تفتح قضية الآثار الكبرى التي تتكشف معالمها حاليًا. بأسماء كبيرة مثل رجل الأعمال حسن راتب والنائب السابق علاء حسانين و19 شخصية أخرى تخضع للتحقيقات. جدلية مستمرة حول كيفية تهريب الآثار من مصر. ومدى قدرة التشريعات الحالية في مواجهتها.
تشير التحقيقات إلى تحكم الرغبة في الثراء في قطاع عريض من المصريين. حتى لو كانوا رجل أعمال يملك جامعة ومصانع للإسمنت. ويقدم تمويلًا بقيمة 53 مليون جنيه لعمليات تنقيب وشراء جهاز متطور للحفر. بجانب بخور خاص مستورد من المغرب مخصص لفتح المقابر الأثرية. والالتفاف على حراسها من الجن.
تعتبر القضية الحالية هي الثانية من نوعها في حمل لقب “قضية الآثار الكبرى”. بعد قضية القنصل الإيطالي السابق لاديسلاف أوتكر سكاكال. الذي تورط في قضية تهريب 21855 قطعة أثرية تنتمي إلى عصور تاريخية مختلفة. معظمها عملات معدنية في حاوية دبلوماسية من الإسكندرية إلى ساليرنو الإيطالي. وتورط فيها بطرس بطرس غالي، شقيق وزير المالية الأسبق الذي تمت إحالته للمحاكمة.
قوانين غير رادعة
يرى خبراء قانون أن تجارة الآثار لا يمكن مواجهتها إلا من المنبع. بوقف أنشطة التنقيب التي تحتاج إلى تغليظ مشدّد بعد الانتشار الواسع لها. وأن القانون الحالي يقضي بمعاقبة بالسجن من سنة إلى 3 سنوات كل من نقب عن الآثار. بينما في حال ضبط المتهم بحيازة الآثار بهدف الاتجار أو التهريب إلى الخارج، يعاقب بالسجن المؤبد 25 عامًا.
شحاتة محمد شحاتة، مدير المركز المصري للنزاهة والشفافية يقول. إن العقوبات القانونية لأنشطة التنقيب عن الآثار وتجارتها وتهريبها تفتقر الردع. ويجب رفعها إلي مصاف الخيانة العظمى والإعدام، حتى تكون رادعًا لكل من تسول له نفسه في التورط في ذلك النشاط.
حتى منتصف القرن التاسع عشر، لم يكن هناك أي تشريع يخص تجارة الآثار بمصر. فقد كانت آلاف القطع الأثرية يتم نزعها من بيئتها الأصلية لتنضم إلى مجموعات خاصة لملوك وأثرياء أو يتم تأسيس أجنحة لها في متاحف حول العالم.
يقول شحاتة لـ”مصر 360″، إن تشديد العقوبات سيكون رادعًا أمام عصابات الاتجار بالآثار التي تتزايد بسب الطمع، والرغبة في الثراء السريع. خاصة أن الأرباح التي يتم تحقيقها في ذلك المجال غير المشروع بمئات الملايين.
تتضمن التعديلات القانونية المقترحة تأمين المبلغين عن أعمال الحفر خلسة. ووضع محفزات مالية لهم للتشجيع خاصة أن تلك الأعمال يمكن للجيران ملاحظتها بسهولة. فضلاً عن تغريم من يعثر على مؤشرات تدل على وجود آثار ويبادر برمي أساسات خرسانية فوقها حتى لا يتم اكتشافها.
حجم تجارة الآثار
لا توجد تقديرات اقتصادية لحجم تجارة الآثار وتهريبها في مصر، لكن الإعلامي أحمد المسلماني. قدرها قبل سنوات في برنامجه بنحو 20 مليار دولار. معتبًرا أن الرقم مفزع لكنه يعبر عن حالة الانتشار التي شهدتها ذلك النشاط المشبوه بعد ثورة 25 يناير، وانتشاره في القرى ومحافظات الصعيد.
