ما زال البحث متعلقًا بهذه الفرضية الإجرائية: هناك عازف عود متجوِّل اصطدم بواقع أنّ المادة الأولى من قانون رقم 430 لسنة 1955، تضعه في مواجهة مباشرة مع مصالح الدولة العليا؛ فنصها كالتالي: “تخضع لرقابة المصنفات السمعية والسمعية البصرية، سواء كان أداؤها مباشراً، أو كانت مثبتة، أو مسجلة على أشرطة، أو أسطوانات، أو أي وسيلة من وسائل التقنية الأخرى، وذلك بقصد حماية النظام العام والآداب ومصالح الدولة العليا”، وللتذكير- مرة ثالثة- فالتطرق للمصالح العليا للدولة متعلق فقط، بالمصنفات الفنية، وبالتحديد القطعي، فإننا لن نقارب تلك المصالح إلا فيما يتعلق بالنصوص الدستورية والقوانين التي تنظم عملية إنتاج وعرض المصنفات السمعية والسمعية البصرية، لكن الضرورة تحتم اطلاع العازف على التصور العام لهذا المفهوم النظري، وكيفية عمله في الواقع المصري يوم صدور القانون.
يجب التنبيه أولاً بأن هناك تعبيرات رديفة لـ”مصالح الدولة العليا”، منها: “المصلحة الوطنية”، و”المصلحة القومية”، والتعبيرات الثلاثة تستخدم للدلالة على مفهوم واحد في العلوم السياسية والعلاقات الدولية
يجب التنبيه أولاً بأن هناك تعبيرات رديفة لـ”مصالح الدولة العليا”، منها: “المصلحة الوطنية”، و”المصلحة القومية”، والتعبيرات الثلاثة تستخدم للدلالة على مفهوم واحد في العلوم السياسية والعلاقات الدولية، ثم يجب التنبيه ثانيًا، على أن التعبيرات الثلاثة متعلقة بالمجال الخارجي الذي يجب وضع حدود واضحة بينه وبين المجال الداخلي، فما يتعلق بالدولة في نطاق سيادتها يتصل بتقدير المصلحة العامة التي تتمايز بشكل قاطع عن التعبيرات الثلاثة.
وهناك- بالطبع- عدة مدارس لتبيان وتوضيح ذلك المفهوم، كما تتضمن الممارسات أوجهًا شديدة التناقض، فالمدرسة الواقعية في العلاقات الدولية، تعتبر أن تلك المصالح تتلخص في أهداف الدولة وطموحاتها، سواء كانت اقتصادية أو عسكرية أو ثقافية، وهي تعني بالأساس بقاء الدولة وأمنها الذي يرتكز على مختلف عناصر القوة، ثم السعي وراء الثروة والنمو الاقتصادي، وكذلك المحافظة على الثقافة الوطنية.
وبتعبير شامل مكثف تمثل المصالح العليا للدولة: الحاجات والرغبات التي تدركها دولة ذات سيادة، وعلاقة ذلك بدول أخرى ذات سيادة، تشكل المجال الخارجي لهذه الدولة، وأهم عنصر في هذه الصياغة هو: التحديد الواقعي لحاجات الدولة.
وبطريقة منهجية تقسم مصالح الدولة العليا لأربعة أقسام: متعلق أولها بالدفاع عن الدولة ومواطنيها من أي تهديد بالعنف المادي بواسطة دولة أخرى، أو مجموعة دول، والحماية من أي تهديد خارجي محتمل، مباشر أو غير مباشر، وثانيها متصل بتعظيم الرفاهية الاقتصادية، وثالثها متعلق بالحفاظ على نظام دولي سياسي واقتصادي، ترى الدولة أن البقاء في إطاره يحقق لها الأمن والرفاهية، وأخيرًا يأتي القسم المرتبط بحماية وتدعيم مجموعة من القيم، التي يشترك فيها مواطنو الدولة ويعتقدون في صلاحيتها- ليس فقط لهم- بل لباقي دول العالم. ومفهوم بالقطع أنه ما لم تتحقق المصلحة الدفاعية، فلن يصبح لأي من المصالح الثلاث أي أهمية.
هذه هي المصالح العليا الأربع الأساسية، وهي عناصر ديناميكية- أي تتفاعل وتتأثر كل واحدة منها بالثلاثة الأخرى وتؤثر فيها-، وهي التي تحدد سلوك الدول.
