في ظل التطورات الميدانية المتلاحقة إثر التصعيد العسكري المحموم الذي تقوم به حركة طالبان، منذ مايو الماضي، والذي أسفر عن سيطرتها على قرابة 85% من الأراضي الأفغانية، وتشمل معابر حدودية مهمة، من الناحيتين الأمنية والاستراتيجية، وكذا التجارية، دشنت محادثات بين الحركة الإسلامية المسلحة والحكومة الأفغانية، في العاصمة القطرية الدوحة، لجهة بحث سبل السلام والتهدئة وخفض الصراع.
المحادثات التي بدأت، مطلع الأسبوع الحالي، بين ممثلين للحركة والحكومة، لا تعد الأولى، فقد سبقتها لقاءات مماثلة في طهران، مطلع الشهر الحالي، والتي تزامنت مع تنفيذ عناصر طالبان هجوماً مسلحاً وعسكرياً على ولاية بادغيس، غرب أفغانستان، حيث إن وزارة الخارجية الإيرانية قد أبدت قلقها من تدهور الأوضاع الأمنية في المناطق المتاخمة لحدودها، والتي تعد منطقة أقليات قومية ودينية، وذات غالبية سنية؛ الأمر الذي يثير مخاوف حكومة الملالي، خاصة وأنّ هناك ملايين اللاجئين الأفغان في إيران، بعضهم يحظى بوثائق رسمية، والبعض الآخر بلا أوراق ثبوتية، والأخير يتم تعبئتهم في الميلشيات التابعة للحرس الثوري، كما هو الحال في فيلق “فاطميون” في سوريا.
تجمدت محادثات السلام بين الطرفين لبضعة شهور، قبل أن تنطلق، مجدداً، مطلع الشهر الحالي، غير أن النتائج تتراجع على خلفية احتدام الصراع مع حكومة كابول، والتقدم العسكري الذي تحققه الحركة، وسيطرتها على نحو 150 منطقة، بما فيها القواعد العسكرية التابعة للحكومة.
وقالت المتحدثة باسم الوفد الحكومي المفاوض ناجية أنواري إن “الوفد الرفيع المستوى موجود هنا للتحدث إلى الجانبين وتوجيههما ودعم فريق التفاوض (التابع للحكومة) لتسريع المحادثات وتحقيق تقدم”.
وتابعت أنواري: “نتوقع أن يسرع ذلك المحادثات.. وخلال وقت قصير سيتوصل الطرفان إلى نتيجة وسنشهد سلاماً دائماً وكريماً في أفغانستان”، كما أوضح عبد الله عبد الله، رئيس المجلس الأعلى للمصالحة الوطنية في الحكومة، أنّ المحادثات سوف تستغرق يومين، وأردف: دعونا نتخذ خطوات مهمة لمواصلة عملية السلام لمنع قتل الناس “لأننا لا نستطيع دفع ثمن هذا بالدم ولا يمكننا التملص من المسؤولية عن ذلك”.
كما لفتت وكالة الأمم المتحدة للمساعدات الإنسانية إلى أن “أكثر من ألفي شخص نزحوا في قندهار هذا الشهر”، وقد أعلن حاكم إقليم قندهار، الجمعة الماضية، حظر التجول في مدينة قندهار ليلاً بسبب القتال”. وتقدر المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين أن “270 ألف أفغاني نزحوا داخل البلاد منذ ينكانون الثاني (يناير) الماضي، مما رفع عدد من اضطروا لترك ديارهم إلى أكثر من 3.5 مليون”.
محادثات الدوحة.. انطلاقة أمريكية نحو الانسحاب من أفغانستان
ومثلت محادثات الدوحة، عام 2019، بين طالبان والولايات المتحدة نقطة انطلاقة أمريكية نحو الانسحاب من أفغانستان، بحسب المراقب السابق لدى الأمم المتحدة الدكتور كامل الزغول.
ويضيف لـ”مصر 360″: “لكن التفاوض لم يكن فقط حول الانسحاب بل كان حول مصالح الطرفين في حالة الانسحاب. ويبدو بأن المفاوضات أفضت إلى خارطة طريق لما ستؤول اليه الاحداث لاحقاً”.
