسئلة لا علاقة لها بترجيح أو تفضيل أو استبعاد هذا الحل أو ذاك، بل لا علاقة لها بتصديق أو تكذيب أيٍّ من الرؤي السابق سردها أعلاه، ولكنها تطلب الإجابات الموثوقة فقط ممن يملكونها.