ربما كانت من أكثر القضايا التي أثارت حفيظة تيار واسع ممن شاركوا في تجارب الانتفاضات العربية هي قضية “الإصلاح من داخل النظام”، واعتبرها البعض سيئة السمعة، ورفضها البعض الآخر لصالح مفردات ثورية تدعو لإسقاط النظام بكل أركانه، ولا ترى إمكانية إصلاحه.
ورغم أنَّ التجارب الأولى شهدت تجربة نجاح واحدة في انتقال ديمقراطي هي تونس، في حين ذهبت تجارب أخرى نحو الحروب والصرعات الأهلية مثل ليبيا وسوريا، في حين اعتبرت مصر أن أولويتها هي محاربة الإرهاب وتحقيق التنمية الاقتصادية وتأجيل عملية الانتقال الديمقراطي.
صحيح أنَّ تجارب الانتفاضات الثانية (الجزائر والسودان ولبنان والعراق) رفعت شعار إسقاط النظام، ورفعت تجربتي لبنان والعراق شعارات إسقاط المنظومة القديمة ونظام المحاصصة الطائفية دون أن تنجح بعدُ في تحقيق أهدافها، أما السودان فقد نجحت انتفاضته الشعبية في إسقاط نظام البشير، ولكنها قبلت منذ اليوم الأول بمبدأ التفاوض مع الجميع، خاصة بين قوة التغيير المدنية والجيش، وتم التفاهم على مسار انتقالي لا زال يواجه تحديات كبيرة.
أما تجربة الجزائر فذهبت في مسار مختلف عن جارتها تونس، فقد أسفر الحرك الشعبي هناك عن إسقاط حكم الرئيس بوتفليقة، ومنعه من الترشح “لعهدة خامسة” تبقيه ربع قرن في السلطة، في وقت كان عاجزًا عن الحركة والكلام.
والمؤكد أنَّ قرار ترشح رئيس بظروف بوتفليقة الصحية كان أمرًا مهينًا للشعب الجزائري، كما أنَّ إجباره على عدم الترشح ثم تنحيه عن السلطة بطريقة سلمية كان مصدر فخر للشعب الجزائري.
وبدأت الجزائر مسار “الإصلاح من داخل النظام” عن طريق رئيس قادم من مؤسسة الحكم القديم، وهو الرئيس عبد المجيد تبون الذي شغل وزير “سكن وعمران”، ووزير اتصال، ثم رئيس وزراء سابق في عهد الرئيس بوتفليقة لمدة 4 أشهر، استبعد بعدها بسبب توجهاته الإصلاحية.
ومنذ ذلك التاريخ، عرفت الجزائر ثلاث استحقاقات انتخابية، الأولى هي الانتخابات الرئاسية التي رعاها الجيش وأسفرت عن فوز الرئيس الحالي عبد المجيد تبون من الجولة الأولى، وحصل على 58% من أصوات الناخبين، ثم أجرى الرجل بعد توليه الرئاسة تعديلات دستورية أسفرت عن موافقة 66% من الشعب الجزائري عليها وبمشاركة ضعيفة بلغت 23%.
وقد أجريت الانتخابات التشريعية في ظل “الدستور المُعدَّل”، وعرفت أيضًا نسبة مشاركة بلغت 23%، وحصل حزب جبهة التحرير على 105 مقاعد من أصل 407 مقاعد، وجاء المستقلون في المرتبة الثانية وحصلوا على 78 مقعدا، ثم حزب مجتمع السلم الإسلامي وحصل على 64 مقعدًا، وتوزعت باقى المقاعد على أحزاب صغيرة مختلفة.
وبدا أن المشهد السياسي الجزائري يقول إن هناك نسبة يُعتد بها مؤمنة بالمسار السياسي الحالي ونسبه أخرى لم تخرج عن السلبية المعتادة التي تعرفها كثير من البلاد العربية، والتي يرى فيها قطاع من الناس عدم جدوى المشاركة في أي استحقاق انتخابي؛ لأنه لن يغير في واقعهم شيئًا، وأخيرًا هناك تيار ثالث دعى للمقاطعة، وأسس موقفه على رؤية سياسية تطالب بإسقاط النظام القائم ورفض أي إصلاحات من داخله، واعتمد هذا الفريق على الشارع والأداة الاحتجاجية للتعبير عن موقفه، ولم يهتم ببناء بديل حزبي وسياسي يقوي من تأثيره في الواقع.
