“استأذنت أروح الحمام قبل نهاية الوقت المحدد للامتحان وقررت أنهي حياتي” تعود سماح بذاكرتها إلى الخلف قبل 15 عاما لتروي تفاصيل إقدامها على الانتحار، وكأن عقلها توقف تماما عن التفكير في هذه المحاولة الفاشلة لإنهاء حياتها والتخلص من هم مادة الفيزياء وما يعقبها من نتائج مخيبة للآمال.
وتقول سماح لمصر 360: “مقدرتش أخلص إجابات الامتحان وأدركت أني لن أحصل على المجموع الذي ينتظره أهلي فأخذت القرار دون تفكير”.
وتعيش سماح وسط عائلة مرموقة معظم أقرانها من المتفوقين، لذا أدركت أن المجموع الذي ستحصل عليه سيضعها في موقف صعب ومقارنات وربما يعرضها للإهانة أو الضرب.
وتنوعت حوادث الانتحار التي تصدرت الصحف والمواقع بين قفز طالبة بالصف الثالث الثانوي بمحافظة الغربية في نهر النيل، بعد حصولها على مجموع سيء في امتحانات الثانوية العامة، وأخرى مصابة بتسمم فسفوري نتيجة تناول قرص خاص بحفظ الغلال ما تسبب في وفاتها فور وصولها المستشفى، أو تناول مادة سامة للهروب من الامتحان وهو ما أقدم عليه أحد الطلبة بمحافظة المنصورة، كما تسبب تناول جرعة زائدة من أدوية المسكنات في لفظ أنفاس طالبه بالشرقية قبل دخولها الامتحان، المشهد نفسه يتكرر كل عام تزامنا مع امتحانات الثانوية العامة.
15 عاما تفصل بين محاولة إنقاذ سماح بالمستشفى لتلحق بالامتحانات في أغسطس والذي يطلق عليه “الملاحق” قائلة: “أهلي بعد الموقف أدركوا الضغط النفسي الذي وضعت فيه ووضعني في هذه الحالة وما كان منهم إلا الصمت وانتظار الالتحاق بالكلية المجهولة”.
أنهت سماح الدراسة الثانوية لتلحق بكلية التجارة والذي وجدت بها حلمها رغم عدم التفكير إلا فيما يسمى بكليات القمة، لتصل اليوم إلى العمل بأحد البنوك الخاصة الكبرى، مؤكدة “بقيت أنا المصدر المهم في العيلة بعد كل ده ونصيحتي لأي طالب ثانوي إن الثانوية العامة مش نهاية المطاف”.
لماذا ينتحر الطلاب؟
أرجع الغالبية العظمى من الخبراء اللوم في انتحار الطلاب إلى النظام التعليمي المتبع والضغط الشديد على المراهقين في هذه الفترة من قبل أولياء الأمور، حيث يشعر الطالب دائما بأنه في منافسة شديدة للغاية مع زملائه، وبالتالي تزداد مخاطر الإصابة لديه بالاكتئاب والتوتر والضغط العصبي المستمر، وعندما لا يستطيع تحقيق درجات مرتفعة في الامتحانات، يشعر بالفشل والإحباط، وربما يعاني من الاكتئاب المزمن الذي يدفعه للانتحار.
اقرأ أيضًا.. “نظام التحسين”.. يلغى تكافؤ الفرص في الثانوية العامة
وتمثل الثانوية العامة بوابة العبور إلى المستقبل الواعد للطالب وللأهل، وتأتي الامتحانات لتكون على المحك، فهنا يجد الأهل أنفسهم أداة ضغط على الأبناء، مما يؤدي إلى الشعور بالتوتر حتى الوصول إلى الاكتئاب والرهبة من دخول الامتحانات خوفا من الفشل أو رد فعل الأهل.
