سكان عزبة نادي الصيد في الإسكندرية، وعمال شركة الحديد والصلب، نموذجان انضما حديثًا إلى قائمة طويلة من المجموعات السكانية والعمالية التي تعرضت لإهدار حقوقها. الملجأ الأخير لكلا المجموعتين كان هو التظاهر تعبيرًا عن رفض ما تعرضتا لها من ظلم وللمطالبة برفعه، ولكن ذلك كما هو متوقع أدى فقط إلى انتهاك مزيد من حقوق أفرادهما، مع اعتداء قوات الأمن على المتظاهرين وإلقاء القبض على بعضهم، وانتهى الأمر بعدد منهم إلى العرض على النيابة التي أمرت بحبسهم على ذمة قضية لا يعرف أحد مصيرها.
اقرأ أيضًا.. نحو تجديد الفكر السياسي| ديفيد هيوم: المنفعة والصالح العام (4)
السيناريو المتكرر فيما عدا بعض من التفاصيل من حالة إلى أخرى، يعكس منهجًا للدولة في التعامل مع صور لتعارض المصالح، لا يسعى بأي حال إلى الوصول إلى تسوية عادلة ومرضية ومقبولة من الأفراد والمجموعات المعنية، وإنما يلجأ إلى استخدام العنف لفرض أمر واقع يهدر حقوق الفئات الأكثر ضعفًا.
القائمة الطويلة التي أشرت إليها لا تمثل في مجموعها إلا جانبًا ضئيلًا من الانتهاكات المنهجية المتكررة والمستمرة لحقوق المواطنين أفرادا وجماعات، التي تمارسها مؤسسات الدولة. وقد اخترت الإشارة أولًا إلى تلك الفئات من المواطنين (العاديين)، والمقصود بالطبع هنا، أنهم غير مسيسين ومن ثم فما يرتكب في حقهم من انتهاكات ليس ذو طابع سياسي. في المقابل سجل الدولة في انتهاك حقوق من تعتبرهم معارضين لسياساتها أو لنظام الحكم فيها هو أضخم من إمكانية حصره، وأضخم أيضا من إمكانية إخفائه أو تمويهه.
في ظل نظام ديموقراطي، يمكن تجنب قدر كبير من انتهاكات حقوق المواطنين، طالما كانت السلطة المنتخبة ديموقراطيًا في حاجة إلى عدم إغضاب ناخبيها. ولكن هذا لا يكفي في حد ذاته لضمان حماية حقوق جميع المواطنين خاصة الأقليات، أو الأفراد. في هذه الحالة، وفي حال ألا يكون النظام نفسه ديموقراطيًا، يفترض بالقوانين أن تحمي حقوق المواطنين، حتى من انتهاك الدولة ذاتها لها. ولكن القوانين قد تكون قاصرة ويمكن أن تظل القائمة منها حبرًا على ورق إن لم يكن بإمكان المواطنين اللجوء إلى قضاء مستقل يضمن لهم الانصاف وجبر الضرر الذي لحق بهم.
ليس هذا قاصرًا على الدول غير الديموقراطية أو دول العالم الثالث وحدها، فليس ثمة دولة في العالم اليوم، تخلو بشكل كامل من انتهاكات لحقوق الإنسان، ترتكبها مؤسسات الدولة، أو كيانات أو أفراد مختلفون. هذا لا يعني بالطبع أن جميع الدول متساوية في احترامها أو عدم احترامها لحقوق الإنسان، فهذه الدول تتفاوت بشكل كبير جدًا سواء في حجم الانتهاكات التي تقع في أي منها، في فداحة هذه الانتهاكات ومدى الضرر المترتب عليها، وبالتالي في مدى شعور مواطنيها والمقيمين فيها بالاطمئنان إلى أن حقوقهم مصانة، أو أنهم آمنون من انتهاكها.
المنظومة المحلية لحقوق اﻹنسان
ما نخرج به مما سبق هو أن ثمة حاجة دائما وفي أي دولة إلى آليات إضافية، بخلاف مؤسسات الدولة بما في ذلك سلطاتها التشريعية والتنفيذية، لمحاولة سد الثغرات في مظلة حماية حقوق المواطنين.
