كغيره من العديد من الأطباء، ينتوى محمد عباس، الطالب بالفرقة الرابعة بكلية الطب، السفر خارج البلاد عقب تخرجه. والبحث عن ما وصفه بمدينة تستقبله بأجر عادل ومعاملة حسنة.
خطة عباس بعد التخرج، ليست وليدة أفكاره، لكنها خطة لجأ إليها كثيرون من زملائه بسبب الصعوبات والمشكلات التي تدفع الأطباء لهجرة وطنهم. هربا من تدني الأجور، أو الاعتداءات المتكررة عليهم دون قانون يحميهم.
القطاع الطبي، فقد ما يقرب من 500 طبيبا منذ بداية جائحة كورونا. تلك الجائحة التي كشفت عن ما يصفه أطباء ومهتمون بملف الصحة، بالعوار في المنظومة.
عضو مجلس النواب، الدكتور فريدي البياضي، قال في الندوة التي نظمتها المبادرة المصرية للحقوق الشخصية تحت عنوان “قبل كورونا وبعدها- محنة الأطباء المصريين”، إن الجائحة كشفت عيوب كانت موجودة بالفعل، وسلطت الضوء على عيوب المنظومة الصحية.
يصف البياضي خلال الندوة التي عقدتها المبادرة المصرية للحقوق الشخصية. أن أزمة القطاع الصحي تبدأ من التعليم وطريقة اختيار من يدخل كلية الطب والتمريض والتعليم الطبي بشكل عام. وأن طريقة التعليم نفسها في كليات الطب تفتقد لفكرة التعليم المستمر.
وأضاف: البلاد التي تبحث عن تعليم جيد، تخصص ميزانيات جيدة لذلك وتوفر الدورات والتدريبات.
وتابع: لتأتي عقب ذلك محنة الدخل المادي للأطقم الطبية. فهناك فئات لها ميزات استثنائية مثل القضاء أو الجيش والشرطة لأنهم يتعاملون مع قضايا حساسة. ولكن الأطباء وهم من يتعاملون مع حياة ومصائر الإنسان يحتاجون أيضا لدخل يساعد في توفير حياة كريمة.
الموازنة والدستور
يتابع البياضي، أن جزء من الأزمة أيضا متعلق بالموازنة. فالدستور ينص على أن يخصص لـ”الصحة” 3% من الناتج القومي، وحتى الأن غير معروف كيفية حساب الناتج القومي.
ولفت إلى أنه يتم الحساب على الناتج المحلي، ويكون الأمر غير واضح. كما أن دستور 2014 ينص على أن نسبة 3% تزداد تدريجيا وفقا للمعدلات العالمية التي تتجه حاليا لنسبة 7%.
غياب الشفافية، حول أرقام وفيات الأطباء في كورونا، أمر يفتح الباب للشائعات، ويسمح للمواطنيين أن يستقوا معلومات من مصادر غير موثوق فيها. ما يؤكده الدكتور أسامة عبد الحي، أمين عام نقابة الأطباء، بجانب المشكلة السابقة التي ربما دفعت عباس للتفكير في السفر، خوفا من مواجهة مصير لا يعلم. وهو نفس السبب الذي دفع من قبل محمد سالم لتقديم استقالته العام الماضي للسفر للخليج: “كنت اتقاضى من وزارة الصحة 1200 جنيها، لا تكفي كدخل وبدل العدوى 20 جنيها وهي أرقام مهينة، ففكرت في الاستقالة والسفر إلى السعودية، والعمل في أحد المستشفيات مقابل 5 آلاف ريال”.
يتفق سالم أن المشكلات التي يعاني منها قطاع الصحة في مصر موجودة من قبل أزمة كورونا، وليست وليدة للجائحة..
تعاني مصر واحدةً من أدنى نِسَب الأطباء بالمقارنة بعدد السكان في المنطقة.
