1- القطيعة مع الماضي
ينبغي أن نعترف أنَّ لنا علاقة مضطربة بتاريخنا، ليس المعاصر والحديث فقط، بل والأقدم من ذلك أيضًا. قليل من الشعوب يتعامل مع الوقائع التاريخية الحاسمة في تاريخه على أنَّها موضوع للصراع في الحاضر. التاريخ في حياة كثير من الشعوب الأخرى يحيا بسبل مختلفة، في الكتب الأكاديمية والمدرسية، في المتاحف، في الوثائقيات والأعمال الدرامية، وفي أشكال مختلفة من التعبير الفني. والمثير للاهتمام أنَّ تاريخنا يحيا بقدرٍ متواضع للغاية بأيِّ من هذه الصور لدينا. في المقابل يحيا تاريخنا بالنسبة لنا في صورة مشاحنات متكررة حوله، تتجدد في مناسبات إما دورية أو عارضة، وفي أحيان أخرى دون مناسبة.
فيما يتعلق بهذه الأحداث أيضا يدور الخلاف حول التوصيف نفسه، نكسة أم هزيمة، نصر أم هزيمة جديدة، ضرورة سياسية أم خيانة، ثم يحتدم أيضا حول ما قبل وما بعد كل حدث منها.
قبل أيام مرت الذكرى التاسعة والستون للثالث والعشرين من يوليو 1952. كما هي العادة احتدم النقاش أو بالأحرى الشجار حول المناسبة وكل ما يتعلق بها، بدءًا بالخلاف حول توصيف الحدث نفسه (ثورة أم انقلاب)، ومرورًا بالمقارنة بين الأوضاع قبل وبعد الحدث، بين العصر الذهبي لليبرالية في مصر وبين عصور الانحدار في ظل حكم الزعيم الأوحد والحزب الواحد، عند البعض، في مقابل المقارنة بين عصر الاحتلال الأجنبي والملكية الفاسدة والإقطاع والرأسمالية المستغلة وبين التحرر من الاحتلال وإسقاط الملكية وإتاحة أكبر حراك اجتماعي شهدته مصر في تاريخها في ظل تجربة الاشتراكية الناصرية، عند البعض الآخر. وتلك فقط بعض النقاط العامة التي يتصارع حولها المتحاورون بحماس شديد.
ليس حدث ثورة يوليو هو الوحيد الذي تتسبب ذكراه في مثل هذه المعارك الساخنة، ثمة في تاريخنا المعاصر أحداث أخرى تستدعي معارك خاصة بها، نكسة 1967، نصر أكتوبر 1973، معاهدة السلام مع إسرائيل 1979. فيما يتعلق بهذه الأحداث أيضا يدور الخلاف حول التوصيف نفسه، نكسة أم هزيمة، نصر أم هزيمة جديدة، ضرورة سياسية أم خيانة، ثم يحتدم أيضا حول ما قبل وما بعد كل حدث منها. ولكن إن كان مثل هذا الخلاف الحامي مبررا بالنسبة لوقائع في التاريخ القريب والتي لا يمكن إنكار أنها تلقي بظلال كثيفة على واقعنا اليوم، فلابد أن تتفق معي في أنّ الأمر قد يكون غريبًا بعض الشيء عندما يتشاحن البعض بالحماس نفسه حول وقائع أقدم كثيرًا، الحملة الفرنسية 1798، الفتح العثماني 1517، ثم قبل ذلك كله الفتح الإسلامي 639. قد يقول أحدهم إن هذه الأحداث (المصيرية) في تاريخنا، مهما كانت تبعد قرونا طويلة عنا اليوم، فهي بالتأكيد مسؤولة بشكل حاسم عن واقعنا المعاش في الحاضر، وهذا صحيح بطريقة ما، ولكنه لا يبرر في اعتقادي أن تكون موضوعًا لمثل هذه المعارك الحارة حتى اليوم.
