هو ذكرى الثورة المصرية التي أسقطت النظام الملكي وأسست للنظام الجمهوري، وغيَّرت من الحياة الاجتماعية في مصر، وتبنَّت الوحدة العربية؛ ومع ذلك فهو بالنسبة للبعض ليس يومًا للنقاش ولا النقدن إنما يوم التنابذ والهجاء وتصفية الحسابات، حتى غابت أهمية مناقشة حدث تاريخي بوزن 23 يوليو؛ سواء بالاتفاق أو الاختلاف مع تجربته.
وغدًا تمر الذكرى التاسعة والستين لثورة يوليو، وينتظر كثيرون معارك “الفيس بوك” وخناقات “مواقع التواصل الاجتماعي” وكأنّ ليست هناك قضايا أخرى يجب أن تشغل بالنا غير الغوص في تفاصيل الماضي، والحديث عن تجربة تظل بنت عصرها وسياقها التاريخي، ونُقيِّمها بأدوات القرن الواحد والعشرين وأولوياته.
ماذا كانت أولوياتك في ذلك الوقت وأولويات بلدك؟، وما القيم التي دافع عنها المجتمع وجعل الملايين تؤمن بثورة يوليو وتحب عبد الناصر وتدعم انتصاراته وترفض أخطاءه؟
من المؤكد أن بيننا كثير من الناس ولدوا في 23 يوليو 1952، وهناك من ولدوا قبلها وبعدها، وأنّ السؤال الذي يجب أن يُطرح على هؤلاء قبل أيِّ نقاش حول يوليو، ماذا كانت أولوياتك في ذلك الوقت وأولويات بلدك؟، وما القيم التي دافع عنها المجتمع وجعل الملايين تؤمن بثورة يوليو وتحب عبد الناصر وتدعم انتصاراته وترفض أخطاءه.
“23 يوليو 52” جاءت عقب فشل حزب الوطنية المصرية الأكبر- أيّ الوفد- في تحقيق الاستقلال، بعد أن تآمرت عليه قوى كثيرة جعلته يصل للحكم بأقل من 7 سنوات غير متصلة، في الفترة ما بين ثورة 1919 وحتى ثورة 1952 رغم شعبيته الجارفة.
المصريون في مجملهم دعَّموا مبادئ يوليو؛ لأن كل مصري وطني وُلد في ذلك الوقت كانت أولوياته تحقيق الاستقلال وخروج المستعمر، فحققت له “يوليو” الجلاء، وأعلنت الجمهورية التي أصبحت مصدر شرعية نظامنا السياسي، ثم قاد عبد الناصر معارك التحرر الوطني، وأمم قناة السويس وبنى قاعدة صناعية كبرى ونهضة ثقافية.
في عصر التحرر الوطني في مصر، كما في دول العالم الثالث أعطت الجماهير الأولوية إلى التحرر من الاستعمار وتحقيق الاستقلال الوطني قبل الديمقراطية، وظهر في ذلك الوقت جيل من “الضباط الثوريين”، الذين أسسوا تنظيمات سرية مثل نظرائهم المدنيين، وقاموا بالثورة على النظام القائم، كما فعل الضباط الأحرار وغيرهم في مختلف بقاع الدنيا.
صحيح أنَّ وضعية الجيوش المُسيَّسة التي اخترقتها التنظيمات السياسية في عصر محاربة الاستعمار، تغيَّرت في عصر ما بعد التحرر من الاستعمار، وأصبحت الجيوش مهنية محترفة ولم يعد مقبولاً في كل الجيوش الوطنية المعاصرة أن تكون ساحة للتنظيمات السياسية والتناحر الحزبي.
ولذا يجب تقييم ثورة يوليو بوضعها في سياقها التاريخي بأولوياته السياسية والاجتماعية، وهو ما جعلها تصمم نظامًا سياسيًا مخالفًا للنظام الذي عجز عن تحقيق الاستقلال، فالأحزاب تم حلها لأنها أيضًا عجزت عن تحقيق الاستقلال الوطني بما فيها دُرة الحركة الوطنية المصرية (حزب الوفد)، كما أنّ بعضها تواطأ تارة مع القصر وتارة مع الاحتلال، وتم إسقاط الدستور الذي لم يُحترم كثيرًا إبّان العهد الملكي، وأحل مكانه شرعية ثورية أسست لنظام جديد على أسس ثورية لا دستورية ولا ديمقراطية.
السياق التاريخي حاسم في تقييم أيّ تجربة سياسية، فكل تجربة هي بنت عصرها وأهمية “يوليو” أنها امتلكت مشروعًا سياسيًا تحرريًا ملهمًا، وامتلكت في نفس الوقت نظامًا سياسيًا غير ديمقراطي وغير ملهم.