إدراك المصالح العليا للدولة يرتكز على عامل الاستمرار في السياسات الخارجية للدول رغم التبدل الذي يصيب الزعامات السياسية، أو التحول الذي قد يحدث في نمط الأيديولوجية المسيطرة
تتبقى ثلاث ملاحظات تبرزها المدرسة الواقعية: أولهما، أن ترتيب هذه الأقسام/ العناصر/ المصالح ليس حديًا، على الرغم من أنه ظاهر تراتبية أهمية كل منها وفق هذا المعيار: بقاء، حيوية، رئيسية، هامشية، فقد تحدث تغيرات في درجة الأسبقية فيما بينها، وغالبًا ما تقاس تلك التغييرات بالسنين، وعشرات السنين، وليس على فترات زمنية قصير. ثانيهما أن إدراك المصالح العليا للدولة يرتكز على عامل الاستمرار في السياسات الخارجية للدول رغم التبدل الذي يصيب الزعامات السياسية، أو التحول الذي قد يحدث في نمط الأيديولوجية المسيطرة أو في نماذج القيم السياسية والاجتماعية السائدة. وثالثهما، أن الدول تتفاوت في إمكانياتها ومقومات الحفاظ على مصالحها العليا، وقد تمس الحاجة إلى إقامة تحالفات مع دول أخرى لتحقيق ذلك.
هذا العرض المكثف لمفهوم مصالح الدولة العليا لا بد له من أمثلة على الصعوبة الشديدة التي تكتنف محاولات تحديده بصرامة. فمثلاً كان الرأي العام والطبقة السياسية الفرنسية تعلن دعمًا صارخًا لسياسة بلدها تجاه الجزائر، فيما عرف بحرب الجزائر (تعرف في التاريخ الجزائري بثورة التحرير الجزائرية، وانطلقت شرارتها في نوفمبر عام 1954، وانتهت بإعلان استقلال الجزائر في مارس 1962)، كانت غالبية الفرنسيين ترى أن الجزائر جزء من فرنسا، ولا يجب التخلي عنه، لكن عددًا محدودًا للغاية من المثقفين والفنانين والسياسيين الفرنسيين عارضوا ذلك، ونددوا- بداية- بانتهاكات الدولة للقانون، انتهاكات صعبة التصديق ارتُكبت آنذاك باسم داعي المصلحة العليا للدولة، ووصفوا ما تقوم به القوات الفرنسية تجاه المناضلين الجزائريين المطالبين بالاستقلال والحرية بأنه عار على الجمهورية والقيم الفرنسية، وأعلنوا أن إخلاصهم لقيم الحرية وحقوق الإنسان يعلو على المصلحة العليا للدولة، وأن الاستمرار في التستر على ذلك العار، ومطاردة المثقفين الشجعان الذين نددوا بوحشية القوات الفرنسية، ما هو إلا حط من القيم الفرنسية: الحرية والإخاء والمساواة، التي تأتي على رأس المصالح العليا التي يجب على الدولة الفرنسية حمايتها.
إضافة “حماية المصلحة العليا للدولة” لمهام جهاز الرقابة على المصنفات الفنية (النظام والآداب العامة)، وهو مثال دال على الصعوبة، الشديدة أحيانًا، في تحديد ماهية المصلحة العليا للدولة
هذا مثال متزامن مع صدور قرار إضافة “حماية المصلحة العليا للدولة” لمهام جهاز الرقابة على المصنفات الفنية (النظام والآداب العامة)، وهو مثال دال على الصعوبة، الشديدة أحيانًا، في تحديد ماهية المصلحة العليا للدولة. والتذكير بقضية أخرى من التاريخ الفرنسي سيكون مفيدا، فخلال اثني عشر عاما (1894- 1906) قسمت قضية الضابط دريفوس المجتمع الفرنسي قسمين يتصارعان حول ما هي “مصالح الوطن العليا”، وفي النهاية تكللت جهود الأديب أميل زولا، التي بدأها بمقاله الشهير “إني أتهم”، وأصبح إصلاح النظام القضائي وحماية حرية الرأي العام والصحافة على رأس مصالح الدولة العليا.
هناك بالقطع العديد من الأمثلة- والأمثلة قد تكون الأسلوب الأمثل لتقريب المسألة لذهن عازف العود المتجول-، يكفي منها هنا مثالان صارخان ومتناقضان: أولهما موقف لينين من الحرب (العالمية الأولى) فقد رفضها بصورة مطلقة، وبالغ في التعبير عن رفضه بمقولته الشهيرة “نعم نحن نريد هزيمة روسيا؛ لأن ذلك سيسهل انتصار روسيا وسيحررها، ويخلصها من قيود النظام القيصري”، الموقف الثاني يتمثل في سجود الشعراوي شكرًا لربه على هزيمة مصر (النكسة) في عام 1967، وقد كرر- مرارا- شرح داعي ذلك الموقف: “فرحت أننا لم ننتصر، ونحن في أحضان الشيوعية، لأننا لو نُصرنا ونحن في أحضان الشيوعية، لأُصبنا بفتنة في ديننا، فربنا نزهنا”.