يظن أكثر المتشاحنين بحرارة حول هذه الأحداث، أنّها إنْ لم تحدث لكنَّا اليوم مجتمعًا مختلفًا بشكل جذري، يحيا واقعًا لا يشبه في أي شيء ذلك الذي نحيا فيه. بالنسبة لأي من هؤلاء
واحدة من المشاكل التي أراها في تعاملنا مع تاريخنا هي أننا ننظر إلى مثل هذه الأحداث على أنها نقاط تحول مصيرية، إلى حد أن بالإمكان تصور مسار مختلف تمام لهذا التاريخ إن لم تقع أي منها، بعبارة أخرى يظن أكثر المتشاحنين بحرارة حول هذه الأحداث، أنّها إنْ لم تحدث لكنَّا اليوم مجتمعًا مختلفًا بشكل جذري، يحيا واقعًا لا يشبه في أي شيء ذلك الذي نحيا فيه. بالنسبة لأي من هؤلاء، فإن موقفه من هذا الحدث أو ذاك يتعلق بأكثر ما يراه كريهًا في واقعنا أو سببًا في مصائبنا، أو على النقيض أكثر ما يراه أساسيًا ومهمًا في هذا الواقع ومصدرًا للأمل في مستقبل أفضل، وهو يفترض أن ما يكره أو يحب في واقعنا اليوم لم يكن ليوجد فيه لولا هذا الحدث. هذه المواقف أيديولوجية بالأساس، وهذه هي الإشكالية الثانية كما أرى في تعاملنا مع التاريخ، ليس لأن التفسير الأيديولوجي للتاريخ أمر مرفوض في حد ذاته، ولكن أن تعليق الحاضر والمستقبل أيضًا على شماعة الماضي هو أحد مظاهر عقم وضيق أفق الفكر الأيديولوجي عندنا على اختلاف وتعارض وتباعد مدارسه.
هاتان الإشكاليتان في تعاملنا مع التاريخ تصيباننا بالعمى تجاهه، فقد نكون علاقتنا بتاريخنا أكثر حرارة، وقد يبدو أننا أكثر تعلقًا به، ربما إلى حد مرضي، مقارنة بغيرنا، ولكننا من بين أكثر الشعوب جهلاً بتاريخها، وبالتأكيد من بين أقلها اهتمامًا بدراسته بشكل منهجي. وأعتقد أن الإشكاليتين اللتين ذكرتهما من بين أسباب ذلك، وهما تعكسان تصورين نحتاج إلى التخلص منهما، إذا ما أردنا أن تتوقف معرفتنا بالتاريخ وعلاقتنا به عن أن تكون بشكل مبالغ فيه معلقة بمواقفنا الأيديولوجية أو السياسية منه. التصور الأول هو فكرة القطيعة مع الماضي، والثاني هو فكرة النظر إلى كل مرحلة تاريخية على أنَّها مشروع له غايات محددة، ويعكس أيديولوجية سياسية ما.
الحدث كقطيعة مع الماضي
إذا كنت من محبي ألعاب الحاسب الآلي، وتحديدًا ألعاب الاستراتيجية، فلابد أنه قد مرّ بك ذلك النوع منها الذي ينبني على تتبع تطور الحضارة عبر العصور. مع تطور قدرات الأجهزة خاصة في عرض الرسومات ثلاثية الأبعاد 3D Graphics أصبح في مقدور مطوري هذه الألعاب أن يضيفوا من جاذبيتها البصرية باستخدام تفاصيل تعكس الطابع المميز لكل عصر من عصور التاريخ، مع قدر من التنوع أيضًا فيما يميز الثقافات والحضارات المختلفة بصريًا. على أية حال، ما يعنيني هنا هو أن الانتقال من عصر إلى آخر في هذه الألعاب يعتمد على حدث ما، أو سلسلة من الأحداث، هي عادة اكتشافات علمية، وعندما ينجح اللاعب في تحقيق هذا الكشف العلمي أو ذاك، يقع الانتقال لحظيًا، فتنتقل الحضارة التي يقودها في اللعبة من العصور القديمة مقلا إلى العصور الوسطى، أو إلى عصر النهضة، أو العصر الحديث. تتبدل مع ذلك الانتقال اللحظي الصورة التي تقدمها اللعبة عن الحضارة من حيث الطابع المعماري لمبانيها، ونمط الأزياء التي ترتديها الشخصيات، والأدوات والأسلحة والمركبات المستخدمة، وإذا ما كان مطورو اللعبة يهتمون بانغماس أكبر للاعب في اللحظة فربما تتبدل أيضًا الموسيقى المصاحبة.