وكشفت أحدث البيانات الصادرة عن منظمة الصحة العاليمة، عن أنه كان لدى مصر 445 أف طبيب يعملون داخل البلد عام 2018. ما يعادل حوالي 5 أطباء لكل 10 آلاف مواطن. وهذه نسبة منخفضة وفق المقاييس الإقليمية، بالمقارنة مع نسبة 26 طبيبًا لكل 10,000 شخص في السعودية، و23 في الأردن، و7 في العراق والمغرب، و17 في تركيا.
أطباء يبحثون عن الهجرة
المشاكل التي تواجهها الأطقم الطبية، أو يمكن تسميته حالة طرد الأطباء، والبحث عن الهجرة، وتقديم الاستقالات من وزارة الصحة وفقا لأمين عام نقابة الأطباء كانت من قبل الجائحة. وأن وما يدفعهم للاستقالة الوضع المادي والأجور وظروف العمل والاعتداءت على الأطباء. وهي الظاهرة التي لا تقبلها أي مجتمعات.
أزمة أخرى تتمثل في الاعتداءات المتكررة على الأطباء في المستشفيات. ورغم تدشين إدارة لتأمين المستشفيات إلا أنها لا تؤدي الدور المنوط بها. وطالبت نقابة الأطباء بتغليظ عقوبة الاعتداء على الأطباء.
الأمم المتحدة تعتبر أن الاعتداء على الأطباء جريمة في حق الإنسانية.
ما زال الطبيب هو الذي يتحمل مضاعفات العلاج التي تتم مع المريض. ويحاكم حينها الطبيب بقانون العقوبات في ظل غياب قانون المسؤولية الطبية، الذي يسمح بالتحقيق مع الطبيب من خلال لجنة فنية من الأطباء لتحديد مدى مسؤولية الطبيب عن المضاعفات من عدمه، وتكون العقوبات غرامات وليس الحبس.
أمين عام نقابة الأطباء قال خلال الندوة: سيف الحبس يجعل الأطباء يحجمون عن علاج المرضى في الحالات الخطيرة. لافتا إلى أن النقابة قدمت مشروع قانون المساءلة الطبية بالفعل، إلا أن هناك بطء شديد في صدور القوانين التي تحمي المهنة.
على الرغم من أن حوالي 7,000 طبيب جديد يتخرجون سنويًّا في مصر. إلا أنه لا يوجد سوى 213,000 طبيب مسجلين كممارسين للمهنة، وفق دراسة أعدتها وزارة الصحة المصرية.
وذكرت الدراسة أنه من بين الأطباء المسجلين، فنسبة الذين يمارسون المهنة بالفعل 82,000 طبيب.
حتى تلك الأرقام المتدنية لا تنقل الصورة كاملةً؛ فالقاهرة تستأثر بنصيب الأسد من أطباء مصر. ما يتسبب في حرمان المحافظات الأخرى، ولا سيما تلك الأبعد عن العاصمة.
وفي المقابل، يرى عبد الحي أن دور نقابة الأطباء في المسائلة الطبية، يتم من خلال 3 طرق. من خلال تقديم المريض شكوى في إدارة المستشفى أو في النيابة العامة أو في نقابة الأطباء.
وأضاف: كل جهة يمكن أن تحقق منفردة مع الطبيب، وهناك لجنة أداب المهنة في النقابة تصدر عقوبات تأديبية للحفاظ على سمعة المهنة.
وتابع: القانون الجديد ينظم الأمر. فعند شكوى الطبيب تتكون هيئة تحديد مسؤولية الطبيب. تحقق مع الطبيب من الناحية الفنية، ويكون تقريرها هو المصوغ الأساسي للتقديم للمحكمة.
ويتفق معه البياضي ويقول، البعض يعتقد أن قانون المساءلة الطبية سيحمي الأطباء من الحساب. ولكنه يهدف لتنظيم هذا الحساب فقط وليس المنع من المسؤولية أو التغاضي عن التقصير، فهو قانون ينظم كيفية حساب المقصرين.
الإنفاق على الصحة
يؤكد البياضي أن تخصيص ميزانية تحسن الإنفاق على المنظومة الصحية تبدأ بتطوير التعليم.
وأضاف: ميزانية وزارة الصحة حاليا هزيلة جدا. وأيضا ميزاينة التعليم والبحث العلمي. بجانب ضرورة زيادة بدل العدوى كما حدث مع زيادة بدل المخاطر.
