مع الإعلان عن قيام سد كبير في جنوب السودان، حبس المصريون أنفاسهم، ولم يلتقطوها من جديد إلا مع تصريحات لوزارة الري المصرية بأنَّ سد جنوب السودان تساهم فيه مصر. فما قصة العلاقات المصرية الجنوب سودانية؟ وما طبيعة تحدياتها؟ في ضوء أنَّ لجنوب السودان حدودًا مباشرة مع إثيوبيا، وأنَّها تتمهل غالبًا في مشروعات تقترحها القاهرة لزيادة الموارد المائية لنهر النيل في منطقة جونقلي وغيرها، وأخيرًا: هل من أفق لتطوير هذه العلاقات، على نحو يخفف الضغوط الإثيوبية على جوبا، وتستطيع أن تلتحق بمشروع كبير لتطوير وادي النيل كله، تقدم فيه مصر الكثير من جهودها وإمكانياتها في هذه المرحلة؟
في البداية، ربما يكون من المهم الإشارة إلى أنَّ لمصر علاقات بشعب جنوب السودان سابقة على استقلال الدولة عام 2011، وممتدة على مدى عقود، حيث كانت مصر دائمًا ولا تزال على أن يحصل الجنوب سودانيون على منح دراسية لمصر بنسب مقدرة من مجمل منحها الدراسية للسودان الكبير، وذلك إلى حد أن حكومة الاستقلال الأولى كان بها عدد مقدر من حملة شهادات الجامعات المصرية، كما قامت مصر ببناء مدارس على نفقتها في جنوب السودان حتى قبل استقلال السودان الكبير عام 1956، كما تقوم حاليًا بكثير من عمليات الدعم التنموي لجنوب السودان في مجالات الصحة والكهرباء والري، وأخيرًا بناء السدود الصغيرة، وربما يكون السؤال المطروح هنا: هل ساهم هذا المجهود في بناء علاقات جيدة يمكن الاطمئنان لاستقرارها؟
في المقابل، يبدو لنا أن الإرادة السياسية الجنوب سودانية مضغوطة بعدد من المحددات الأولى هي الجوار المباشر مع إثيوبيا، وطبيعة الفروقات في القدرات العسكرية، وإمكانية دعم الخارجين عن الحكومة الجنوب سودانية، وذلك في دور تاريخي تلعبه إثيوبيا بجنوب السودان، وذلك فضلاً عن فاعلية كبيرة في قوات حفظ السلام بمنطقة القرن الأفريقي والمناطق المتاخمة له، وذلك إلى حد احتكارها هذه العملية بـ4500 ألف عنصر إثيوبي في منطقة أبيي التي هي منطقة خلاف حدودي بين جنوب السودان والسودان.
في هذا السياق، تقوم أديس أبابا بترصد تحركات مصر الدبلوماسية في كل منطقة القرن الإفريقي، مستندة في ذلك إلى معطيات عرقية وإثنية تقسم إفريقيا إلى شمال وجنوب متماهية مع الأدبيات السياسية والعملياتية الغربية التي وضعت الصحراء الكبرى خطًا لتقسيم القارة عرقيًا بهدف استحلاب مواردها. وقد يجد هذا الطرح الإثيوبي ترحيبًا جنوب سوداني ولو نسبيًا، وذلك نتيجة الحرب الأهلية السودانية الطويلة التي جعلت العنصرين العربي والزنجي في السودان يتقاتلان.
وفي حقيقة الأمر تواجه مصر عددًا من المآزق الحرجة في تقدير مواقفها الاستراتيجية، في بيئة متحركة يكثر فيها اللاعبون المتنافسون على المستويين الدولي والإقليمي، حيث نرصد تجليات هذا المأزق في عدد من العناصر نجملها في التالي:
1- ظهور مهددات استراتيجية للأمن القومي المصري بكافة عناصره، ذلك أن الاحتمالات المفتوحة على بيئة محيطة بمصر تحمل عناصر عدم الاستقرار، وربما مهددات استراتيجية بما تنطوي عليه من نشوء صراعات مسلحة جزئية أو شاملة في دولتي السودان الكبير وربما تنشيط عناصر الإسلام السياسي المتطرفة في السودان، خصوصا مع التعثر النسبي للحكومة الانتقالية في دولة السودان، على مستويين، الأول اقتصادي والثاني تباطيء تنفيذ سلام دارفور وتعثر عقد اتفاق سلام مع جبال النوبة بقيادة عبد العزيز الحلو.
2- حرمان مصر من تنمية وتطوير حصتها من مياه النيل في ضوء حالة الفقر المائي التي وصلت إليها، فعلى الرغم من أن موارد مصر من مياه النيل المتدفق من جنوب السودان لا يتجاوز 15%، إلا أن عدم استقرار الجنوب أو وجود نفوذ لاعبين إقليميين منافسين لمصر يعني حرمان مصر من استمرار العمل في عدد من المشروعات المائية المرتبطة بتطوير حصتها من مياه النيل، مثل مشروع قناة جونقلى الذي من المتوقع أن تبلغ العوائد المصرية منه في حال تنفيذه حوالي 7 مليارات متر مكعب من المياه.