الرئيس جو بايدن خلال خطابه ركز على ثقته بقوات الحكومة الافغانية. وألمح بعد انسحاب 90% من قواته من افغانستان إلى أنه لا يثق في طالبان وشجع على تفاوض الأطراف مع بعض، كما يلفت الزغول.
ويردف: “في الوقت نفسه أعلنت طالبان أنها ستعرض مبادرة سلام من خلال مفاوضات سلام خلال شهر بعد الانسحاب. وبالفعل أتت فكرة المفاوضات من جديد بين الحكومة الأفغانية وطالبان في الدوحة هذه الأيام كبديل عن مفاوضات طالبان –أمريكا، مما يثبت لدى أي مراقب أن الخطة الأمريكية في العالم تسير حسب ما رسم لها، وكما اتفق عليها مع طالبان.
واللافت أن كل ذلك تزامن مع إرسال طالبان وفوداً إلى موسكو وطهران. الأمر الذي يبرز تحركات دبلوماسية جديدة ولافتة للحركة، بخلاف التعاطي السابق.
كما أن “هذه الأحداث تظهر بأن أمريكا مع حلفائها مثل باكستان وتركيا تمكنوا من صياغة مشهد أفغاني مختلف عن السابق. فإن اتفق الأفغان استفادت أمريكا عن طريق الحلفاء، وإن لم يتفقوا استفادت بخلق أجواء مشحونة على خطوط التماس العسكري مع الروس وأعاقت مشاريع الصين بخلق بيئة غير آمنة”. يقول الزغول.
ويرى المراقب الأممي السابق أن أمريكا باتت تقدر نسبة الأراضي التي ستحتلها طالبان، وإذا زادت الحد المسموح يأتي دعم واشنطن للحكومة الأفغانية لإحداث التوازن. بمعنى أن الانسحاب يخدم المصالح الأمريكية بضمانات طالبانية تلعب فيها الحركة دوراً كبيراً، ليس فقط في المشهد الداخلي الأفغاني بل في الوضع الجيوسياسي للمنطقة.
ويختتم: “تقدير الولايات المتحدة بأن طالبان لن تسمح بدخول الروس أو الإيرانيبن، أو أي قوة اجنبية أخرى، حيث أسهم في في سرعة انسحاب القوات الامريكية لأنها تريد هذه المنطقة كحصن منيع ضد المنافسين لها دون استخدام قواتها فيها. أيضا إنشاء وضع جديد يعيق تحرك الروس إلى أبعد من أفغانستان، ولذلك أصبح من الضروري خلق خط تماس عسكري وسياسي مع الروس وتوزيع القوات في أفريقيا والمحور الآسيوي”.
الخلاصة، المفاوضات بين طالبان والحكومة الافغانية ستستمر بغض النظر عن الفشل أو النجاح وستوفر الدول الحليفة الأجواء المناسبة لذلك. ومن الممكن حدوث اختراقات لتحقيق شيء ما، لأن صياغة النظام العالمي الجديد يتطلب تنازلات أمريكية صغيرة لجهات ثورية في سبيل منع صعود أقطاب وحدوث اختراق قطبي تحققه الصين.
مشاهد أمريكية أخرى لاستنزاف المنافسين
ومن المتوقع بالنسبة للولايات المتحدة ترك المشهد الافغاني والدخول في مشاهد أخرى لاستنزاف المنافسين، ومن هذه المشاهد، بحسب المراقب السابق لدى الأمم المتحدة، ميانمار وكمبوديا وخليج البنغال وبحر الصين الجنوبي وتايوان. وبشكل دقيق، لخص بايدن في خطابه الأخير سياسة الولايات المتحدة تجاه أفغانستان في الماضي والحاضر وما ستؤول إليه هذه السياسة في المستقبل. فالسياسة لدى الدول العظمى لا تتوقف عند الهزيمة او الانتصار وإنما تسير حسب الخطط الموضوعة لها. وتستخدم انتصار الثورات كطُعم جيوسياسي تصطاد به عدواً ثالث كبير الحجم.