الدكتور علاء غنام، مديرة وحدة العدالة الاقتصادية والاجتماعية بالمبادرة المصرية للحقوق الشخصية يتفق مع هذ الرؤية. ويقول، إن الإشكاليات التي يعاني منها النظام الصحي منذ فترة كبيرة يمكن تسميتها بمحنة نظام كامل، وأن جائحة كورونا أظهرت محنة الأطباء بحكم أنهم كانوا في الصفوف الأولى لمواجهة الوباء، في ظل نقص إمكانيات لحمايتهم، وأزمة بيروقراطية.
وتابع غنام، أن أطباء القطاع الحكومي المدني المملوك للدولة محنتهم أكبر بسبب تدني الأجور من سنوات طويلة، ما يدفع الأطباء للعمل في أكثر من مكان.
ويقارن غنام، بين آجر الطبيب في محافظة بورسعيد بعد تطبيق منظومة التأمين الصحي الشامل بأجور الأطباء في باقي المحافظات. نجد أن أجر الطبيب بات أكثر 10 مرات من باقي المحافظات.
وأكد أن تطبيق منظومة التأمين الصحي الشامل ستمثل بداية لإنهاء الأزمة. وأن المنظومة تمثل عقد شراكة بين المنظومة والطبيب توفر دخل ثابت وحوافز أداء.
لكنه لفت إلى أن تطبيق المنظومة سيستغرق 10 سنوات.
الحلول والسياسات البديلة
الطالب بالفرقة الرابعة بكلية الطب. قال إنه ربما لو وجد الحلول لتلك المخاوف التي تراوده، لعدل عن فكرة الهجرة. الأمر نفسه أكده سالم الذي اتخذ من السعودية مدينة جديدة له، فقال :”عند وجود حلول وأليات واضحة تحمي الأطباء وتوفر لهم حياة كريمة، سيسعى جميع الأطباء للعمل في بلادهم دون التفكير في الهجرة أو الاستقالات، فمن دخل كلية الطب يرغب في الحصول على لقب طبيب ولا يريد الهروب منه”.
وعن الحلول المقترحة لمواجهة الأزمات التي تمثل عرضا مستمرا للأطباء، يرى الدكتور فريدي البياضي، أن الحوكمة في اتخاذ القرار من ضمن الحلول، وأن بعض القرارات تكون صحيحة ولكن في توقيت غير مناسب. بجانب التشاركية في اتخاذ القرار. فعند مفاجأة الأطقم الطبية بقرارات تدفع للمقاومة حتى لو كان القرار صحيح، بالإضافة إلى التدريب والتعليم الطبي المستمر. فمقدم الخدمة الصحية يجب أن يخضع لاختبارات مستمرة. ولكن يجب أن يتم ذلك بالتوازي مع تحسين باقي الأمور. وأيضا التأمين ضد مخاطر المهنة.
وقال، إن الدستور ينص على رعاية أسر الشهداء، ولم ينص على أن هؤلاء الشهداء هم فقط شهداء الإرهاب. ولكن كل من يضحي بروحه من أجل الأخرين. فالعالم كله شاهد دور الأطقم الطبية، التي كانت تعمل بأقل الإمكانيات وتفتقر لأدوات الحماية الطبية.
فترة عشر سنوات ستفصلنا عن الانتهاء من تطبيق نظام التأمين الصحي الجديد. ستحتاج إلى علاج الأزمة في أجور الأطباء من خلال المكافأت في المستشفيات الحكومية التي لم تطبق البرنامج، يمكن دعم الأمر من البرلمان بالتفاوض مع النقابة –بحسب البياضي-.
ولفت البياضي، إلى أن التوسع في الزمالة المصرية أيضا هو الحل. فهناك ما يقرب 10 آلاف خريج سنويا، منهم 5 ألاف لا يجدون فرصا في الزمالة. التي تستوعب ما يقرب من 1500 طبيبا فقط. ووضع سياسات لحل أزمة التكليف وفقا لاحتياجات الدولة.
