يوم الجمعة الماضي، قرر أحد جيران بنايتنا العزيزة إجراء بعض الإصلاحات في منزله، وهكذا تحولت ساعات الراحة المحدودة إلى خليط من خبطات المطارق وزمجرة “الشنيور”.
وبعد صبر قليل نشبت المشادة اللسانية بيننا، وهي مشادة لا أستطيع أن أمنحها رقما محددا بين عدد المشادات التي خضتها لنفس السبب، في جميع البيوت التي سكنتها في حياتي، حيث ليس شرطا أن تكون الإصلاحات و”الطيخ والطاخ” يوم الجمعة، وإنما قد تكون أحيانا في السابعة صباحا، أو في ساعات الليل المتأخرة، وإذا كان ثمة ما يجمع بين تلك المشادات، فهو أنني غالبا كنت بطلها الوحيد في كل مكان، في ظل صمت أو لامبالاة بقية السكان، حتى كدت أتشكك في نفسي، هل أبالغ؟ هل أتخيل؟
وعلى الرغم من أنني أسكن أحد الشوارع شبه الهادئة في القاهرة، بعيدا عن الطرق السريعة أو خطوط المواصلات العامة، إلا أن الأمر لا يخلو من وقت لآخر من المعاناة بسبب الوسيلة الوحيدة التي صار المصريون يعبرون بها عن أنفسهم، وهي الضوضاء، والتي صارت – مثلا – الوسيلة المفضلة للإعلان عن افتتاح أي نشاط تجاري حتى لو كان محلا صغيرا للغاية، إذ لابد من إحضار سماعات بعضها يكاد يساوي حجم المحل، وتشغيلها على أقصى طاقة إلى آخر ساعات الليل، إعلانا عن النشاط الجديد الذي غالبا ما يتغير بعد أشهر طالت أو قصرت، ليتم افتتاح جديد بنشاط مختلف ولكن السماعات هي نفسها، وبالطبع فإنها لا تصدح بفيروز وأم كلثوم، بل غالبا تنفجر بأغنيات لا تختلف كثيرا عن أصوات الإصلاح في شقة الجيران.
وإذا كانت حقوق الجيرة تجعل الناس يتعاطفون مع ضجيج الأفراح والعزاءات، فإن ظاهرة أغرب – لحسن الحظ أنها تقلصت الآن- نشأت في السنوات الأخيرة، وتتلخص في تعطيل الشارع العام عن طريق “الزفة”، والاستعراض بالموتوسيكلات أمام السيارات المتعطلة قهرا.
ولا يخلو الأمر من غباء أحيانا، فقبل عدة سنوات، وجد أصحاب إحدى المقاهي في إحدى المناطق الحيوية بالقاهرة أنهم يقعون في آخر صف طويل من مقاه أخرى، وأن ذلك قد يفقدهم بعض الزبائن لصالح المنافسين، فقرروا بث الأغاني بالسماعات إياها لتمييز أنفسهم وجذب الزبائن، وبالطبع كانت النتيجة الوحيدة لذلك هي أن المقاهي الأخرى قلّدتهم، وبهذا لم يكسب أحد إلا مزيدا من الضوضاء (وقد تمت إزالة صف المقاهي ذاك فيما بعد).
أتكلم هنا من دون التطرق لمكبرات الصوت لآلاف المساجد والزوايا في القاهرة، فضلا عن الميكروفونات في إيدي وحناجر مشتري الروبابيكيا والباعة الجائلين، إنه عالم كامل من ممارسة الضوضاء، والتلوث بأنواعه، والتنطع الاجتماعي والتنطع الديني، يجعل من الصعب على أي إنسان، حتى لو كان ذا سلطة، أن يواجه كل هذا وحده، وبالطبع ليس سرا، أن هذا هو سبب توجه الكثيرين إلى سكنى المجتمعات المغلقة والكومباوندات.
على الرغم من أن الأمراض الاجتماعية دائما ما تجد طريقها للتسلل وراء الأسوار، فإذا لم تستطع خارج الكومباوند أن ترتاح بسبب ميكروفانات الباعة، فإنك داخل الكومباوند قد لا تستطيع النوم بسبب نباح الكلاب!
كنت أفكر في كل ذلك وأنا أتابع صور الإنشاءات المتلاحقة للعاصمة الإدارية الجديدة، وأتساءل؛ ترى هل تستعيد العاصمة الجديدة، الروح الحضارية والمدنية التي عرفتها القاهرة يوم كانت باريس الشرق؟
إننا إذا فكرنا في مدينة دبي كنموذج، فإنها لا تتميز بسبب أبراجها العالية وفنادقها الفخمة والبراندات العالمية، إنها تتميز بالأساس لأنها “مدينة” بما في الكلمة من معنى، مدينة لا تخشى الفتاة فيها من التحرش عند كل ناصية ولا تفكر في ملابسها ألف مرة قبل أن تنزل الشارع، مدينة لا تتراكم القمامة بأهم شوارعها وميادينها، مدينة يمكن فيها أن تستدعي الشرطة سريعا عند أقل اعتداء، مدينة تحافظ بصرامة على معاييرها في البناء والمرور والإدارة السكنية والفندقية ونسب جودة الهواء والحماية من التلوث الصوتي.
وأخشى أن أقول أن كل ذلك صار صعب التحقيق في القاهرة التاريخية رغم جهود التطوير العمرانية الملحوظة، لكن من غير المقبول ألا يكون كل ذلك متحققا في العاصمة الجديدة، فلا معنى للعاصمة إن لم تستطع أن تعصم سكانها من المضايقات، ولا معنى للجديد إن عشنا فيه المشكلات نفسها.