دشنت الولايات المتحدة وروسيا جولة جديدة من محادثات الاستقرار الاستراتيجي، في جنيف، نهاية الأسبوع الماضي، والتي وصفتها الخارجية الروسية بأنها “عملية ومركزة”، بينما اعتبرها الناطق الرسمي بلسان الخارجية الأمريكية نيد برايس “مهنية وموضوعية”.
وتعد اللقاءات المتبادلة بين موسكو وواشنطن استئنافاً للقمة التي انعقدت بين الرئيسين الأمريكي جو بايدن والروسي فلاديمير بوتين، منتصف يونيو الماضي، وقد بلغت العلاقات بين البلدين “أدنى مستوياتها”.
ثمة قضايا وملفات إقليمية، استراتيجية وأمنية، تعيق التوصل إلى تهدئة أو بالأحرى خفض الصراع بين موسكو وواشنطن، بينما تهدف تلك المباحثات إلى فرض التفاوض ومبدأ الحوار عوضاً عن حدة المواجهات والملاسنات المتبادلة بين بايدن وبوتين، على خلفية تناقض المصالح والأهداف التي تفاقم الأزمات بينهما.
ومنذ وصول بايدن للحكم، كشفت وثيقة الأمن القومي الأمريكية الصادرة عن البيت الأبيض، عن ملامح سياسة الإدارة الجديدة، وأولوياتها في ما يتصل بالقضايا الإقليمية. إذ برزت الصين وروسيا في مقدمة الدول التي تشكل تهديدات قصوى على الولايات المتحدة. ووصفت الوثيقة الأمريكية بكين وموسكو باعتبارهما “قوى تهديد رئيسية” تعمل “احتواء تفوق واشنطن وتعيق مصالحها ومصالح حلفائها في العالم”.
واشنطن لن تتردد في استخدام القوة عند الحاجة للدفاع عن مصالحها
وبينما ألمحت الوثيقة إلى أن واشنطن “لن تتردد في استخدام القوة عند الحاجة للدفاع عن مصالحها”، غير أنها عاودت التأكيد على استعدادها للدخول في “حوار هادف مع البلدين على مجموعة من التقنيات العسكرية الناشئة. كما تم التأكيد على الالتزام باتفاقات الحد من التسلح”.
وفي أعقاب محادثات الحد من التسلح التي جمعت مفاوضين من الولايات المتحدة وروسيا، نهاية الأسبوع الماضي، قالت الخارجية الروسية: “بالتوافق مع توجيه من قبل رئيسي البلدين، تم إجراء مناقشة شاملة لمواقف الطرفين من دعم الاستقرار الاستراتيجي وآفاق السيطرة على الأسلحة وتدابير خفض المخاطر. وتم التطرق إلى جوانب مختلفة من التطوير اللاحق للتعاون حول القضايا المذكورة”.
كما صرحت الخارجية الأمريكية بأنه “ما زلنا متمسكين حتى في فترة التوتر بضمان القابلية للتنبؤ وخفض مخاطر النزاع المسحل وتهديد الحرب النووية. وأصبح لقاء اليوم بداية لهذا الحوار مع الاتحاد الروسي، حيث بحث الوفد الأمريكي أولويات سياسة الولايات المتحدة والبيئة الأمنية الحالية، والمواقف الوطنية من التهديديات للاستقرار الاستراتيجي، وآفاق نظام جديد للسيطرة على السلاح النووي وإطار الجولات المقبلة للحوار حول الأمن الاستراتيجي”.
وأردفت الخارجية الأمريكية: “المناقشات في جنيف كانت مهنية وجوهرية، حيث اتفق كلا الوفدين على إجراء لقاء جديد في جلسة عامة أواخر سبتمبر، وعقد مشاورات غير رسمية في الفترة قبل ذلك بهدف تحديد المواضيع لفرق عمل الخبراء في الجلسة العامة الثانية”.
تفاقم جملة من القضايا والملفات الخلافية بين بايدن وبوتين الأزمات بين البلدين، رغم محاولات خفض التوتر، وقد هاجم بايدن في خطاب أمام مسؤولي المخابرات، مؤخراً، الرئيس الروسي، حيث اتهم الأخير بـ”انتهاك سيادة الولايات المتحدة”، من خلال إعاقة انتخابات منتصف الولاية”، والتي يتم فيها تجديد جميع مقاعد مجلس النواب، وثلث مقاعد مجلس الشيوخ، بواسطة بث “معلومات مضللة”.
وعرج بايدن، خلال زيارة لمكتب مدير المخابرات الوطنية، على أوضاع الاقتصاد الروسي، موضحاً أنها “لا تمتلك إلا أسلحة نووية وآبار نفط فقط”. وأضاف الرئيس الأمريكي أن بوتين يعلم أنه في “ورطة حقيقية، مما يجعله أكثر خطورة من وجهة نظري”.
وتابع بايدن: “انظر إلى ما تفعله روسيا بالفعل بشأن انتخابات 2022 والمعلومات المضللة. إنه انتهاك محض لسيادتنا”.
مخاطر الهجمات الإلكترونية
كما شدد الرئيس الأمريكي على مخاطر الهجمات الإلكترونية والحروب السيبرانية التي تعتمد عليها روسيا، وتستخدمها على نحو واسع، بما في ذلك برامج الفدية، والتي عادة ما تؤدي لتشفير بيانات الضحايا، ثم يطالب القراصنة بالمال لإعادتها إلى أصحابها.
