تبعث قضية التواجد العسكري التركي، في ليبيا، بتوترات عنيفة، خاصة وأنها بمخالفتها لمقررات مؤتمر برلين الثاني، مؤخراً، تمثل لغماً في المسار السياسي الذي يهدف إلى توحيد القوى والمؤسسات الأمنية والعسكرية، وكذا إجراء انتخابات، نهاية العام الحالي، باعتبارهما أولوية قصوى لتحقيق الاستقرار والسيادة.
وتصر أنقرة على بقاء قواتها بينما ترفض تصنيفهم ضمن “المرتزقة” المسلحين أو تسميتهم “قوى غير شرعية”، بالرغم من تصاعد المطالبات الأممية بسحب كافة القوات الأجنبية، ومن بينها قرارت مجلس الأمن الدولي، والدعوات الأمريكية والأوروبية. فضلًا عن مخرجات مؤتمر برلين الأول والثاني.
غير أن المواقف الرسمية التركية تتجه نحو تأزيم الوضع الميداني، أو بالأحرى عدم حلحلة الأمر الواقع، لما تمثله الدولة الواقعة في شمال أفريقيا من أهمية جيوسياسية. فهي منصة حيوية للصعود نحو أفريقيا، وممر يتاخم الشواطئ الأوروبية.
البند 53 من البيان الختامي من مؤتمر برلين 2
نهاية الأسبوع الماضي، انعقد مؤتمر برلين 2 في ألمانيا، لمناقشة الأوضاع في ليبيا، برعاية الأمم المتحدة. وشدد البيان الختامي الذي تضمن 57 بندًا على “ضرورة خروج المرتزقة والقوات الأجنبية من ليبيا. كذلك التزام السلطات الليبية حسب الاقتضاء في تطوير نهج شامل لمعالجة الهجرة، وإغلاق مراكز الاحتجاز”.
وذكر البند 53 في البيان الختامي الصادر عن المؤتمر، ويتصل بـ”المهاجرين” المتواجدين في ليبيا، وغالبيتهم “غير شرعيين”: “ندعو السلطات الليبية المؤقتة. إلى تسهيل الدعم الإنساني ورحلات الإجلاء الإنساني والمغادرة على أساس طوعي دون انقطاع”. كما لفت إلى أن “كل القوات الأجنبية والمرتزقة يجب أن ينسحبوا من ليبيا بدون تأخير”. كما طالب وزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلنكن، بانسحاب القوات الأجنبية من ليبيا. غير أن البيان الختامي كشف “تحفظ” أنقرة، بخصوص النقطة الأخيرة، دون دون ذكر أي تفاصيل أخرى.
وعليه، اعتبرت مندوبة الولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة، ليندا توماس جرينفيلد، أن مغادرة القوات الأجنبية والمرتزقة ليبيا، بمثابة “أولوية” لجهة الانتهاء من الأزمة الليبية. كما قالت وزيرة الخارجية الليبية نجلاء المنقوش: “نريد فتح الطريق نحو انتخابات حرة ونزيهة في ليبيا”. وأضافت أن “الاستقرار أمر مهم من أجل إجراء الانتخابات في ديسمبر”.
“أطراف تعيق عملية السلام في ليبيا”
وخلال لقاء وزير الخارجية الأمريكي برئيس حكومة الوحدة الوطنية الليبية عبدالحميد الدبيبة أكد الأخير أهمية وضرورة خروج كل القوات غير الشرعية والمرتزقة المسلحين من ليبيا. وغرد على صفحته الرسمية بموقع التواصل الاحتماعي بـ”تويتر”: “نشكر الولايات المتحدة على الدعم من أجل الترتيب للانتخابات في بلدنا. وهي أكدت الضرورة الملحة لمغادرة جميع المرتزقة الأجانب لضمان السيادة الوطنية على كامل التراب الليبي”.
وأردف الدبيبة: “ناقشنا آليات العمل من أجل استعادة الاستقرار وإعادة البناء، وكذلك الخطوات اللازمة لتعزيز المصالحة الوطنية”.
إذًا ما حدث في برلين 2 “فضح وبشكل واضح الأطراف التي تعيق عملية السلام في ليبيا”، حسبما يشير عبدالكريم العرفي، الناطق الرسمي باسم المجلس الأعلى لمشايخ وأعيان ليبيا. إذ أوضح في حديثه لـ”مصر 360” أنه “ظهر دون تورية أن تركيا تمارس عملية احتلال حقيقي للأراضي الليبية. متحدية المجتمع الدولي الذي اتفق بإجماعه على خروج كل المرتزقة والقوات الأجنبية من ليبيا. لتعارض تركيا المادة الخامسة من المقررات. والتي تنص على هذا الخروج والانسحاب من كافة الـراضي الليبية”.
وهذا السلوك التركي، بحسب العرفي، يؤكد “حقيقة دامغة أن القوات المسلحة العربية الليبية والدول الداعمة لها التي أكدت خروج المرتزقة من خلال بيان القوات المسلحة وموقف جمهورية مصر العربية تتحرى بناء الدولة ودعم مؤسساتها. بينما تستجلب الأطراف التي تحتفظ بالمرتزقة الدولة الرافضة لهذا المآل السياسي واستقرار الأوضاع”.
