صبر عازف العود المتجوّل، طويلاً، وبذل كل ما يمكنه كي يكتشف معنى “مصالح الدولة العليا”، لكنَّه هذه المرة كان حازماً: لابد أن تنتهي عملية البحث هذه فورًا، فلنقل أننا لم نعثر عليها، لنقل أنَّ الكلمات الثلاث لا معني لها، أو أنها سر خفي لن نتمكن من كشفه، مضطر للتعامل مع قانون رقم 430، قانون الرقابة على المصنفات الفنية، ومع مادته الأولى، التي حفظتها كنصٍ مقدَّس: “تخضع للرقابة المصنفات السمعية والسمعية البصرية، سواء كان أداؤها مباشراً، أو كانت مثبتة، أو مسجلة على أشرطة، أو أسطوانات، أو أيِّ وسيلة من وسائل التقنية الأخرى، وذلك بقصد حماية النظام العام والآداب ومصالح الدولة العليا”، لكن إن تمكنا من الإجابة على سؤالين فقط، فقد يكون الجهد الذي بذلناه حتي الآن له قيمة: هل هناك ولو مثال واحد فقط يدلنا على الكيفية التي ظهرت فيها هذه “المصالح” متصلة بمسألة فنية: أغنية، مسرحية، فيلم، منولوج؟. أما السؤال الثاني فهو: ألم يدرك أحد أنه يجب إزالة هذه الكلمات التي يستحيل ملامسة معانيها؟، فقد تم إصدار قانون جديد للمصنفات الفنية عام 1992، فلماذا لم يفعل (المسئولون: المشرعون والتنفذيون) شيئًا كي نرتاح؟
المثال الذي يطلبه عازف العود المتجوّل قد يجده في كتاب فتحي رضوان “72 شهرًا مع عبد الناصر”، فهو يستدعي بعض ذكرياته عن الفترة التي شغل فيها منصب وزير الإرشاد القومي، في الأيام التي أعقبت صدور القانون، وفي الفصل المعنون “ثقافة عبد الناصر”، يذكر فتحي رضوان ثلاثة مواقف له مع جمال عبد الناصر، متعلقة بالسينما، ويُمهِّد لهم بتأكيد “أن السينما كانت إحدى هوايات عبد الناصر المحببة إليه”، ويهمنا هنا هذين الموقفين، كما ذكرهما رضوان: “يوم حدثني (عبد الناصر) عن فيلم نسيت اسمه، واسم بطله، وكنتُ أرجّح أنه الفيلم الرائع “أريد أن أعيش” الذي مثلته “سوزان هيوارد”.
وقد قيل يومها إن بطلته صهيونية، أو أنها ذات ميول صهيونية عبَّرت عنها صراحة، أو شاركت في نشاط مؤسسة الجباية اليهودية التي تموّل إسرائيل وتجمع لها التبرعات من يهود الولايات المتحدة. وطلب بعضهم بمنع عرض الفيلم (في مصر بالطبع). ومنع الفيلم فعلاً لمدة طويلة ثم قال لي عبد الناصر: “متى تفرج عن الفيلم؟” فسألته: “وهل هو فيلم جيد، هل رأيته سيادتك؟” فقال بحماس: “طبعًا.. فيلم جيد، لا تسمع كلام هؤلاء الأغبياء”. وبعد تحريات قمت بها، وجدت أن التهمة الملحقة بالممثلة، لا دليل عليها، ورأيت الفيلم، فوجدته عملا فنيًا ممتازًا (…) ولستُ أنسى أنني حين أفرجت عن الفيلم، تلقيت تهنئة خاصة من عبد الناصر على ذلك.
الفيلم الذي يتحدث عن رضوان من إنتاج 1958، وقد نالت هيوارد عن دورها فيه جائزة الأوسكار. أما ما يتعلق بـ”مصالح الدولة العيا” فهي تلك الالتزامات القانونية التي تعهدت بها الدولة المصرية في إطار معالجة “القضية الفلسطينية”، ومن بين أدواتها مسألة المقاطعة، فقد كانت المقاطعة استراتيجيةً رسميةً عربيةً؛ إذ صدر عن جامعة الدول العربية عدد من القرارات، كان أولها القرار رقم 16 في 2 ديسمبر 1945، الذي طالب دول الجامعة بمنع منتوجات المؤسسات التجارية الصهيونية من دخول أراضيها، وطالب القرار كل المؤسسات والمنظمات والتجار والأفراد العرب برفض التعامل بالبضائع الصهيونية أو توزيعها أو استهلاكها.