لطالما استوقفتني تلك اللحظة التي تتبدل فيها صورة حضارة ما بشكل جذري، وكأنما كانت شيئًا، فتحولت إلى آخر لا يشبهه. في حالة مصر بصفة خاصة، يخفق مطورو الألعاب تحديدًا في اختيار الطابع المميز لها في العصر الكلاسيكي، وهو فترة صعود وازدهار الإمبراطوريات الإغريقية (الهلنستية للدقة) ثم الإمبراطورية الرومانية. وبرغم أن مصر في هذه الفترة قد خضعت لحكم البطالمة ذوي الثقافة الإغريقية أولاً، ثم لحكم الرومان، إلا أن مطورو الألعاب يختارون أن يستمر النمط الفرعوني في تمييز الحضارة المصرية حتى تنتقل فجأة إلى العصور الوسطى، لتتحول مباشرة إلى الطابع الإسلامي، والذي يعكس الأنماط المعمارية والأزياء والأدوات بشكل أقرب إلى مرحلة حكم المماليك لمصر، وهي في الواقع تنتمي إلى نهاية العصور الوسطى، وتختلف كثيرًا عن بدايتها.
ثمة، بالطبع، مساحة واسعة من المرونة في نقد (الدقة التاريخية) عندما يتعلق الأمر بلعبة، في النهاية لا يمكنك أن تتوقع منها أن تقدم أكثر من تصور كاريكاتوري مسل ولطيف، ولكن إذا ما كان تصورنا في الواقع للتاريخ كاريكاتوريًا بنفس القدر، لا يظل الأمر مسليًا أو لطيفًا
ثمة، بالطبع، مساحة واسعة من المرونة في نقد (الدقة التاريخية) عندما يتعلق الأمر بلعبة، في النهاية لا يمكنك أن تتوقع منها أن تقدم أكثر من تصور كاريكاتوري مسل ولطيف، ولكن إذا ما كان تصورنا في الواقع للتاريخ كاريكاتوريًا بنفس القدر، لا يظل الأمر مسليًا أو لطيفًا، والحقيقة أن تصورات أغلب المصريين عن التاريخ لا تقل كاريكاتورية عن تلك التي تقدمها لعبة حاسب آلي له. على وجه التحديد عندما يتعلق الأمر بحدث فارق مثل الفتح العربي الإسلامي لمصر في القرن السابع الميلادي، يبدو التصور الشائع مشابهًا لذلك الذي تعكسه إحدى ألعاب الاستراتيجية، فمصر في خيال المصريين تتحول بعد هذا الحدث مباشرة إلى بلد آخر تمامًا، والمفارقة أنها تتحول من صورة غائمة أيضًا، فأغلب المصريين ليس لديهم تصور واضح عن كيف بدت بلادهم طوال ألف عام سابقة على الفتح الإسلامي وتفصله عن نهاية حكم الفراعنة لها.
الواقع بالطبع لا يشبه ذلك، فمصر لم تتبدل وكأنما أصبحت بلدا آخر بمجرد أن وطأت قدما عمرو بن العاص وجنوده أرضها. في الواقع حدث الفتح نفسه لم يقع في يوم وليلة ولا في شهر أو عدة أشهر بل استغرق أعوامًا، للدقة سبعة أعوام امتدت من 639 وحتى 646، عندما أمكن للعرب السيطرة على كامل البلاد وطرد الرومان منها. وحتى حينها لم تتبدل عمارة مصر وأزياء أهلها، والأهم من ذلك ممارستهم حياتهم اليومية فجأة. في الواقع لم يعتنق المصريون الإسلام نفسه خلال أعوام أو عشرات منها، بل استغرق الأمر عدة قرون حتى أصبح السكان المسلمون أغلبية عددية في مصر. حدث ذلك في عهد الفاطميين بعد أكثر من ثلاثة قرون من الفتح. وحتى ذلك التحول إلى الإسلام لم يعن أن حياة المصريين اليومية قد أصبح يحكم نمطها الدين الإسلامي بشكل كامل، في الواقع ظل في ثقافة المصريين وممارساتهم الاجتماعية عناصر تعود أصولها إلى فترات سابقة على الفتح بعدة آلاف من السنين، تطورت ببطء ودخلت عليها تعديلات مختلفة في العصرين البطلمي والروماني، ثم تطورت مع تفاعلها مع المدخلات الثقافية التي أتى بها العرب المسلمون وغيرهم ممن هاجروا إلى مصر واستقروا بها عبر القرون، ولم تكن هذه المدخلات جميعها دينية أو متعلقة بالدين الإسلامي حصرًا.
