لاشك في أنه يجب على النظم القانونية المحترمة أن تستمد وجودها من منطلق الاحتياج المجتمعي لتنظيم أمر من أموره تشريعيا، إذ إن عملية الضبط الاجتماعي وتنظيم الحريات والمصالح عبر وجود قواعد وأحكام هو ما أطلق عليه اسم القانون، ويجب ألا تخرج الغاية العليا للتنظيم القانوني أو القواعد القانونية عن تنظيم أوجه النشاطات المجتمعية، وفك الاشتباك بين أوجه السلوك الإنساني، وبمعنى أكثر نضجا لا يتواجد القانون إلا إذا تواجدت الحاجة المجتمعية إليه، إذ لا حاجة ولا قيمة حقيقية للنصوص القانونية إذا ما خرجت عن احتياجات المجتمع، أو إذا ما تجاوزت في تنظيمها لأمر من الأمور معنى الاحتياج المجتمعي، فخرجت بذلك عن مضمون الحماية المقررة بالقانون إلى الميل أو التجاوز عن الهدف الأساس للقاعدة القانونية.
حين تنظم الهيئة التشريعية قواعد قانونية ذات بعد اجتماعي أو تتماهى مع الاحتياجات الاقتصادية للجماعة، فإنه يجب أن تتجه هذه التشريعات لحماية الطبقة الأقل حماية
وفي الأصل يجب أن تتجه القواعد القانونية بما تستحدثه من تشريعات إلى حماية الشرائح المجتمعية المختلفة، وحين تنظم الهيئة التشريعية لقواعد قانونية ذات بعد اجتماعي أو تتماهى مع الاحتياجات الاقتصادية للجماعة، فإنه يجب أن تتجه هذه التشريعات لحماية الطبقة الأقل حماية، أو تسعى بما تنظمه من قواعد قانونية مستحدثة إلى حماية المكتسبات المجتمعية على أقل تقدير إن لم تكن تزيد عليها.
اقرأ أيضًا| فصل الموظف الإخواني.. قانون يفتح الباب للمحاسبة على النوايا
وفي هذا الإطار، أقر مجلس النواب المصري منذ أيام تعديلات جديدة على قانون الخدمة المدنية، وكذلك على أحكام القانون رقم 10 لسنة 1972 بشأن الفصل بغير الطريق التأديبي، بما يتيح بموجبها للسلطات فصل الموظفين دون الإحالة إلى القضاء التأديبي، وهو ما يعني توسيع صلاحيات السلطة التنفيذية في هذا الشأن، وأهم مبررات الفصل بغير الطريق التأديبي بحسب نصوص هذا القانون، والذي صدر يحمل رقم 135 لسنة 2021 ، إذا قامت بشأنه قرائن جدية على ارتكابه ما يمس الأمن القومي للبلاد وسلامتها، ويعد إدراج العامل على قائمة الإرهابيين قرينة جدية، إذا فقد الثقة والاعتبار، إذا فقد سببا أو أكثر من أسباب صلاحية شغل الوظيفة التي يشغلها، وذلك عدا الأسباب الصحية.
وقد قدم لهذا المشروع أمين سر اللجنة التشريعية لمجلس النواب، النائب علي بدر بقوله -بحسب ما نشره موقع سكاي نيوز بتاريخ 28 / 6 /2021 -: إن هناك حاجة ماسة لإصدار مثل هذا التعديل التشريعي، إذ إن هناك عددا من الموظفين ينتمون إلى فصيل الإخوان ويستغلون مناصبهم داخل الجهاز الإداري للدولة بالسعي لتخريب البلاد، وتنفيذ مخططات إخوانية، مضيفا أن هذا المشروع قد جاء متوافقا مع اللائحة الداخلية لمجلس النواب، ومع نصوص الدستور.
إصدار مثل هذه التشريعات يكرس معنى التضييق الفكري من السلطات على كل أصحاب الرأي، مالم تصاحبه جريمة تضر بالمجتمع
وإذا ما توافقنا نظريا على وجود عناصر تنتمي للإخوان المسلمين في داخل الكيان الإداري للدولة، فهل في هذا الانتماء الفكري النظري أي نوع من الجرم يقتضي معه ما جاء بهذا التشريع، مالم يصحب انتمائه أي فعل من شأنه المساس بالهيئة الاجتماعية أو يتعارض مع مصلحة المجتمع أو يضر بمصلحة الوظيفة أو المستهدف من وجود كيان الهيئة التي يعمل بها أو المصلحة التي ينتمي إليها.