هل هذا العرض، شديد الاختزال، لمفهوم مصالح الدولة العليا، يزيد من ارتباك عازف العود المتجول، بدلاً عن أن يعينه على كيفية تلمس ذلك المفهوم حتى لا يقع في حبائل القانون؟. الواقع أن أي فنان، مهما كانت ثقافته، كان لابد سيصيبه الارتباك وهو يعلم بدخول “مصالح الدولة العليا” على عمق عمله، أو بتعبير مباشر “أكل عيشه”، ذلك أن النظام السياسي كان في سبيله لإجراء متغييرات هائلة ومتسارعة، وأحيانا متضاربة بصورة واضحة، فها هو (الفنان) في مطلع سبتمبر 1955 عليه أن ينظر إلى “الأهم” في مصالح الدولة: سبل حماية مواطنيها من أي تهديد خارجي محتمل مباشر أو غير مباشر، فما هي تلك التهديدات، هل هي جلية واضحة مستمرة، أم ضبابية مستجدة؟، وعليه بالأخص أن يتبين اتجاهات الدولة نحو إقامة أو رفض إقامة تحالفات تعينها على أداء مهامها، ونتيجة ضرورة انشغاله بكل ذلك، عليه تتبع مسار المستجدات ومراجعة ما يبدو مستقرًا.
في الواقع، ألزم القانون الفنان بأن يدس أنفه، مجبرا وليس مختارا، في سياسات الدولة (العليا) منذ خريف 1955.
كانت هناك مسائل واضحة: مصر عضو في جامعة الدول العربية، وموقعة على “معاهدة الدفاع المشترك والتعاون الاقتصادي بين الدول العربية” (1950)، التي تنص في مادتها الثانية على أن “كل اعتداء مسلح يقع على أي دولة أو أكثر منها، أو على قواتها، اعتداء عليها جميعا؛ ولذلك فإنها عملا بحق الدفاع الشرعي- الفردي والجماعي- عن كيانها تلتزم بأن تبادر إلى معونة الدولة أو الدول المعتدى عليها، وبأن تتخذ على الفور- منفردة ومجتمعة- جميع التدابير، وتستخدم جميع ما لديها من وسائل، بما في ذلك استخدام القوة المسلحة لرد الاعتداء، ولإعادة الأمن والسلام إلى نصابها”.
ولكن ربيع عام 1955 حمل جديدًا، فشهد شهر أبريل أحداثًا بدت هائلة التأثير، في بدايته ظهر حلف بغداد (الحلف المركزي SENTO )، وكانت الفكرة المركزية فيه، كما روج لها رئيس الوزراء العراقي وقتها نوري السعيد، هي ربط ميثاق الضمان الجماعي العربي (معاهدة الدفاع المشترك) ربطًا وثيقًا بالدول الغربية؛ وذلك لمناهضة الدعاية الشيوعية ومواجهة خطرها، وفي نهاية أبريل شارك الرئيس جمال عبد الناصر في مؤتمر باندونج (مدينة اندونيسية) الذي كان النواة الأولى لحركة عدم الانحياز.
ما جرى في ذلك الربيع كان حسمًا لجهود أمريكية بدأت عام 1953 مع زيارة دالاس، وزير الخارجية الأمريكي، لعدد من دول الشرق الأوسط، حاملاً مشروع إنشاء حلف عسكري يضم الدول العربية إلى جانب تركيا وباكستان وإيران لإكمال حلقة الحصار حول الاتحاد السوفيتي، وفي القاهرة لم يجد دالاس من عبد الناصر آذانًا صاغية لذلك المشروع.
لابد، الآن، أن يكون عازف العود المتجول مذهولاً من أثر تلك الكلمات الثلاثة: مصالح الدولة العليا، فقدت قذفت به، ضد إرادته دون أدنى شك، إلى مجاهيل لا حصر لها، وتقلبات متسارعة
وفي ذلك الربيع ظهر بجلاء ما قد يبدو كأنها قاعدة حاكمة في علاقات الدول العربية، فبينما كانت العلاقات بين القاهرة وبغداد في أقصى درجات التناقض تجاه المسائل المتعلقة بكيفية المواجهة الجماعية (عربيا) لما يمكن أن يكون “تهديدًا محتملاً؛ مباشر أو غير مباشر، فإنّ علاقة القاهرة والرياض كانت على وفاق تام، وبتتبع محطات رئاسية في علاقات البلدان الثلاثة منذ عام 1926، حين أُعلن عن تنصيب عبد العزيز آل سعود ملكا على الحجاز، يمكننا أن نستنتج أن مثلث: القاهرة، الرياض، بغداد، لا يلتأم أبدا، فالوفاق بين عاصمتين من الثلاثة تعني خلافهما مع الثالثة.
لابد، الآن، أن يكون عازف العود المتجول مذهولاً من أثر تلك الكلمات الثلاثة: مصالح الدولة العليا، فقدت قذفت به، ضد إرادته دون أدنى شك، إلى مجاهيل لا حصر لها، وتقلبات متسارعة، وظهر له بجلاء أن بحثه المشروعة عن وسيلة كي لا يقع في المحظور بعزفه وغنائه ما قد تفسره الدولة بأنه يعرض مصالحها العليا للخطر، بحث شائك للغاية، لكنه مضطر، فالأمر متعلق بالأساس بأكل العيش، ولذلك سيواصل البحث.
لمطالعة الجزءين السابقين