وتابع: تطرح الدولة الأماكن المتاحة للأطباء للاختيار منها، فوضع سياسات تدرجية لسد العجز هو الحل لعدم ظهور الأزمة سنويا. وعدم التشاركية أيضا في التوصيات التي طرحتها نقابة الأطباء ولجنة الصحة في البرلمان. فلم تأخذها وزارة الصحة بعين الاعتبار لحل تلك الأزمة، فيجب المناقشة لخروح قرارت لصالح المنظومة.
فوجىء أطباء تكليف مارس ٢٠٢١ هذا العام بوزارة الصحة والأمانة العامة للزمالة تعلنان عن احتياجاتٍ، لم تراع أي نسبة أو تناسب، ولم تعط للطبيب أي فرصة تتيح له حرية اختيار التخصص الذي يرغب فيه ويتوافق مع قدراته
وفي نهاية شهر إبريل الماضي، أعلنت وزارة الصحة، فتح باب تكليف دفعة جديدة من الأطباء (دفعة تكليف 2021). إذ جرت العادة كل عام أن تعلن وزارة الصحة عن احتياجاتها من التخصصات المختلفة, التي يتم توزيعها بنسب متساوية لمراعاة احتياجات الوزارة وأيضا رغبات كل طبيب. فكان للطبيب الحرية في أن يرتب رغباته والتخصصات التي يتوقع ان يجد نفسه كفء فيها. لكن فوجىء أطباء تكليف مارس ٢٠٢١ هذا العام بوزارة الصحة والأمانة العامة للزمالة تعلنان عن احتياجاتٍ، لم تراع أي نسبة أو تناسب، ولم تعط للطبيب أي فرصة تتيح له حرية اختيار التخصص الذي يرغب فيه ويتوافق مع قدراته على حد قولهم.
تم الإعلان عن 5 تخصصات شكلت أكثر من 50% من النسبة الكلية للتخصصات. في حين كانت الـ50 % الأخرى من نصيب أكثر من ثلاثين تخصصًا.
وتشهد تخصصات (طب الأسرة والتخدير والطوارئ والعناية المركزة ونقل الدم) عجزا، ظهر خلال أزمة انتشار فيروس كورونا، وبالتالي تحاول الوزارة سد العجز المتراكم خلال سنوات في هذه الدفعة ما رفضه الأطباء وطالبوا بوجود محفزات عادلة لهذه التخصصات، بجانب إعادة توزيع التخصصات مرة أخرى لكي تناسب قدرات وكفاءة الأطباء واحتياجات القطاعات المختلفة، ولتفادي العجز في أي تخصص.
خطوات عاجلة
الدكتور علاء غنام، يؤكد ضرورة البحث في الحلول العاجلة، حتى تطبيق المنظومة، منها مثلا صرف تعويضات لأسر شهداء الأطباء، وزيادة بدل العدوى الذي يطلق عليه الأن بدل المهنة، أو بدل مخاطر المهنة، بجانب تطبيق قانون 184 لسنة 2020، والذي يدور حول زيادة بدل مخاطر المهنة، والتعويض للشهداء وأسرهم لمرة واحدة، وهو ما لم يطبق حاليا، وهو دور نواب البرلمان لتفعيل وسرعة العمل بالقانون.
وقال غنام: “نفتقد لسياسة فعالة في تنمية الموارد البشرية في القطاع الصحي من سنوات، ولابد من تنميها من خلال عدة نقاط، على رأسها وضع استراتيجية للقوة العاملة وتكون خطة ممتدة المدى، وتغير المناهج العلمية التي تركز على المنتج النهائي.
ودعا غنام لتطوير قانون التكليف الحالي أو تغيره. ليعتمد على اللامركزية والاحتياج، وبناء قدرات العاملين في وزارة الصحة. بالإضافة لوضع برامج تدريب مستمرة لكل العاملين بالقطاع الصحي. والأجر العادل والحوافز وأيضا إنشاء نظام معلوماتي متكامل، لأننا وحتى الآن لا نستطيع أن نتحدب بأي يقين عن عدد الأطباء في مصر، نتيحة غياب قاعدة بيانات.