عاصفة أثارها كتاب “في نقد التقليد الكنسي” للباحث محمد هنداوي. الذى يعتز بعمامته الأزهرية. فيلقب نفسه بالأزهري. إذ يعمل مشرفا عاما على الأكاديمية الإسلامية في النرويج. وسبق له أن حصل على درجة الماجستير في الخلاف بين البابا شنودة والقمص متى المسكين محللا تلك الصراعات اللاهوتية التي لا تخلو من السياسة.
انتقل جدل الكتاب من رفوف معرض القاهرة الدولي للكتاب إلى ساحة السجال بمواقع التواصل الاجتماعي. حيث أثار هنداوي بعمامته وسمته الأزهري فضولًا في الشارع المسيحي. بعد أن تولى الترحيب بهذا الكتاب فور صدوره مجموعة من الباحثين الشباب المتخصصين في اللاهوت الأرثوذكسي، قالوا إنهم لم يطلعوا على نص الكتاب لكنهم ساعدوا الباحث بالمراجع المتخصصة.
حين تغلق المقدمة بابًا على المتون
يبدأ كتاب نقد التقليد الكنسي بثلاث مقدمات. كتب الأولى الدكتور عبد الرحمن جيرة وكيل كلية أصول الدين بالقاهرة سابقًا. جاءت منضبطة تحتفي بالباحث. وما قدمه في بحث الماجستير متمنيًا أن يفتح كتابه الذى لقبه بالمتخصص آفاقا معرفية جديدة
أما المقدمة الثانية، كتبها علي الريس الباحث في مقارنة الأديان. بدأت كما يقول المثل الدارج “أول القصيدة كفر” فيقول في سطره الأول بعد الصلاة على النبي محمد إن الشريعة ويقصد الإسلامية. جاءت كاشفة عن أسباب انحراف الأمم السابقة. لتحصين الأمة من السقوط فيما سقطوا فيه. “بتلك المقدمة يستهل الريس هجومه على الكنيسة وتقليدها وينتهي بالقول إن دراسة الموروث الآبائي للكنيسة هو مدخل لتصحيح الانحراف عن الصراط المستقيم”. وهنا يصدر هنداوي كتابه بتلك النبرة الهجومية التي تجعل القارئ متحفزًا لبحثه أيا كان ما سيأتي فيه.
ينقسم الباحثون فيما يسمى مقارنة الأديان إلى قسمين الأول يضم المسلمين وغير المسلمين. وحتى غير المؤمنين الذين يدرسون الدين في علاقته بالتاريخ والأسطورة والأركيولوجيا والحضارة كيف نشأ وكيف تطور وكيف تم تدوينه وكيف وصل إلى ما وصل إليه بين أيدينا الآن. وما هي السياقات الحضارية والثقافية التي ساهمت في تشكيله وما الظروف السياسية التي أدت إلى ذلك.
ولعل الباحث السوري فراس السواح هو أحد أشهر العرب الفاعلين في هذا المجال من باحثي التيار الليبرالي الذى يسبر أغوار البحث دون نتائج مسبقة.
هل يمكن اعتبار الكتاب ضمن بحوث مقارنة الأديان؟
أما القسم الثاني من باحثي مقارنة الأديان فهم دائما من المسلمين الذين يرون في تلك المقارنة محاولة للتأكيد على إن الإسلام هو الحقيقة الواحدة الصحيحة والمطلقة. يتبعون في ذلك منهج ينال من عقائد الأخر. ويميل إلى نقضها وليس نقدها. وغالبا ما يذهب الباحث إلى مباحثه تلك بنتائج مسبقة وبرأس متحفظة غير مهيأة لنتائج البحث وكشوفه ومفاجأته ولعل علي الريس الذى كتب تلك المقدمة من هذا التيار.
يمكن للقارئ المتمرس أن يتعرف على تلك الكتابات من بعض الكلمات المفتاحية مثل “تحريف الكتاب المقدس، الضلال، التيه”. وهكذا وكأن بحثه جاء كردة فعل على أفكار الآخرين يشترك في ذلك علم أخر ذائع الصيت في الكنيسة الأرثوذكسية وهو علم “الدفاعيات” أو اللاهوت الدفاعي إذ يعمل الباحثون في هذا المجال على طريقة “الرد على الشبهات” فتجد أغلب ما يكتب فيه ردود على ما طرحه آخرون بشكل رد فعلي بحت.
بينما تأتي المقدمة الثالثة لهذا الكتاب موقعة باسم الدكتور سامي العامري المشرف على مبادرة البحث العلمي للمذاهب المعاصرة والأديان. وهي مقدمة تقع في منطقة وسطى بين المقدمة الأولى والثانية. ولكنها تستخدم التعبير القرآني “النصارى” في وصف المسيحيين. وهو مصطلح سئ السمعة بين أوساط المسيحيين. ببساطة لأن المسيحي يحب أن يلحق اسمه باسم المسيح منتميا له. وفيه فيصير مسيحيا بالروح وبالمعمودية وبالاسم أيضًا. أما القرآن الكريم فيختار لفظا عربيا نسبة إلى يسوع الناصري وبلدة الناصرة. فيقول نصارى أي أتباع الناصري. وهو تعبير عادة ما يستخدمه المسيحيون في إطار التعبير عن شعورهم بالغضب مما يقال ضدهم على المنابر.
