تأتي التكنولوجيا بالحلول، وتأتي بالتحديات أيضًا، هكذا أتابع كل عام – مع بقية المتابعين- معركة وزارة التعليم ضد الغش والغشاشين أثناء “ملحمة” الثانوية العامة، وتطور وسائل الغش مع تطور وسائل التعليم وتطور المناهج نفسها، يبدو الأمر كما لو كان اختصارًا لمعركة الحضارة مع الحداثة أو التطور الصحي مع الفيروسات الجديدة.
لكن ذلك التطور لم يُغيِّر بعد السؤال الأساسي في “معركة الغش”: هل ينبغي للطالب أن يقدم على الغش إذا وجد الغش متاحًا أو كانت اللجنة “سهلة”؟
إنه ليس سؤالاً سهلاً إذا استبعدنا الإجابة المثالية النموذجية، فالكلام عن ضمير الطالب سهل، ولكن حين تحين لحظة الحقيقة، لحظة إعلان النتيجة وتنسيق الجامعات والالتحاق بالكلية التي كان الطالب يحلم بها منذ طفولته، فإنَّ أحدًا لن يسأله آنذاك إن كان قد حقق هذا المجموع بالطريقة الشرعية أم بالغش، أو هل حصل على تلك الدرجة بمجهوده أم “ساعده” أحدهم ولو في امتحان وحيد، فربما كان ذلك السؤال الذي “اقتبس” إجابته هو الذي طار به ليعبر أبواب هذه الكلية أو تلك أو هذا القسم أو ذاك، أو على الأقل اختصر عليه أن يرحل 200 كيلومترًا ليدرس بعيدًا عن بيته وأهله.
هكذا، فإنَّ الطالب في لجنة امتحانه، بين سؤال الأمانة وإغراءات الغش، يجد نفسه في اختبار هاملت – البطل الشكسبيري الشهير- أمام ذاته؛ كان يمكن لهاملت أن يتجاهل ضميره ويحيا كما يليق به كابن ملكة الدنمارك وابن شقيق الملك، حياة سعيدة هانئة، فلا أحد يعرف بسر مقتل أبيه، أو أن يأخذ بثأر أبيه ويدفع الثمن الغالي.
يقول هاملت لنفسه “الضمير يجعلنا جميعًا جبناء”، ويقول قولته الأشهر: “أكون أو لا أكون، تلك هي المسألة”، ولابد أنك تشعر الآن أنني “ضخمت من الأمر كثيرًا”، ولكن لا تنسى أن هاملت شخصية خيالية، بينما اختبار الطالب أمام الثانوية العامة اختبار حقيقي، وهو يحدد مصيره ومستقبله بنسبة 99%.
وأعلم أنَّ هناك من يهوّنون من أمر الثانوية العامة، ويعتقدون أن البعض “يهوّل من أثر المجموع”، ولكن على هؤلاء أن يقترحوا وسيلة أخرى لدخول كلية الطب أو الهندسة غير المجموع المرتفع، أو دفع مئات الآلاف من الجنيهات في الجامعات الخاصة، لا يزال تنسيق الثانوية هو العنصر الحاسم في الترقي الطبقي للغالبية الساحقة من المصريين، ودخول “كلية قمة” يتخرج منها الفقير طبيبًا أو مهندسًا هو آخر ما تبقى من فرص المساواة الاجتماعية.
لقد تجاوز الزمن ذلك النظام التقليدي لتنسيق الجامعات، فمن غير المعقول أن تقف نصف درجة أمام مستقبل طالب متفوق قارب مجموعه على المئة بالمئة
فإذا كان الغش – في كل الأحوال – أمرًا غير مشروع ويجب مقاومته، فإنَّ اقتلاع جذوره واجبة أيضًا، لقد تجاوز الزمن ذلك النظام التقليدي لتنسيق الجامعات، فمن غير المعقول أن تقف نصف درجة أمام مستقبل طالب متفوق قارب مجموعه على المئة بالمئة، ومن غير العدل أن يكون دخول الطالب إلى كليته المفضلة وقفًا على الحظ الذي جعل معدلات التنسيق في ذلك العام أعلى أو أقل من العام السابق أو اللاحق، إن الطالب ليس سلعة يُمكن أن نتركها لأسعار السوق، إنه إنسان، وكما قد يتعرض هذا الإنسان لخسارة حلمه التعليمي، فلا ننسى أن تلك الكلية أيضًا قد تخسر طالبًا كان يُمكن أن يتفوق فيها ويخدم مجتمعه، لكنه يفقد فرصته في دخول كلية العلوم مثلاً؛ لأنه نقص درجة في امتحان البلاغة!
ثمة قول قديم يزعم “لا تسأل مليارديرًا كيف حقق مليونه الأول”. كم يشبه هذا القول نظام التنسيق العتيق، فإذا كان “المجموع” هو الهدف الذي لا يُسأل صاحبه بعده عن شيء، فلا تندهش من أن يسعى صاحبه لتحقيقه بكل وسيلة. يقولون: إن نظام التنسيق برغم عيوبه هو أفضل ما يمكن عمله أو هو “أحسن الوحشين”. لكن الحقيقة أن التطويرات الأخيرة للمناهج لن يكتمل أثرها الحقيقي من دون تعديل نظام القبول بالجامعات، وإلا فسوف “يهضمها” السوق ويستوعب أسلوبها بعد وقت طال أو قصر، ولكن هذا موضوع آخر.