لكن شحاتة يرى أن تلك الأرقام مجرد اجتهادات، ولا يمكن الوصول للرقم الصحيح. فتلك التجارة نشاط سري وغير مشروع. وبالتالي لا يمكن رصده بالأرقام، كما أن ما يتم ضبطه من قضايا أقل بكثير من الحجم الفعلي
أرقام مفزعة
وكشف الدكتور زاهي حواس، وزير الآثار الأسبق، عن أرقام مفزعة لحجم الآثار المسروق من مصر. لتبلغ ٣٠٪ خلال الفترة التي تلت ثورة يناير، بعد الإبلاغ عن سرقة ما بين ٢٥ و٢٧ ألف قطعة أثرية من المتاحف والمخزن والمواقع الأثرية. بخلاف ما تم نهبه من الحفر، بقيمة ٣٣.٧ ألف قطعة.
تحكم الصدفة أحيانًا في ضبط قضايا. مثلما حدث في فبراير الماضي. حينما اجتمعت مجموعة من التجار في مقهى في مدينة نصر تناقشوا خلالها عن حفريات استمرت عدة أشهر لمنطقة المطرية. ولم يتنبهوا لوجود ضابط شرطة على الطاولة المجاورة كان متواجدا بالصدفة. فتم القبض عليهم، تبين أنها تضم عصابة من 14 شخصًا.
وألقت الشرطة، الأحد الماضي، القبض على 3 أشخاص قبل بيعهم تمثال أثري خلال تواجدهم في محطة “إيتاي البارود” بمحافظة البحيرة. بعد الاشتباه بهم ليتبين أن الحقيبة التي يحملونها داخلها تمثال “غرانيتي” عثروا عليه في بلدتهم وتوجهوا من أجل بيعه لأحد الأشخاص.
مغارة الزمالك
ما يزيد الزخم في تلك النوعية من القضايا حاليًا. هو تزامن قضيتين من العيار الثقيل معًا فمع قضية الآثار الكبرى كانت التحقيقات سارية في قضية شقة الزمالك المعروفة إعلاميًا بـ”مغارة علي بابا” التي ثبت أثرية 1991 قطعة أثرية من الآثار التي عثر عليها داخلها من قبل لجان فنية متخصصة تابعة للمجلس الأعلى للآثار.
ووفقًا للدكتور مصطفى وزيري، الأمين العام للمجلس الأعلى للآثار. فإن بعض القطع الموجودة في الشقة ترجع للعصر العتيق منذ 5 آلاف سنة. وهناك جعران يخص الملكة حتشبسوت. وآخر يخص الملك تحتمس. وقناع خشبي من الأسرة 26. وخرز وعملات يونانية ودرهم ترجع للعصر الأموي. وعملات ذهبية وحلى ومجوهرات ترجع لأسرة محمد على، موضحًا أنها ليست من مفقودات المتاحف والمخازن ولكنها نتيجة حفر خلسة.
تتطلب المضبوطات التي تم اكتشافها ـــ في شقة الزمالك ــــ وضع قانون جديد للتعامل مع المجموعات الخاصة التي تجعل كل من يملك آثارًا يمكنه إنشاء متحف أو مجموعة خاصة للانتفاع بها بعد الموافقة. خاصة أن محتويات شقة الزمالك كانت كفيلة بملء متحف كامل وتزيد عن محتويات متاحف كبيرة في مصر في العدد والتنوع.
يوجد 32 حائزًا لمجموعات أثرية على مستوى الجمهورية لقطع أثرية بعد تسجيلها. استفادوا من مبادرة في عام 2010 هدفها تحديد حجم القطع النادرة والآثرية التي توارثتها بعض العائلات الكبيرة في مصر. لكن خبراء أثريون يتوقعون بأن يكون ملاك المجموعات الخاصة أكبر من مجرد 32 عائلة فقط.
الحملة الفرنسية
تؤكد الدراسات أن بداية تاريخ محاولات نهب الثروات التاريخية المصرية يعود لعصر الحملة الفرنسية (1798-1801م) التي خلقت نوعا من الشغف الغربي بالآثار المصرية. ومثل الفرنسي شامبليون، في تقديرات خبراء الآثار، الناهب الأول الآثار المصرية في تلك الفترة. حتى جاء أغسطس 1835. حينما أصدر محمد علي باشا والي مصر مرسومًا يحظر تمامًا تصدير جميع الآثار المصرية والإتجار بها.