الفيلم الذي أعجب عبد الناصر، أو أُعجب بالممثلة الرئيسية فيه، صدر عنه تقرير من مكتب المقاطعة في دمشق
وبعد قيام دولة الكيان الإسرائيلي، باتت المقاطعة أكثر تنظيمًا مع قرار مجلس الجامعة رقم 357 في 19 مايو 1951، الذي تضمن تأسيس جهاز يُشرف على عملية المقاطعة، يرأسه مفوض عام يُعينه الأمين العام للجامعة، ويعاون المفوض مندوب عن كل دولة بصفة ضابط اتصال تعينه حكومته. كما تضمن القرار إنشاء مكتب المقاطعة العربية لإسرائيل، ومقره في دمشق. وهذا يعني أن المقاطعة اندرجت في إطار تبني الجامعة للصراع ضد إسرائيل بوصفه صراعًا عربيًا- إسرائيليًا متعلق بالأمن القومي العربي.
هكذا، إذن، يتضح المثال، الفيلم الذي أعجب عبد الناصر، أو أُعجب بالممثلة الرئيسية فيه، صدر عنه تقرير من مكتب المقاطعة في دمشق، وقد عرفنا رأي عبد الناصر، وتحقيقات رضوان وقراره، وتهنئة الرئيس، والأهم وصفه من يطالب بمنع الفيلم بدعوى “صهيونية” الممثلة، بـ”الأغبياء”.
المثال الثاني يتعلق بنفس القضية، وإن كانت بتفاصيل أكثر دقة، ونتيجة مغايرة. ويصف رضوان تلك الذكرى بأنها “كانت بالنسبة لعبد الناصر، حرجًا مفرطًا. فقد طلب المخرج العالمي “سيسيل دي ميل” بأن يُقدم له تسهيلات هائلة في مصر عند إعادة إخراجه الفيلم الضخم “الوصايا العشر” على أن يبذل “سيسيل دي ميل” جهودًا خاصة لسرعة إدخال التلفزيون في مصر، ونفذ “عبد الناصر” وعده.
وتم إخراج الفيلم الذي يروي قصة خروج بني إسرائيل من مصر، وعلى رأسهم موسى عليه السلام، وعبورهم البحر الأحمر. ولما عرض الفيلم في الولايات المتحدة، ورآه العرب صاحوا: “إن هذه أكبر دعاية لبني إسرائيل، وأكبر دعاية ضد مصر”. فاضطر “عبد الناصر” لوقف عرض الفيلم في مصر. فجاءه “سيسيل دي ميل” محتجًا وهو يقول: “إن الفيلم يروي إحدى قصص القرآن ملتزمًا نصوص الكتاب الكريم غير محرّف لها في أي موضع ولا مضيف إليها حرفًا”. وقال لي “عبد الناصر”: “هل عرض قصة قرآنية أمر يُعاب” فقلت له: “أنا مع العرب، إن إظهار شعب مصر- ولو من آلاف السنين- في صورة المضطهد للأقلية اليهودية، وإظهار فرعون في ثوب الطاغية، يكسب قضية الصهيونية عطفًا، وعرضه الآن ليس عملاً فنيًا بل هو عمل سياسي بحت. وسكت عبد الناصر”.
فيلم “الوصايا العشر” صورت بعض مشاهده في مصر، وقد بدأ عرضه في الولايات المتحدة عام 1956، واعتبره مكتب المقاطعة دعمًا للصهيونية وطالب بمنع عرضه في البلاد العربية، لكن يبدو أن الموقف الحاسم في المنع جاء نتيجة مواقف “دينية- إسلامية” ترفض تجسيد شخصيات الأنبياء على الشاشة أو على المسرح. والمذهل للغاية هو رأي فتحي رضوان القائل بأنه لا يجب إظهار الفرعون في ثوب الطاغية، وإن كان كذلك بالفعل بنصوص دينية صريحة!، بالطبع يستحيل التشكيك في صدق تلك النصوص أو مطابقتها لوقائع التاريخ المثبتة بدقة، والتي لا يجد المؤرخ فيها أي صدى لتلك النصوص.
المثالان يدلان على أن التعبير الوحيد العلني عن مصالح الدولة العليا كانت تلك الالتزامات التعاقدية الجماعية في إطار الجامعة العربية والموجهة لدعم القضية الفلسطينية ومقاومة “الكيان” الإسرائيلي، الأهم أنَّ هذا الموضوع كان محلاً للنكاية السياسية، أما العنصر “الديني” فلم يك ظهوره متواترًا.