هذه الآليات توفر جانب منها المنظومة المحلية لحقوق الإنسان في أي دولة، والتي تتشكل من الكيانات الرسمية المنظمة التي تمارس مهاما محددة تتعلق بحقوق الإنسان، منها تقديم الدعم القانوني لمن لا يمكنهم لأي سبب الحصول بأنفسهم عليه، ومنها التعاون مع مؤسسات الدولة بصور مختلفة، لمساعدتها على الحد من انتهاكات حقوق الإنسان، واستدراك القصور في القوانين، وفي تطوير آليات أكثر عدالة للتعامل مع تعارض المصالح في أمور مثل علاقات العمل، أو التوزيع العادل للخدمات في مجالات مثل الصحة والتعليم.
تعمل المنظومة المحلية لحقوق الإنسان في إطار حركة حقوقية أوسع. هذه الحركة تتشكل من أفراد ومجموعات يقومون بأنشطة مختلفة تتعلق بحقوق الإنسان، عادة يكون ذلك في صورة مخاطبة الرأي العام، إما لنشر الوعي بحقوق الإنسان، أو للفت الانتباه إلى قضايا بعينها وبصفة خاصة تقديم وجهة نظر حقوقية بخصوصها.
هذا الدور التوعوي والدعوي أو الدعائي تنخرط فيه مكونات الحركة الحقوقية في مجملها بما في ذلك الكيانات المنظمة، وهو في أحيان كثيرة يسعى إلى تكوين رأي عام ضاغط على مؤسسات الدولة لتوجيه بعض ممارساتها إما للحد من الانتهاكات الحقوقية أو لتوفير مزيد من الحماية للحقوق والحريات. ولكن أخيرا عندما تستنفذ سبل التعاون مع مؤسسات الدولة أو آليات الضغط المحلي عليها، تؤدي المنظومة المحلية لحقوق الإنسان دورها من خلال توثيق الانتهاكات ولفت الانتباه إليها من خلال النشر عنها في البيانات وأوراق الموقف والتقارير الدورية التي تصدرها.
هذا التوثيق ونشره بسبل مختلفة هو أحد صور الوصل بين منظومات حقوق الإنسان في الدول المختلفة وبين منظومتها الدولية.
المنظومة الدولية لحقوق الإنسان
ليس مفهوم الحقوق بدعة حديثة بأي حال. فمنذ وجد البشر على هذه الأرض، حفظ وجودهم نفسه حد أدنى من الاعتراف الضمني فيما بينهم بحقوق أساسية، في مقدمتها الحق في الحياة، فعلى عكس غيرهم من فصائل المملكة الحيوانية لا يعتمد البشر على غرائزهم لتنظيم سلوكهم، ومن ثم فليس ثمة حقا ما يمنع إنسانا من قتل آخر، بما في ذلك أطفاله، إلا إطار اجتماعي يفرض حقًا للآخر في حفظ حياته.
وقد تطورت السبل التي توافقت المجتمعات على استخدامها لتوفير قدر من الحماية لحقوق أفرادها مع تطور هذه المجتمعات وازدياد تعقيدها لآلاف السنين كانت الأعراف والتقاليد المتوارثة والشرائع الدينية هي المخزون الذي أودعت فيه المجتمعات قواعد حفظ الحقوق التي تقبل أفرادها احترامها نظريًا على الأقل.
نشأة وتطور الدولة الحديثة أنتج أوضاعا جديدة كان من أبرزها العلاقة المباشرة بين الدولة وبين أفراد المجتمع والتي تمثلت في مفهوم المواطنة، وهو ما أوجد الحاجة إلى أطر جديدة لحماية حقوق الأفراد، وقدم فلاسفة عصر التنوير الأساس النظري لتصورات عن الحقوق تنطلق من مبدأ المساواة القانونية بين أفراد المجتمع، والمساواة في الكرامة والمسؤولية الأخلاقية بين جميع البشر. هذه التصورات هي التي تطورت مع الوقت أولا لتنتج أولى إعلانات حقوق الإنسان المحلية التي كان نموذجها الأبرز هو ما أصدرته الثورة الفرنسية في نهاية القرن الـ18. ولاحقًا بنيت على أساس هذا التراث الفلسفي والعملي مجموعة القواعد المنظمة لحقوق الإنسان، والتي نشأ حولها ومن خلالها منظومة دولية من العهود والاتفاقيات وكذلك مؤسسات دولية وإقليمية ومحلية رسمية حكومية وغير حكومية تعمل جميعها لضمان تمتع كل إنسان بحقوقه ولمواجهة الانتهاكات المختلفة لهذه الحقوق.