كذلك فمن ناحية تاريخية فإن الأقباط المصريين بمختلف طوائفهم ليسوا نصارى. فالنصارى كانوا غالبا مثلما اتفق أكاديميا من مسيحيي شبه الجزيرة العربية مثل قبائل الغساسنة ونصارى نجران وبين مسيحي شبه الجزيرة ومسيحي مصر المعاصرين بون شاسع وخلافات عقيدية محضة إضافة إلى مبدأ بسيط مفاداة “لا يحق لك أن تطلق على شخص تسمية تراها أنت ولا يحبها هو”، هكذا فعل العامري في مقدمته تلك.
بين النصارى والمسيحيين.. حين يسجن الكاتب خلف سور المصطلح
تقترب التسمية ذات الطابع الإسلامي “نصارى” من تسمية موازية أطلقها بعض المستشرقين على الإسلام في بداية ظهوره حين عرفته أوروبا يتعرض لها المفكر الكبير إدوارد سعيد في كتابه الاستشراق، إذ كان بعض المستشرقين يطلقون على الإسلام “المحمدية” نسبة إلى محمد فيتم التعامل مع الإسلام كبدعة مسيحية مثل الأريوسية والنسطورية حتى تم التعامل معه كدين مستقل له أتباع وليس مجرد بدعة مسيحية وهي نظرة يتساوى فيها العامري مع هذا التيار الاستشراقي من زاوية النظرة المركزية للإسلام وكأنه مركز الدائرة الذى نستمد منه تسمياتنا للديانات الأخرى وأتباعها فإذا أطلق القرآن نصارى على المسيحيين فيصيروا نصارى رغمًا عنهم وبتلك الطريقة الاستعلائية المحملة بالدلالات المعرفية.
فيما عاد هنداوي إلى بحثه الذى قدم من خلاله مصادر التقليد الكنسي الخمسة والمعايير التي يجب أن تتبعها الكنيسة القبطية لبيان صحة أرثوذكسيتها فهل هي أرثوذكسية حقًا أم سقطت في فخ الهرطقة وينتهي به المقام إلى هرطقتها.
يفند هنداوي في كتابه فرضيتين يتعلقان ليس فقط بمصادر تقليد الكنيسة القبطية بل بنشأتها ككنيسة مرقسية أسسها مارمرقس كاروز الديار المصرية فيرى أن مرقس ليس من كتاب الأناجيل الأربعة بل إنه لم يكن من رسل المسيح السبعين وقد كان كاتبًا لبطرس الرسول وهو رأس الكنيسة الكاثوليكية، كذلك فإن هنداوي يميل إلى إن مرقس لم يدخل مصر كارزًا ومبشرا بالمسيحية بل كانت موجودة قبله بين بعض جماعات اليهود الذين تنصروا.
ينطلق هنداوي بعد ذلك ليكتب عن الليتورجيا كمصدر من مصادر التقليد والفن الكنسي ثم المجامع الكنسية ثم يقدم نقدا للمجامع في ضوء هذا التقليد.
يعيد هنداوي بكتابه هذا الجدل الذى أثاره كتابي “مقتل الأنبا ابيفانيوس” من قبل رغم الخلاف بين مواضيع الكتابين فقد قدمت كتابًا صحفيًا يرصد صراعات الكنيسة المعاصرة ولم اتطرق إلى اللاهوت كعلم لا أعرف منه إلا النذر اليسير ونتيجة لما أثاره الكتابين انطلق الأنبا أغاثون أسقف مغاغة والعدوة ليضع الكتابين في كفة واحدة لأن مؤلفيهما مسلمان بل يصل إلى نتيجة مفادها إن تلك الكتب قد تمت كتابتها على يد “المقطوعين والمهرطقين” من المسيحيين ونسبها المسلمون إلى أنفسهم.
هل يحق للمسلمين التنظير في اللاهوت القبطي؟
تجاوزت الجامعات والمعاهد البحثية وحتى الفكر الإنساني الربط بين هوية الكاتب العرقية أو الدينية وبين ما يقدمه من مادة في بحثه أو كتابه، ولم تعد تلك الفرضيات تناقش في عصر العلم والمعرفة بينما يصر البعض على ترك المتن في محاولة للتمسك بالهوامش.
في ذلك يقول الباحث واللاهوتي دكتور صموئيل أرمانيوس: وفيما يخص مَن يقول ما علاقة شيخ أزهري بتراث الكنيسة، ففي الحقيقة تراث الكنيسة هو جزء مِن التراث الإنساني، ومكوّن أساسي مِن مكونات المجتمع، لذلك فلكل إنسان الحق في دراسة التراث الكنسيّ، كما أنَّ في أوروبا معاهد وأقسام متخصصة لدراسة ونشر التراث الإسلامي باعتباره جزء مكوّن للتراث الإنسانيّ.
في نفس السياق، فإن كتابًا آخر يجري إعداده حاليا للرد على كتاب هنداوي يحمل اسم “في نقض نقد التقليد الكنسي” كمحاولة للرد على الفكر بالفكر دون التورط في سجالات إلكترونية لا تسمن ولا تغني من جوع.