ومن ناحيتها، أشارت وكيلة الأمم المتحدة للشؤون السياسية، روز ماري دي كارلو، إلى “ضرورة خروج المرتزقة والقوات الأجنبية من ليبيا”.
مخرجات مؤتمر برلين “تفاهم مهم”
وعقّب المتحدث باسم الخارجية التركية، تانجو بيلجيتش، على مخرجات مؤتمر برلين، بأنه رغم التوصل إلى “تفاهم مهم” في المفاوضات بمؤتمر برلين الثاني. لكن “أعربنا عن تحفظنا على بعض البنود التي تتعارض مع الحقائق على الأرض”. كذلك تابع: “أكدنا أننا لن نسمح بالتساؤل حول مدربينا ومستشارينا في ليبيا في منابر إقليمية ودولية. وأن تتم مساواتهم مع مرتزقة غير شرعيين، ولذلك وضعنا تحفظنا على بند من البيان”.
كما عرج المتحدث باسم الخارجية التركية على الخلافات القائمة بين تركيا واليونان. إذ قال إن “أنقرة لا تزال ملتزمة باتفاقية أثينا (الخاصة بحظر التدريبات العسكرية في بحر إيجة خلال الموسم السياحي). لكنها لن تبقى مكتوفة الأيدي أمام مخالفة هذه الاتفاقية من قبل اليونان بشكل صارخ”.
وبحسب الناطق الرسمي باسم المجلس الأعلى لمشايخ وأعيان ليبيا “وصلت تركيا في تحديها السافر إلى عدم الاكتراث بمطالبات وزيرة الخارجية الليبية بضرورة الخروج. كما أن معارضة تركيا لبعض مقررات المؤتمر الذي أكد ضرورة إجراء الانتخابات في موعدها إنما هو دليل على أن حلفاء تركيا في الداخل الليبي، وهم جماعة الإخوان، فقدوا حاضنتهم الشعبية. كما تأكد سقوطهم الحتمي في أول انتخابات. ما يدفعهم إلى عرقلة إجرائها، وهو ما أشارت إليه قياداتهم، من خلال تصريحات واضحة، تعلن عدم اعترافهم بها في حال نجاح بعض الشخصيات المعارضة للإخوان”.
الشعب الليبي يحسم موقفه
ويردف: “رغم كل الوسائل التي تستخدمها تركيا من أجل الإبقاء على احتلالها، ودعم حلفائها، إلا أن الشعب الليبي حسم موقفه من خلال قيادات القبائل ومؤسسات المجتمع المدني. بضرورة إزاحة هذه الحركة الإرهابية من المشهد هي وما جلبته من مستعمر ومرتزقة”.
يتفق والرأي ذاته، الدكتور عبدالمنعم اليسير، رئيس الأمن القومي الليبي وعضو المؤتمر الوطني العام المنتهية ولايته. إذ قال إن تركيا من الواضح أنها تسعى إلى ترسيخ تواجدها في ليبيا باعتباره أمرًا واقعًا. كما أن هذا التواجد الميداني والعسكري له أبعاد استراتيجية، تتمثل في مساعدة حكومة الوفاق وجماعة الإخوان على تحقيق أغراضها السياسية. كذلك أضاف لـ”مصر 360″: “وتبعًا لذلك، لن تخرج تركيا من ليبيا إلا بالقوة أو عندما تنهزم أمام تحالف سياسي يرغب في نبذها، أو من خلال محاصرتها”.
وبحسب رئيس الأمن القومي الليبي وعضو المؤتمر الوطني الليبي المنتهية ولايته، فإن تركيا تجهز نفسها لمواجهة مع الاتحاد الأوروبي وأمريكا. إذ أنها تريد تغيير الواقع الذي فرض عليها بعد الحرب العالمية الأولى وأفقدها السيادة على الجزر اليونانية. والتي لم تكن في أي وقت من الأوقات تركية، ومن ثم فإن ليبيا “ورقة ضغط ونقطة انطلاق” لأنقرة لجهة فرض هيمنتها وتمددها في المنطقة وأفريقيا. وتابع: “الوضع معقد في ليبيا. إذ أن ما يحدث حاليًا هو إدارة صراع ومفاوضات وصفقات مصالح بين الدول الغربية وتركيا. وهم يحاولون انتزاع مزايا من الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في أماكن أخرى مقابل إطلاق يده في ليبيا بلا مضايقات”.
كما أن تركيا تتعاطى مع القضية الليبية باعتبارها “كعكة ينبغي ابتلاعها بأكملها”. كما أردف: “لا ينبغي التعويل على الآمال التي يعلقها البعض على مؤتمر “برلين 2″ ومخرجاته التي لن تختلف عن غيره. ونحن بصدد إدارة صراع بين القوى العالمية والأدوار الوظيفية التي تقوم بها أطراف إقليمية ومحلية مثل أنقرة، وأذرعها من الميلشيات التي تعمل في الداخل الليبي”.