تجربة “يوليو” لم تكن ورديّة كما يصورها البعض ولا كلها سوء وسواد كما يصورها البعض الآخر.. وكثير من المجتمعات تستدعي ثوراتها وتحتفل بها من منطلق استدعاء القيم والمبادئ، لا النظام وأدواته
يقينًا تجربة “يوليو” لم تكن ورديّة كما يصورها البعض ولا كلها سوء وسواد كما يصورها البعض الآخر، فعبد الناصر مسئول عن هزيمة 67، حتى لو اعترف بمسئوليته عنها واستقال، ومسئول عن تجاوزات أمنية حاول أن يصححها متأخرًا، ومسئول أيضًا عن التوسع في التأميم حتى طال قطاعات غير استراتيجية لم يكن مطلوب تأميمها.
بالمقابل، فعبد الناصر السياسي انشغل منذ اللحظة الأولى بالجماهير وبتنظيمها، وبحث واجتهد حتى استقر على صيغة التنظيم السياسي الواحد الذي لم تخرج كل تجارب العالم الثالث (باستثناء الهند) والتجارب الاشتراكية عن هذ المفهوم، وبالتالي فإنّ حل الأحزاب على ما فيه من أضرار للحياة السياسية والديمقراطية المصرية فإنّه كان “التصور المعتمد” لدى قادة التحرر الوطني في العالم كله، باعتباره الطريق لتوحيد الأمة من أجل الاستقلال والتقدم.
يبقي أنّ كثيرًا من المجتمعات تستدعي ثوراتها وتحتفل بها من منطلق استدعاء القيم والمبادئ، لا النظام وأدواته، فالفرنسيون الذين احتفلوا الأسبوع الماضي مثل كل عام بثورتهم (14 يوليو)، لم يكن احتفالاً بالمقصلة وبالدماء التي سيلت بين رفقاء الثورة أنفسهم، ولا بثورة أسقطت الملكية وبشرت بالجمهورية وتحولت إلى إمبراطورية أكثر سوءًا من الملكية التي ثار عليها الشعب، إنما احتفلوا بقيم الثورة وبمشروعها السياسي في الحرية والمساواة والإخاء؛ حتى أصبحت مبادئها هي الإطار القيمي للنظام السياسي القائم والمستقر منذ عقود.
السؤال المطروح في مجتمعنا: هل يمكن أن نصل إلى هذه الصيغة التي تُؤسس للمستقبل فتعتبر أنّ قيم “يوليو” كانت التحرر الوطني والمساواة بين الشعوب والعدالة والنظام الجمهوري والدستور المدني لدولة وطنية راسخة، وهي التي علينا أن نتمسك ونحتفل بها مثل كثير من تجارب التحرر الوطني في العالم الثلاث كله؟
كثيرون يعتبرون أيّ استدعاء لثورة يوليو هو استدعاء لنظام غير ديمقراطي لم يحترم حقوق الإنسان، في حين أنّ المطلوب ليس استدعاء النظام، إنما الاعتزاز بقيم المشروع التي غيّرت خريطة العالم منذ تأميم القناة وانتصار السويس
الحقيقة لا زلنا بعيدين عن هذه المعاني؛ لأن هناك كثيرين يعتبرون أيّ استدعاء لثورة يوليو هو استدعاء لنظام غير ديمقراطي لم يحترم حقوق الإنسان، في حين أنّ المطلوب ليس استدعاء النظام، إنما الاعتزاز بقيم المشروع التي غيّرت خريطة العالم منذ تأميم القناة وانتصار السويس ووضعتنا كرقم في معادلاته بصرف النظر عن حجم الإخفاقات والأخطاء.
يقينًا لو حسمت مصر أولوياتها ونظرت للمستقبل، فإنها ستضع “يوليو” في سياقها التاريخي وسيكون هناك مختلفين حول توجهها الاجتماعي فيرفضون اشتراكيتها، وهناك من يعتبرون أنه كان من الأفضل الإبقاء على التجربة الحزبية، وهناك بالطبع من سيرى العكس، ولكن سيتفق المؤيدون والمعارضون على أن مصر أصبحت جمهورية بفضل “يوليو”، وهو جوهر نظامنا السياسي، ومستحيل التراجع عنه، وأن دولتها الوطنية راسخة بفضل محمد على وثورة يوليو، وبقي احترام دستورها المدني وبناء دولة القانون التي غابت في عصر التحرر الوطني وأصبحت أولوية في عصر ما بعد التحرر الوطني الذي نعيشه حاليًا.