أزمة قانونية
لم يحكم قانون محمد علي ظاهرة التهريب بنسبة ١٠٠٪. فأصدر فارق الأول بعد عقود قانون 215 لسنة ١٩٥١ الذي هدف للقضاء على تهريب الآثار. لكنه على العكس شرعنها بالسماح بمبدأ التقاسم مع البعثات الأجنبية التي تتولى الحفر. وتبادل الآثار المكررة مع المتاحف والأشخاص وبيعها وحتى التنازل عنها للهيئات والأفراد المصرح لهم بالتنقيب.
كانت مصلحة الآثار على مدار قرن تقريبًا تحت رئاسة علماء فرنسيين ما سهل خروج قطع أثرية من مصر قبل جلاء الاحتلال البريطاني عام 1956. لتصبح مصلحة الآثار هيئة حكومية خالصة برئاسة أول مدير مصري لها السيد مصطفى عامر.
خلال الفترة من عام 2011 إلى عام 2014، خسرت مصر 3 مليارات دولار من سرقة القطع الأثرية من المواقع الأثرية والمتاحف وأماكن العبادة، وفقًا لمجموعة Alliance Archaeology ومقرها واشنطن، واستطاعت مصر ألف قطعة أثرية من 10 دول خلال السنوات الثلاث الماضية.
تستدعي عمليات التهريب أن تمارس وزارتا الخارجية والآثار دورًا أكبر في الوصول لقوانين تحكم عملية بيع الآثار المهربة فاتفاقية “اليونسكو” غير ملزمة لكل دول العالم، وجهود قسم الآثار المستوردة كبيرة لكنها لم تستعد سوى عدد محدود من الآثار العالمية.
نقاط التسريب
حاولت وزارة الآثار مواجهة نقاط التسريب التي تضمها عبر التوسع في افتتاح المتاحف الجديدة لاستغلال جميع الآثار المركونة في المخازن. وإنشاء أخرى جديدة مرقمة إلكترونيا بدلا من السجلات الرقمية القديمة التي كانت تتهالك وتفتح المجال من قبل بعض الموظفين للتلاعب.
ظلت المنافذ الجمركية أيضًا بوابة نفاذ الآثار المصرية للخارج عن طريق انتهاج الطرق التقليدية في الكشف عن الحاويات التي تجعل ما يتم تفتيشه من جميع الحاويات لا يتجاوز ١٠٪ فقط، وتمثل حادثة اكتشاف تابوت مصري في قطعة أثاث مصدرة للكويت دليل على ذلك.
أجهزة حديثة
أكد أحد معاوني، وزير الجمارك. أن تلك المشكلات في طريقها للحل مع تطبيق نظام التسجيل المسبق للشحنات. بجانب الاتفاق مع السلطات الأمريكية على توريد أجهزة فحص بالأشعة لتغطي 85% من احتياجات الموانئ والمنافذ، وذلك لإحكام الرقابة على الموانئ لتقليص معدلات التهريب الجمركي ، مضيفًا أن وفد من المصلحة سافر للولايات المتحدة لتجريب الأجهزة الجديدة.
يعتبر تهريب القطع الأثرية داخل حقائب الملابس من أشهر وسائل التهريب التي تم ضبطها، للآثار المصرية صغيرة الحجم، خاصة العملات والجعرانات والتمائم.
أضاف معاون رئيس الجمارك، لـ”مصر 360″، أن تشديد إجراءات الرقابة على المنافذ الجمركية أسهم في الحد من محاولات التهريب التي بلغت 1069 عملية تهريب، خلال شهر مايو الماضي. موضحا أن توفير أجهزة “إكس راي” وتعميمها يسمح بإخضاع غالبية الركاب في المطارات والطرود للفحص دون الاعتماد فقط على طريقة الاشتباه الحالية.
يكشف المسئول عن خطأ الاعتقاد الشعبي بأن الحقائب الدبلوماسية مجرد حقائب صغيرة، يبتسم ويتابع:” قد تكون حاويات ضخمة، تحتاج لأجهزة إكس راي للكشف عما بداخلها داخل الميناء أو المطار. ومعرفة ما إذا كانت تضم آثار أم لا، وقد انتهت خلال السنوات الأربعة الأخيرة تلك المحاولات تمامًا.