وإلى ذلك، يوضح مصطفى مستور، كبير مستشاري الهيئة العليا للمصالحة الوطنية، أن طالبان تسعى خلال المفاوضات إلى تغيير الدستور ونظام الحكم في البلاد، موضحاً أن “هناك وفد مكون من 9 أعضاء من النخبة السياسية اتجه إلى الدوحة للمشاركة في المفاوضات مع طالبان، التي ستبدأ السبت وتستمر ليومين للتباحث في قضايا جوهرية وسنرى إن كان الوقت كافيا.. العرض الذي قدم إلى حركة طالبان للقدوم إلى أفغانستان وإجراء المباحثات كون الأمر يتعلق بمحادثات أفغانية أفغانية.. المجلس الأعلى للمصالحة والوطنية ورئيس المجلس دعوا طالبان للتباحث.. لكننا نعتقد أنّه في الوقت الراهن هناك رغبة لمناقشة القضايا الجوهرية في الدوحة وهذا ما يهمنا لإحلال السلام في أفغانستان”.
وفي حين أنه من المرجح توقف المعارك وأعمال العنف، خلال أيام عيد الأضحى، فقد كشف تقرير صادر حديثاً عن دوائر الاستخبارات الأمريكية، أن حركة طالبان في أفغانستان تتقدم “بوتيرة متسارعة”، بخلاف توقعات الإدارة الأمريكية، وهو ما يصنع “صورة قاتمة” عن المستقبل الأمني لأفغانستان.
وبحسب شبكة “سي إن إن” الأمريكية، التي حصلت على نسخة من التقرير الاستخباري، فإن التقييمات الأخيرة اعتبرت أن “العاصمة كابول ستضحى محطة أخيرة لحركة طالبان، التي من المرجح أن تستهدف مراكز سكانية كبيرة قبل التقدم نحو العاصمة”.
لا تختلف التقديرات الاستخبارية الأمريكية عن آراء باحثين ومراقبين، فقد أوضح معهد واشنطن، أن الانسحاب الكامل للقوات العسكرية الدولية سيؤدي إلى نشوب “حرب أهلية” أفغانية، أعنف مما هي عليه الآن. كما رجح أن “مقاتلي “طالبان” المنتمين بشكل كامل إلى التنظيم، والبالغ عددهم نحو 60 ألف مقاتل، والميليشيات المختلفة، وما تبقى من الجيش الأفغاني، سوف يتنافسون كلهم على السلطة في الداخل وعلى السيطرة على كابول، لتبدأ بذلك مرحلة جديدة من النزاع في البلاد”.
وأردف: “من شبه المؤكد أن تنهار الحكومة الأفغانية الحالية في حال سحب المجتمع الدولي دعمه المالي الراهن أو وجد صعوبة كبيرة في توزيعه بسبب مشاكل متعلقة بالسلامة. والملفت هو أن الحكومة الأفغانية السابقة المدعومة من الاتحاد السوفياتي صمدت عند الانسحاب العسكري السوفياتي عام 1989، لتعود وتنهار عام 1992 حين أوقفت موسكو دعمها المالي عنها”.
وبينما ستركز حركة “طالبان” بمعظمها، كما والقوى المتخاصمة الأخرى، على السيطرة على أفغانستان، ستزداد في الوقت نفسه جرأة بعض التنظيمات الإرهابية الأخرى التي، بالرغم من وجودها في أفغانستان، تتفرغ للاعتداء على الحكومات الغربية والإسلامية ومدنييها خارج البلاد.
بحسب المعهد الأمريكي. وتشمل هذه التنظيمات “فرع “الدولة الإسلامية” في أفغانستان ومخلفات “القاعدة” في أفغانستان وباكستان. وبحسب التقرير الصادر للتو عن مجلس الأمن، لا تزال العلاقة وطيدة بين حركة “طالبان” – وبالأخص “شبكة حقاني” التابعة لها – وتنظيم “القاعدة”، وهي علاقة قائمة على الصداقة وعلى تاريخ مشترك من النضال والتعاطف الإيديولوجي والتزاوج””.