والمدهش في المثالين أن عبد الناصر كان مرنًا للغاية في هذه المسألة، وربما كانت ملاحظة رضوان المتعلقة بحب (عبد الناصر) للسينما هي الدافع، ربما اللاواعي، لكي يظهر موقفًا أكثر حرية من الوزير، أما أن يسكت الرئيس على قرار الوزير، الذي يعارض رغباته “الفنية- الدينية- الثقافية”، فمسألة تحتاج بحثًا ربما يذهب بكل صبر عازف العود، الذي ينتظر الإجابة على سؤاله الثاني.
لن نجد شيئًا مفيدًا في نص قانون رقم 38 لسنة 1992، الذي أدخل تعديلات كثيرة على قانون 430 لسنة 1955، والذي أبقى على الثلاثة “الخطير”: النظام والآداب العامة ومصالح الدولة العليا
لن نجد شيئًا مفيدًا في نص قانون رقم 38 لسنة 1992، الذي أدخل تعديلات كثيرة على قانون 430 لسنة 1955، والذي أبقى على الثلاثة “الخطير”: النظام والآداب العامة ومصالح الدولة العليا، لكننا سنجد شيئًا مفيدًا في قرار رئيس مجلس الوزراء (الدكتور عاطف صدقي) رقم 162 لسنة 1993، بشأن اللائحة التنفيذية لتنظيم أعمال الرقابة على المصنفات السمعية، والسمعية البصرية، صحيح أنه لم يقارب مطلقًا مصالح الدولة العليا، لكنه فصل في تبيان ما يعنيه القانون واللائحة تحديدًا بكلمتي: النظام والآداب العامة. فنص المادة الثامنة من اللائحة كالتالي: “يلتزم القائمون بالرقابة على المصنفات الفنية عند النظر في طلب الترخيص بأي مصنف مراعاة ألا يتضمن المصنف أو ينطوي على ما يمس قيم المجتمع الدينية والروحية والخلقية أو الآداب العامة أو النظام العام. ولا يجوز على وجه الخصوص الترخيص لأيّ مصنف إذا تضمن أمراً من الأمور الآتية: الدعوات الإلحادية والتعريض بالأديان السماوية. تصوير أو عرض أعمال الرذيلة أو تعاطي المخدرات على نحو يشجع على محاكاة فاعليها. المشاهد الجنسية المثيرة وما يخدش الحياء والعبارات والإشارات البذيئة. عرض الجريمة بطريقة تثير العطف أو تغري بالتقليد أو تضفي هالة من البطولة على المجرم”.
عازف العود المتجوّل يريد أن يلتزم بقراره، لكن الخاطر “الخطير” الذي لاح له مزعج، فهو لم يتقبل فكرة أن الدولة نفسها لا تعرف مصالحها العليا، وأن صمتها هذا صمت حرج لا صمت حكمة
ها هو عازف العود المتجول قد حصل على إجابتي سؤاليه “الحاسمين”، وقد وعد- جازمًا- أنه لن يعاود السؤال عن ماهية “مصالح الدولة العليا”، فالدولة نفسها بمؤسساتها التشريعية (مجلس الشعب الذي أصدر قانون 1992)، ومؤسساتها التنفيذية (رئيس الجمهورية) لم تكترث بحيرته الطويلة، وحتى الدكتور عاطف صدقي، رئيس مجلس الوزراء، لم ينطق ولو حرفًا واحدًا عنها (مصالح الدولة العليا)، بينما فصل القول في الدين والجنس والمخدرات.
ويبدو أن عازف العود المتجوّل يريد أن يلتزم بقراره، لكن الخاطر “الخطير” الذي لاح له الآن مزعج، فهو لم يتقبل فكرة أن الدولة نفسها لا تعرف مصالحها العليا، وأن صمتها هذا صمت حرج لا صمت حكمة. فلو أنها تعرف ولا تخبرنا لكانت كأنها تنصب لنا فخًا، وهذا أسوأ من الجهل والحرج، هذا سلوك “عدائي”، وربما عازف العود لا يعرف، لكنه يتصور أنه أيضًا سلوك غير قانوني وغير مشروع، ولذلك غادر وهو يردد بصوت خافت: إلى أين؟، ثم بصوت مرتفع: ويعتبر في حكم الأمكنة العامة المقاهي وما يماثلها والنوادي الاجتماعية والرياضية والفنادق ووسائل المواصلات العامة.
لمطالعة الأجزاء السابقة