وفى هذا السياق، هناك تنافس بين كل من مصر وإثيوبيا على دولة الجنوب، في ضوء رغبة إثيوبيا أن تنضم السودان إلى مطالب دول منابع النيل ضد كل من مصر وشمال السودان في أي مفاوضات مستقبلية بشأن مشروعات زيادة موارد النهر القابلة للاستخدام، أو تدشين إطار قانوني جديد بشأن تقسيم حصص المياه، وكذلك الرغبة في ضمان موقف مساند لإثيوبيا في أزمة سد النهضة.
3- الضغوط المرتبطة بتدفق اللاجئين السودانيين من شمال وجنوب السودان الاقتصادية، بما يخلقه ذلك من تصاعد الطلب في مصر على المساكن والسلع الغذائية، وتصاعد الضغوط على البنى التحتية.
وطبقًا لهذه المعطيات يبدو الموقف المصري في سعيه لضمان استقرار مؤسسة الدولة في دولتي السودان من ناحية، وضمان المصالح المصرية فيها من ناحية أخرى، أمام توازنات حرجة، ففي الجنوب توجد ضرورة لضمان موقف دولة جنوب السودان مساندًا لمصر ضد المحاولات الإثيوبية لإعادة تقسيم الموارد المائية لنهر النيل حاليا، والتي يهمل الإثيوبيون فيها إمكانية تنمية هذه الموارد مستقبليًا، وكذلك تأمين تدفق المياه.
وقد تبلور الموقف الاستراتيجي المصري في عدد من النقاط هي:
- الدعم التنموي لجنوب السودان في جميع المجالات إلى حد تقديم دراسات جدوى لإنشاء سدود صغيرة لتوافر قدرات طاقوية لجوبا.
- الحرص على تأكيد ودعم العلاقات التعاونية لا الصراعية بين شمال وجنوب السودان، بما يعني ضمان الاستقرار في كل السودان التاريخي، بما له تأثير على الأمن الإقليمي والمصالح المصرية، وأيضًا فتح فرص لمجالات التعاون التنموي مع كلا الدولتين، حيث تسعي القاهرة لحالة من التوازن الدقيق في العلاقات مع كلا الدولتين، والسعي إلى إبراز القيمة الاستراتيجية لدولتي السودان لبعضهما البعض. في هذا السياق تمت بلورة ورش عمل بالقاهرة في شهري أبريل وأغسطس عام 2010 تسعى لمصلحة سودانية أساسية، وهي إبراز الاستقرار وتنمية التعاون بين دولتي السودان خصوصاً أن مناطق التماس الحدودي التى اندلعت بسببها الحرب بينهما تنطوي في حالة التعاون على منافع مؤكدة للطرفين، كما تنطوي في حالة الصراع على تكاليف باهظة، حيث يعيش في مناطق التماس حوالي 8 ملايين نسمة، كما أنها تحوز على المناطق الأساسية لإنتاج النفط، فضلاً عن الإمكانيات الزراعية والرعوية، حيث تم تبني هذا التوجه في استراتيجية تنموية يطرحها رئيس الوزراء السوداني عبدلله حمدوك تحت عنوان تنمية مناطق التماس مع جنوب السودان.
- ممارسة تضاغط سياسي مع إثيوبيا التي قاومت وجود مصري في قوات حفظ السلام بجنوب السودان، وذلك خلال عامي 2013-2014، ولكن في الأخير نجحت مصر في تحقيق أهدافها، وذلك في إطار قرار الأمم المتحدة في مايو 2013 بزيادة قوات حفظ السلام بجنوب السودان إلى 5300 عنصر.
- التواصل مع طرفي الصراع الرئيس سلفا كير ونائبه رياك مشار وقت الحرب بينهما، واهتمت بطرح الموضوع على مجلس السلم والأمن الإفريقي كما التقى الرئيس السيسي بالطرفين لدعم عملية السلام بينهما بعد اندلاع صراعات عسكرية أخذت طابعا قبليًا عنيفًا في يناير 2013، وانتهت بتوقيع اتفاق للسلام عام 2017، فدعمت القاهرة أن تكون محطات توقيعه الأساسية بالخرطوم، كما استمرت مصر في متابعة سير هذه الاتفاقية في الاتحاد الإفريقي عبر ممثلها في الاتحاد، سفيرها في إثيوبيا، مطالبة المجتمع الدولي بالوفاء بتعداته المالية في رعاية الاتفاقية ومتابعة لحالة تنفيذ الاتفاقية وعلى صعيد موازٍ بذلت القاهرة مجهودا كبيرا بشأن مقاومة رعاية إثيوبيا لاتفاق السلام السوداني، ودعمت جوبا في أن تكون هي عاصمة رعاية اتفاق السلام بين الحكومة السودانية والجبهة الثورية السودانية.
إجمالا يبدو المجهود المصري إزاء جنوب السودان واضحًا، ومن الممكن تطويره على المستوى التنموي خصوصًا في قطاعات البنية التحتية في مجال الطرق والتي من الممكن أن تحسن البيئة الاقتصادية في جنوب السودان، وهي الدولة الحبيسة، وفي المقابل لا تزال جنوب السودان مترددة في حسم خياراتها بين اتجاهين، الأول لدولة تنتهج الصراع كآلية لتحقيق مصالحها (إثيوبيا) ودولة أخرى تدعم التقدم التنموي لتحقيق مصالحها (مصر)، فأيُّ خيار استراتيجي تقوم به جنوب السودان؟