نشأت هذه المنظومة الدولية لحقوق الإنسان في أعقاب الحرب العالمية الثانية؛ تحديدا لأنه ثبت عمليا أن حتى أكثر الدول تقدما ليست آمنة من استقلال فرد أو حزب بالسلطة فيها، وأن مثل تلك السلطة المطلقة لا يمكن استئمانها على حقوق شعبها، بل يمكن أن ترتكب من الانتهاكات والجرائم ما يصل إلى التصفية العرقية المنهجية. في تصورها المثالي تمثل هذه المنظومة محاولة لخلق إطار يمكن من خلاله التعبير عن الالتزام الجماعي للبشر تجاه بعضهم البعض وتعاونهم على توفير قدرا من الحماية لحقوق بعضهم البعض عندما تخفق الآليات المحلية داخل كل دولة في تحقيق ذلك.
صدرت أولى الوثائق الدولية الأساسية لحقوق الإنسان وهي “الإعلان العالمي لحقوق الإنسان”، عن الجمعية العامة للأمم المتحدة، في العاشر من ديسمبر 1948. تلك كانت المرة الأولى في التاريخ التي توافق فيها المجتمع الدولي على مجموعة من الحقوق والحريات الأساسية والتي ينبغي أن يتمتع بها كل شخص، فقط لكونه إنسانا. ولكن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان هو في الحقيقة يشبه إعلان النوايا، فهو ليس اتفاقية ملزمة للدول الموقعة عليه.
في المقابل استلزم توافق معظم دول العالم على اتفاقيات تلزمها بتوفير مجموعة أساسية من حقوق الإنسان لمواطنيها، 18 عامًا أخرى. ففي 16 ديسمير عام 1976 اعتمد كل من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، والعهد الدولي الخاص بالحقوق الاجتماعية. هذان العهدان إضافة إلى بروتوكولين اختياريين ملحقين بالعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية والإعلان العالمي حقوق الإنسان، يشكلون ما يسمى بالشرعة الدولية لحقوق الإنسان، وهي ما يشبه دستور حقوق الإنسان الذي توافقت عليه الغالبية العظمى من دول العالم ومنها مصر، التي صدقت على العهدين وهما بصفة رسمية يعدان بين القوانين المعمول بها في مصر.
بالإضافة إلى العهدين الدوليين لحقوق الإنسان ثمة سبع مواثيق رئيسية تشكل مع العهدين الاتفاقيات الدولية الأساسية لحماية حقوق الإنسان.
تتعرض هذه المواثيق بشكل تفصيلي لحماية بعض الفئات العرضة أكثر من غيرها لانتهاك حقوقها، وهي الأطفال، والعمال المهاجرين، وذوي الإعاقة، كما تتعرض لأنواع محددة من الانتهاكات الأكثر شيوعا وهي التمييز العنصري، والتمييز ضد النساء، والتعذيب وصور المعاملة أو العقاب القاسية أو غير الإنسانية أو المهينة، وأخيرا الاختفاء القسري.
التزام دولة ما بأي من الاتفاقيات التي وقعت وصدقت عليها يتمثل أولًا في توفيق قوانينها الحالية مع ما تنص عليه هذه الاتقاقيات بحذف وتعديل ما يمكن أن يتعارض معها، وإصدار قوانين جديدة أو إضافة مواد جديدة إلى قوانينها الحالية توفر صور الحماية التي تنص عليها الاتفاقيات أو تحظر وتعاقب على الانتهاكات التي تنص هذه الاتقاقيات على حماية الأفراد أو الجماعات من التعرض لها. إضافة إلى ذلك تلزم بعض الاتفاقيات الدول المصدقة عليها بالمشاركة في آليات دولية مختلفة تساعد على تنفيذ هذه الاتقاقيات، كما تنشئ بعضها لجان أو مجالس تشرف على تنفيذ الاتفاقية المعنية أو تقدم تفسيرات قانونية لنصوصها أو تقدم المشورة للدول التي تتقدم بأسئلة حول التطبيق المناسب لبعض نصوص الاتفاقية.