هل كان للفتح الإسلامي لمصر أثر بالغ الأهمية على تطور الجماعات البشرية التي كانت تسكن مصر منذ ذلك الحين وحتى نشأة الدولة الحديثة ومعها المجتمع المصري كما نعرفه اليوم وبعدها؟ الإجابة هي نعم بالتأكيد، ولكن هل كان حدث الفتح مسؤولاً عما أصبح عليه مجتمعنا اليوم بالقدر الذي يتخيله أغلب المصريين؟ أحد الأمور الأساسية وهي تحول الغالبية إلى الإسلام هو في حد ذاته ليس محسوما بهذا القدر. لقد توسعت الإمبراطورية الإسلامية حتى امتدت من حدود الصين شرقًا وحتى حدود فرنسا اليوم غربا، ولكن نسب السكان المتحولين إلى الإسلام ليست هي نفسها عبر هذه المساحة الشاسعة، الأكثر وضوحًا من ذلك أن اللغة العربية لم تصبح لغة الاستخدام اليومي في جميع البلدان التي امتد إليها الفتح العربي الإسلامي، ومن ثم فحتى كون غالبية سكان مصر مسلمين، وكون العربية هي لغتنا اليوم، لم يكن أمرا ارتبط بشكل حتمي بحدث الفتح نفسه. وفي المقابل، حقيقة أن غالبية سكان بلدان مثل إندونيسيا وماليزيا وغيرهما مسلمون، دون أن تمتد الفتوحات الإسلامية إلى هذه البلدان، دليل على أن حدث الفتح نفسه لم يكن ضروريًا لمثل هذا التحول الهام في تشكيل واقع مجتمعنا اليوم.
مجمل الظروف السابقة على ثورة يوليو جعلت كثيرًا من التحولات العميقة التي تلت حدث الثورة ضروري، ومن ثم فمحاكمة الحدث نفسه وكأنه المسؤول منفردا عن تلك التحولات هو عبث محض، وهو أيضا يحجب إمكانية أن نفهم هذه التحولات في سياقها التاريخي الصحيح
القطيعة مع الماضي هو ذلك التصور لأن حدثًا ما قد محا ما سبقه ثم بدأ يخط مكانه شيئًا آخر مختلفًا عنه بشكل كلي، ومن ثم يمكننا اليوم أن نحاسب هذا الحدث على واقعنا الذي نتخيل أنه لولاه لكان مختلفا تماما عما هو عليه. لكن هذه نظرة كاريكاتورية للتاريخ وللواقع معا، فنحن ندين لكل ما سبق الحدث المصيري، ثم لكل ما تلاه ولم يكن هو شرطا ضروريًا له، بما أصبح عليه واقعنا اليوم، ومن ثم فإذا ما كنا حريصين على فهم كيف تشكل الواقع المعاصر فعلينا تجاوز الحدث في ذاته إلى مجمل الظروف التي كان هو فقط علامة بارزة عليها. يمكننا أن نطبق ذلك على حدث ثورة يوليو بالتأكيد، وأن نرى أن مجمل الظروف السابقة عليها جعلت كثيرًا من التحولات العميقة التي تلت حدث الثورة ضروري، ومن ثم فمحاكمة الحدث نفسه وكأنه المسؤول منفردا عن تلك التحولات هو عبث محض، وهو أيضا يحجب إمكانية أن نفهم هذه التحولات في سياقها التاريخي الصحيح.
تصورنا أن مراحل تاريخنا المختلفة يمثل كل منها مشروعا لأيديولوجية ما، بحيث يمكن تقييمه بالنجاح أو الفشل لا يقل كاريكاتورية في اعتقادي عن تصورنا أن وقائع التاريخ يمكن أن تحدث قطيعة حادة بين ما سبقها وببن ما لحق بها. في المقال التالي سأحاول إيضاح ذلك، قبل أن أتحدث عن أثره في تعاملنا مع واقعنا من خلال نظارات الماضي المعتمة، ومدى ما يصيبنا به ذلك من تخبط مستمر.