وأرى أن إصدار مثل هذه التشريعات يكرس من معنى التضييق الفكري من السلطات على كل أصحاب الرأي، مالم تصاحبه جريمة تضر بالمجتمع، وأنه يعود بنا إلى عصر محاكم التفتيش، ويتعارض بشكل أساس مع قيم دستورية عليا، وبشكل خاص مع ما تنص عليه من حماية حريات الرأي والفكر والتعبير وتداول المعلومات، كما أن أي تنظيم تشريعي يجب أن يتعامل مع أفعال مادية ومظاهر وسلوك يكون من شأنه أن يحدث أذى أو ضررا للمجتمع، لكن أن تأتي النصوص أو التعديلات التشريعية بهذا المستوى، فإن ذلك من وجهة نظر القانون كمفترض أولي له قواعد وأصول يجب التماشي معها واحترامها ورعايتها حين سن تشريعات جديدة أو تعديلات على قوانين قائمة، تقتضيها في الأساس الاحتياج المجتمعي لتلك التشريعات، وأنها تسعى لضمان حماية مجتمعية، أو لتقويض ضرر يحل بالجماعة. وكل ذلك ما يتناقض مع ما جاء بهذا القانون. كما أن نصوص هذا القانون تتسم بالصيغ العمومية التي اعتاد عليها المشرع المصري منذ فترات ليست بالقصيرة، وهو ما يجعل من هذه القوانين ” بحسب تعبير قديم للمحكمة الدستورية ” أنها مجرد فخاخ لإيقاع آحاد الناس فيها، كما أنها تتعارض مع الأصول اللازمة لصناعة القوانين والتشريعات في وجوب أن تكون محددة في ألفاظها، دقيقة في عباراتها، لا تحتمل التأويل بأكثر من معنى، كما أنه من الناحية الفقهية الدستورية في إصدار التشريعات فيجب أن تتوافق مع النطاق الدستوري المحدد لمنطقة الحق محل التشريع، ويجب ألا تتجاوز هذا النطاق سواء بالانتقاص أو الحد منه، فهل اعتنى النواب بمثل تلك المعايير، على الرغم من كون مجلس النواب يتصدره أحد المستشارين الذين قضوا جل حياتهم في المحكمة الدستورية العليا، ومن ثم فهو أجدر من أي منهم بمعرفة تلك الحقوق والواجبات، وبحسب تصريح له منشور على موقع بي بي سي بتاريخ 12 يوليو فإن القانون هو أداة إبعاد الموظف أو العامل الذي يمثل خطورة على بيئة العمل، من دون المساس بضمانات اللجوء للقضاء، وحقه في المعاش ومكافأة نهاية الخدمة.. أرى أن مجلس النواب يتعامل بمنطق سبق السيف العزل، وعلى المتضرر اللجوء للقضاء، وهذه ليست حلولا تتناسب مع الظروف الاقتصادية التي يمر بها أفراد الشعب المصري جراء السياسات الاقتصادية التي تقوم بها الحكومة، وزيادة معدلات الفقر والعوز بين فئات الشعب.
من الزاوية الاقتصادية، هل ناقش مصدرو هذا المشروع مدى الضرر الذي سوف يحدثه حال تطبيقه، إذ لن يعود الضرر على شخص الموظف المفصول فقط، بل يمتد أثره إلى باقي أسرته التي يعولها
أما من الزاوية الاقتصادية فهل ناقش مصدرو هذا المشروع دى الضرر الذي سوف يحدثه حال تطبيقه، إذ لن يعود الضرر على شخص الموظف المفصول فقط، بل يمتد أثره إلى باقي أسرته التي يعولها، بالبلدي (قطع أرزاق)، وهذا لا يكون بأي حال من الأحوال هدفا من أهداف استصدار القوانين أو دافعا إلى استحداث تعديلات على قوانين قائمة.
أما إن كان الهدف كما يشيع البعض هو مسايرة ما تفرضه أجندة صندوق النقد الدولي على الحكومة من عمل إصلاحات على الكيان الحكومي، وذلك وفق سياسة القروض التي أنتهجتها الدولة من خلال صندوق النقد الدولي، فإن تلك طامة كبرى لن تعود بخير على مصالح الناس، وبالتالي لن تعود بخير على الدولة ذاتها، إذ المفترض أن مصلحة الجماعة هي المصلحة العليا للدولة.
اقرأ أيضًا| قانون فصل متعاطي المخدرات يفتح الباب للتصفيات العمالية
ومن ناحية حقوقية أرى أن هذا القانون يتصادم مع الاتفاقيات الدولية المعنية والمنظمة لحقوق الإنسان والتي قد انضمت إليها مصر، وصارت وفقا للدستور مساوية للقوانين الداخلية، والتي أهمها في هذا البيان العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية، وما جاء به من نصوص تضمن الحق في العمل، وأن الدولة تسعى للقضاء على البطالة وليس زيادتها، كما أن الدولة تكفل مجموعة الحقوق ذات المنحى الاجتماعي والاقتصادي والثقافي من صحة وسكن وغذاء وتعليم وغيرها، وأن تطبيق ما جاء به هذا المقترح التشريعي يقوض كل تلك الحقوق قاطبة، وهو الأمر الذي لا تكون معه هناك أي معنى لحياة كريمة للمواطن وأسرته.