الكيان الدولي الرئيسي للأمم المتحدة المعني بحقوق الإنسان هو مجلس حقوق الإنسان الذي أنشئ في 15 مارس 2006، وهو كيان تابع للجمعية العامة للأمم المتحدة يضم 47 دولة تنتخبها الدول الأعضاء في الجمعية العامة في تصويت سري، لعضويته لفترة 3 سنوات.
وعضوية المجلس موزعة على أساس جغرافي بحيث تمثل مجموعة من الدول كل إقليم جغرافي في العالم. ولا يجوز لدولة أن تنتخب لأكثر من فترتين متعاقبتين. والدور الأهم للمجلس يتم من خلال آلية المراجعة الدورية للدول الأعضاء في الأمم المتحدة، في هذه المراجعة يدقق المجلس في مدة وفاء كل دولة بالتزاماتها حسب اتفاقيات حقوق الإنسان التي صدقت عليها.
مجلس حقوق الإنسان هو همزة الوصل الأكثر أهمية بين المنظمات غير الحكومية سواء الدولية أو المحلية وبين منظومة حقوق الإنسان للأمم المتحدة، فالمنظمات الحاصلة على صفة استشاري يمكنها أن تقدم بيانات مكتوبة لأي جلسة عادية أو خاصة للمجلس، ويمكنها القيام بمداخلات خلال أعمال المجلس ومناقشاته. تلعب المنظمات الحكومية لذلك دورًا مهمًا خلال المراجعة الدورية الشاملة لالتزامات أي دولة، ففي هذه المراجعة تقدم حكومة الدولة تقريرها حول ما قامت به من جهود سواء لدفع الالتزام بحقوق الإنسان فيها أو لمعالجة الملاحظات التي وجهت إليها في المراجعة السابقة، ويمكن للمنظمات غير الحكومية أن تقدم تقارير مقابلة تؤكد أو تنفي مزاعم الحكومة المعنية.
ليست منظومة حقوق الإنسان الدولية مثالية بالطبع، ربما أهم نواقصها أنها تعمل بالأساس من خلال حكومات الدول في منتدى دولي سياسي مما يسمح طيلة الوقت بأن تأتي المصالح المتبادلة بين حكومات الدول قبل مصالح شعوبها المتمثلة في التعامل الجاد مع ما تتعرض له من انتهاكات لحقوقها. ولكن حقيقة أن الدول المختلفة تنخرط في هذه المنظومة بشكل رسمي وملزم لها قانونا، لها أيضا أهمية كبيرة. فبغض النظر عما قد تستخدمه حكومة أي دولة في خطابها السياسي الموجه إلى الداخل عادة من ادعاء أن التعليقات الموجهة إليها من الدول الأخرى بخصوص انتهاكات حقوق الإنسان فيها يعد تدخلا في شؤونها الداخلية، فالحقيقة التي تعلمها تماما أن هذا غير صحيح وإنما يتم وفق القانون الدولي والاتفاقيات التي وقعت وصدقت عليها وأصبحت ضمن قوانينها الملزمة لها.
ليست حقوق الإنسان رفاهية لا يحق إلا لمواطني الدول الأكثر ثراءً وتقدما التمتع بها، في الواقع الاهتمام بحقوق الإنسان ضروري أكثر لمواطني الدول الأفقر والأقل حظا والتي تفتقد إلى مؤسسات ديموقراطية مستقلة تعبر بقدر أو بآخر عن إرادة شعوبها. وليست حقوق الإنسان ابتداعا غربيا في سياق ثقافي غريب، فهي في صورتها الحالية ليست إلا تنظيما منهجيا لقواعد طورها البشر في ثقافاتهم المختلفة عبر آلاف السنين. وفي النهاية لا تعمل منظمات حقوق الإنسان، ولا المدافعين عن حقوق الإنسان من أفراد أو جماعات خارج المشروعية القانونية، بما في ذلك عندما تقدم تقاريرها من خلال الآليات الدولية، فهي فقط تؤدي دورها وفق اتفاقيات صدقت الدولة عليها وأصبحت قوانين معمولا بها داخلها. هذه النقاط الأساسية هي حقائق ينبغي تذكرها لأنها تمثل أرضية أي نقاش موضوعي حول مستقبل حقوق الإنسان في مصر وما يمثله من تحد للدولة وللحركة الحقوقية وللمجتمع ككل.