قدرت دراسة للدكتور أحمد وهدان، المستشار بالمركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية في مصر. بعنوان “جرائم سرقة وتهريب الآثار في مصر” تم نشرها عام 2004،. عدد قضايا الاعتداء على الآثار التي جرى ضبطها خلال الفترة من عام 1993 حتى 2002 بـ 13588 قضية تنوّعت بين سرقة المناطق الأثرية وتهريب الآثار والاتجّار بها وحيازتها، والتنقيب عنها خلسة، بينما بلغ عدد القضايا المضبوطة خلال عام 2002 وحده 1546 قضية.
إحصاء المخازن
أكدت وزارة الآثار، أخيرًا، أنها على وشك إنهاء إحصاء جميع القطع الأثرية الموجودة بالمخازن، ووضع رقم سجل لها، ففي حالة خروجها أو سرقتها لتهريبها للخارج تستطيع الدولة استردادها مرة أخرى، فعدم القدرة على استرداد المقتنيات والمشتريات الأثرية المهربة التي حاولت مصر استردادها سببه أنها لم تكن مسجلة من الأساس، كما تبين أن المباني التي تضم الآثار الإسلامية مسجلة كمبان فقط دون مقتنياتها ما يجعل الحكومة عاجزة عن استرداد ما يتم سرقته وتهريبه من محتوياتها.
ظلت مصر دون تشريعات قوية تمنع خروج الآثار منها حتى عام ١٩٨٣ وتسببت تلك الإشكالية في وجود 52 متحفا أجنبيا؛ تحتوي على ما يقرب من مليون قطعة أثرية مصرية، في مقدمتها المتحف البريطاني الذي يشتمل نحو 106 آلاف قطعة، والمتحف المصري ببرلين الذي يضم 80 ألف قطعة ، ومتحف اللوفر الذي يضم 50 ألف قطعة.
تشريع قانوني
يطالب الدكتور محمود حامد، خبير الآثار، بإصدار تشريع قانوني واضح يمنع الجدل الذي يحاول البعض إثارته والخلط بين الركاز والآثار، والتأكيد على أن كل ما باطن الأرض من تراث الأجيال ملك للدولة أو ممتلكات عامة لا يجوز التصرف فيها دينيًا وقانونيًا.
وخرجت بعض القطع منمصر بطريقة رسمية أيضًا عبر الإهداء ففي الستينيات، أهدت الحكومة معبد ديبود إلى دولة أسبانيا عام 1968، تقديرا لمشاركتها في إنقاذ متاحف النوبة المتضررة من السد العالي حينها تحت شعار أن “آثار مصر لا تخص مصر فقط.. بل تخص العالم كله”.
ووفقا لإدارة البحوث والدراسات الأثرية والنشر العلمى بوزارة السياحة والآثار، فإن حدة سرقات الآثار والحفر زادت بعد ثورة يناير، وضمت عصابات دولية انتهزت فرصة الفوضى توسعت عمليات الحفر خلسة واستخراج آثار غير مسجلة، بجانب محاولة جماعات متطرفة المساواة بين الركاز والآثار.
يقول حامد، لـ”مصر 360″، إن التغير المستمر في طرق التهريب تصعب مهام مواجهتها، التي وصلت إلى درجة تفكيك أجزاء من تابوت أثري ووضعها في علب سجائر، أو محاولة وضعها في منتجات أثاث بدمياط ، وكلها متعلقة بقطع غير مسجلة تم استخراجها خلسة ولا يمكن استردادها، فالقطع المسجلة يمكن بالتعاون مع الانتربول استردادها بسهولة.
يقول إن التقديرات لحجم التجارة الآثار التي تم تهريبها من مصر ترتكن إلى قيمة مبيعات صالات العرض الأجنبية، فالمنقبين خلسة يحاولن التخلص منها بأي سعر، وحينما تصل لتلك الصالات تعرف قيمتها جيدًا وتعيد تسعيرها بملايين الدولارات.