لا ينتهي الضغط النفسي والذي لم يعالج حينها عند هذا الحد، فقد تأتي ذكرى أداء امتحانات الثانوية العامة لتجدد أحزان “محمد” وهو محاسب بأحد الشركات الخاصة، نظرا لما كانت تفعله والدته من كلمات كانت تظنها هي دافعه ولكنها كانت تهدم شخصيته يوما بع الآخر على حد وصفه، فيتذكر بكاء الأم الهيستري التي تظن بأنها فقدت والدها، ولكن عند الأقتراب تجد بأنه لم يأتي بالمجموع الذي كانت تأمله.
الانتحار ثاني أسباب الوفاة
ووفق إحصاءات منظمة الصحة العالمية، يموت شخص كل 40 ثانية منتحرا، ومقابل كل شخص منتحر يوجد أكثر من 20 شخصا حاولوا الانتحار، ويبلغ عدد المنتحرين سنويًّا 800 ألف منتحر، مع ملاحظة عدم تسجيل كثير من حالات الانتحار؛ لأسباب تتعلق بالثقافة المجتمعية وعدم إفصاح الأهل بأن الوفاة كانت انتحارا.
خالد سعيد، المستشار الإقليمي لمنظمة الصحة العالمية للصحة النفسية والإدمان، أشار إلى أن نصيب الدول المنخفضة والمتوسطة الدخل يبلغ 75% من حوادث الانتحار على مستوى العالم، مشيرا إلى أن الانتحار يعد ثاني أسباب الوفاة للفئة العمرية التي تتراوح بين 15 إلى 29 عاما.
وبحسب تقرير المؤسسة العربية لدعم المجتمع المدني، جاء الطلاب والطالبات أعلى فئة في حالات الانتحار بـ 32 حالة بنسبة 15.67% منها 22 حالة لغير الجامعيين يليهم العمال، وبلغت أسباب الانتحار 17 سببا ولكن جاء في المرتبة الأولى سوء الحالة النفسية التي تسبق حالات الانتحار.
دوافع الانتحار
“أنا مثقل مضغوط بما هو فوق قدراتي ولا أقوى على تحقيقه” عبارة يطلقها طلاب الثانوية العامة وفق تصريحات بسمة سليم أخصائي علم النفس وتعديل السلوك، معتبراها أحد دوافع الطلاب للانتحار، مشيرة إلى أن ذلك الضغط يدفع بالتبعية إلى الاكتئاب “يجد الحل الوحيد في التخلص من حياته”.
وتحذر سليم الأهالي دائما من ممارسة الضغط على أبنائهم، مشيرة إلى احتياجهم لدعم نفسي، قائلة: “الثانوية العامة ليست نهاية المطاف”، وأرجعت أسباب هذه الضغوط إلى رغبات الأهل في التحاق أبنائهم بكليات الطب أو الهندسة ما اعتبرته تفكير عقيم عفا عليه الزمن
وتضيف: “الأهالي يتعاملون مع مرحلة الثانوية بأنه مشروع يتم شراءه بأموال الدروس ولابد أن يحقق نتيجة مرضية لهم”، موضحة أن التفوق الحقيقي في الحياة العملية.
ظروف قدرية
أشارت أخصائي علم النفس وتعديل السلوك إلى وجود ظروف قدرية والتي قد تحول بين الطالب وبين الامتحان، كشعور الطالب بأعراض “نفسية جسمانية” وتلك الأعراض تظهر وقت الامتحان من الضغط النفسي، مشيرة إلى فيروس كورونا من الظروف القدرية والتي وضعت الطالب تحت ضغط نفسي مضاعف لما سببته من عددم القدرة على التواصل الجيد، ووصفت سليم تلك الفترة بـ”السباق الخسران” يحاول فيه الطلاب اللحاق بكليات القمة.
اقرأ أيضًا.. جدل عقب تصريحات طارق شوقي حول مواصفات الثانوية العامة الجديدة
لم يتردد سبب للانتحار فيما يتعلق بوفاة طالبة المنوفية والتي وافتها المنية قبل أدائها لامتحان مادة الفيزياء، إلا أن ما وفاتها جاءت نتيجة هبوط حاد في الدورة الدموية، وهنا أشارت الأخصائية النفسية إلى أن أسباب الانتحار أو الوفاة المفاجئة واحدة وهي الضغط النفسي الذي يتعرض له الطالب قبل الامتحان وأيضا طوال العام.