تجربة الإصلاح من داخل النظام تذكر كثيرين بخيارات إصلاحية كانت متاحة في أكثر من بلد عربي، ومنها مصر في أعقاب ثورة يناير
والمؤكد أنَّ تجربة الإصلاح من داخل النظام تذكر كثيرين بخيارات إصلاحية كانت متاحة في أكثر من بلد عربي، ومنها مصر في أعقاب ثورة يناير، وأجهضت بسبب خطاب التطرف الثوري وأجندة الإخوان الخاصة، كما علينا ألا ننسى أن الاستقرار الذي شهدته تونس في أعقاب ثورتها الشعبية كان بسبب انتخاب وجه إصلاحي من داخل النظام القديم هو الراحل الباجي قائد السبسي الذي عمل مع الرئيس بورقيبة لسنوات، وفاز على المنصف المرزوقي المرشح المدعوم من حركة النهضة وبعض الاتجاهات الثورية.
صحيح أنَّ الإصلاح من داخل النظام ليس وصفة سحرية تحل مشاكل كل الدول، فهناك بعض النظم لم تسمح بأي فرصة للإصلاح من داخلها، مثل نظام القذافي في ليبيا، الذي استمر 42 عامًا دون أي منافذ لإصلاحه من داخله، ومع ذلك، فإنَّ تداعيات سقوطه بالعنف شكلت سببًا آخر في الفشل الذي وصلت إلية البلاد من صراعٍ مسلح.
يقينًا قضية الإصلاح من داخل النظام هي أحد الفرص التي تتاح لبعض المجتمعات والنخب؛ لكي تنجز عملية بناء دولة القانون والانتقال الديمقراطي، بخيارات رشيدة من داخل النظام، حين تتخلق قناعات بضرورة الإصلاح وتوسيع دائرة المشاركة الشعبية لضمان الاستقرار والتقدم للإمام.
يقينًا قضية الإصلاح من داخل النظام هي أحد الفرص التي تتاح لبعض المجتمعات والنخب؛ لكي تنجز عملية بناء دولة القانون والانتقال الديمقراطي، بخيارات رشيدة من داخل النظام
فهناك تجارب مثل إسبانيا والبرتغال عرفتا تحول نحو الديمقراطية بخيارات سياسية من داخل النظام، كما أن الرئيس السادات قرر أن يحول مصر من نظام الحزب الواحد إلى التعددية المقيدة بدون ضغوط شعبية، حتى لو لم تسفر خطوته هذه عن بناء تجربة ديمقراطية إلا أنها كانت خطوة نحوها.
تبقي “الفرصة الذهبية” في كثير من المجتمعات العربية حين تلوح فرص الإصلاح من داخل النظام عقب انتفاضة شعبية راشدة تعي توازنات القوى وتعرف أن بناء النظام الجديد والمنشود لا يتم باستبعاد كل رموز النظام القديم ولا بالانتقام وتصفية الحسابات، إنما بتفكيك المنظومة القديمة التي أفرزت من تعتبرهم “فلول النظام القديم” وإصلاح المؤسسات لا إسقاطها؛ لأن تغيير القدامى بوجوه جديدة تقود نفس المؤسسات دون إصلاح سيؤدي لنفس النتائج.
من المؤكد أن تجارب الإصلاح من داخل النظام ظلت حاضرة في كثير من المجتمعات، صحيح أنها تتسم بالتدرج وعدم المخاطرة، لكنها تحول في أغلب الأحيان دون السقوط في مخاطر الفوضى أو الانقسام المجتمعي.
ستبقي تجربة الجزائر متفردة في تجارب الانتفاضات العربية الثانية، ويصبح من المهم إعادة الاعتبار لفكرة “الإصلاح من داخل النظام” بعقل بارد، ودون أحكام قيمية، ويصبح رفع شعار الشعب يريد إصلاح النظام وليس بالضرورة إسقاطه ملهما لكثيرين.