عبارات تحذيرية
وتفسر سليم بأن الإقدام على فعل الانتحار لا يكن مخطط له بل هو فعل لحظي، مشيرة إلى أن عبارات “الواحد نفسه يموت ويخلص من اللي هو فيه” وما شابهها هي كلمات تحذيرية للأسرة للفت الانتباه، وفي حالة عدم وجود الدعم تسوء الحالة.
بسمة سليم: فترة الثانوية العامة يكون الطالب ليس في كامل قواه العقلية والنفسية وبالتبعية لا يصلح لتحديد المستقبل
وأوضحت أن مقابلة تلك العبارات بكلمات غير داعمه تزيد الضغط النفسي، مشيرة إلى أن خلال فترة الثانوية العامة يكون الطالب ليس في كامل قواه العقلية والنفسية وبالتبعية لا يصلح لتحديد المستقبل فنسبة إدراكه العقلي لاتستوعب المستقبل.
وتتذكر الأخصائية كلمات والدها رغم مرور السنوات على انتهائها من مرحلة الثانوية ” البني أدم اللي يدخل كلية أقل من مستواه يحقق تفوق في المجال اللي هو فيه”، موضحة أن تلك العبارات قد تكون المرشد الذي يقود الطالب ويدفعه للأمام بجانب ضرورة توفير المرشد النفسي بالمدارس والأخصائي النفسي.
صوت عالٍ
ويقول الدكتور جمال فرويز، استشاري الطب النفسي بالمستشفيات العسكرية، عن الانتحار إنه “صرخة بصوت عالي للفت الانتباه”، محللا ما يجري مع المراهق وهي الفترة التي تتخللها دراسة الثانوية العامة، وأشار إلى أن فترة المراهقة تعتبر في الطب النفسي “العصابي” أي القلوق والمتوتر وذلك العصابي حين مروره بأول حالة من الضغط يلجأ إلى التفكير في الانتحار.
وأشار إلى أن المراهق يلجأ في أول مرة إلى الانتحار بصورة عنيفة، وفي حالة إنقاذه ولم يعالج نفسيا وتعرض لضغط نفسي يستخدم أسلوب أقل حدة.
وأكد فرويز أن كل ما يمر به طلاب الثانوية العامة يمثل عبئا إضافيا عليهم، خصوصا الطلبة الذين لديهم استعداد جيني ونفسي للتأثر بأي شىء خاص بالتوتر والاضرابات، مشيرا إلى أن المصدر الأساسي للضغوط في تلك الفترة تتمثل في الأهالي من خلال عباراتهم “انت دفعتنا فلوس كتير.. ده انت بسببك أجلت كذا.. ولو شفت نجاح ابقى قابلني”، مؤكدا كلها عبارات محبطه لا تحث على الدعم أو التشجيع.
جمال فرويز: المراهق يلجأ في أول مرة إلى الانتحار بصورة عنيفة، وإذا تعرض بعد إنقاذه لضغط نفسي يستخدم أسلوب أقل حدة
ويدفع الأهالي أبنائهم نظرا لرغبتهم في الالتحاق أبنائهم بكليات القمة، حسب فروزير، ويضيف: “للأسف هناك صورة مجتمعية وذهنية للتعليم الفني سيئة وفاشلة بجانب التقليل من الذات وعقد مقارانات بشكل متواصل بين الأبناء والآخرين”.
ويؤكد استشاري الطب النفسي على أهمية زيادة الوعي، والاحتياج إلى ثورة ثقافية وتوعوية يأتي في مقدمتها أولياء الأمور ثم الطلبة، حتى لا يتم استنزاف الطاقة النفسية للطلاب.