وألمح بايدن إلى احتمالات دخول الولايات المتحدة في حرب جديدة، وأوضح أنها ستكون بسبب التكنولوجيا، وقال: “إذا انتهى بنا المطاف في حرب، حرب حقيقية، مع قوة عظمى، فسيكون ذلك نتيجة لخرق إلكتروني”. كما وصف بايدن الرئيس الروسي بـ”الرجل الخطير” والذي يقف على رأس اقتصاد يمتلك أسلحة نووية وآبار نفط ولا شيء غير ذلك.
وفي حديثه لـ”مصر 360″ يوضح الدكتور عمرو الديب أستاذ في معهد العلاقات الدولية والتاريخ العالمي في جامعة لوباتشيفسكي الروسية ومدير مركز خبراء رياليست، مقره موسكو، أن اللقاءات المتبادلة بين روسيا والولايات المتحدة تأتي كأجزاء مكملة للقاء الذي تم في جنيف، في يونيو الماضي، بين فلاديمير بوتين وجو بايدن.
محادثات لا تهدف إلى خفض التصعيد
ولا تهدف هذه اللقاءات إلى خفض التصعيد، وإنما عودة مبدأ الجلوس على مائدة المفاوضات، من أجل العمل على عدم تصعيد مستويات الخلاف بين البلدين لحدودها النهائية، بحسب الديب، أما بالنسبة للمواضيع الخلافية، نجد أن أكثر من ٩٠% من الملفات المشتركة هي ملفات خلافية واضحة.
كما أن هذه الملفات والمعضلات، السياسية والإقليمية والأمنية، لا يتوقع أن تصل الدولتان لحل بشأنها، بسبب قوة التفاصيل الخلافية في هذه القضايا والملفات، ويردف الديب: “فقضايا مثل القضية الليبية والسورية لا يمكن أن تصل المسائل التوافقية بين موسكو وواشنطن لأي حلول لأن الدول الفاعلة في هذه الملفات عديدة ولا تتوقف الأمور على واشنطن وموسكو فقط”.
وتزامنت تصريحات الرئيس الأمريكي الأخيرة والتي حملت هجوما عنيفا وحادا على موسك مع الاجتماع المقرر في جنيف، بين مفاوضين أمريكيين وروس، بخصوص قضايا الحد من التسلح، والذي يأتي ضمن محادثات “الاستقرار الاستراتيجي” كما أطلق عليها بايدن في أعقاب القمة التي جمعته ببوتين، منتصف الشهر الماضي، حيث ناقش الطرفان أبرز القضايا الخلافية بينهما، ومن بينها هجمات برامج الفدية والتدخل العسكري الروسي في أوكرانيا.
واللافت أنه قبل انطلاق الاجتماع الذي يترأسه في الوفد الأمريكي نائبة وزيرة الخارجية، ويندي شيرمان، بينما يقود الجانب الروسي في المفاوضات نائب وزير الخارجية، سيرغي ريابكوف، أعلنت موسكو الشروع في تصنيع طائرتين لنسخة جديدة من طائرة يطلق عليها “يوم القيامة” تعمل كمركز قيادة وتحكم في حالة نشوب صراع نووي، بحسب شبكة “فوكس نيوز”، الأمر الذي حدا بمراقبين أن يرجحوا عدم الوصول إلى نتائج لافتة أو انفراجة في الأزمات القائمة بين البلدين.
وقال ريابكوف، إن الغرض من الاجتماع هو تقديم “تحليلاً تفصيلياً لمواضع الخلافات ومحاولة إيجاد اتجاهات للعمل المشترك حيث توجد فرصة معينة”. ووفقا لتقرير لشبكة “إيه بي سي” الأمريكية، فإن ثمة قضايا تسلح أخرى “على المحك” ليست أقل أهمية من الأسلحة النووية، إذ وصفها الرئيس بايدن بأنها “أسلحة جديدة وخطيرة ومتطورة تأتي على الساحة الآن تقلل من أوقات الاستجابة، وتزيد من احتمالات نشوب حرب عرضية”.
وبحسب معهد واشنطن، فإنه يتعين على إدارة بايدن النظر إلى الصورة الكبرى عندما يتعلق الأمر بروسيا في الشرق الأوسط، أي إلى أهداف موسكو الكبرى وكيفية توافقها مع أنشطتها في أوروبا والشرق الأوسط، فضلاً عن علاقة روسيا مع الصين، تلك الدولة التي تشكل، وفقاً لبلينكن “أكبر اختبار جيوسياسي للقرن الواحد والعشرين” بالنسبة الولايات المتحدة.
ويرف: “لطالما كان الشرق الأوسط جزءاً من المنطقة الجنوبية الضعيفة لروسيا، وهي منطقة سعت الدولة الروسية إلى تأمينها في الوقت الذي دفعت فيه إلى لعب دور رئيسي في السياسة الأوروبية واكتساب اعتراف بمكانتها كقوة عظمى. ولا تقتصر أسباب أهمية الشرق الأوسط بالنسبة للكرملين على مصلحة هذا الأخير، ولكن لأن السيطرة في تلك المنطقة تمنح أيضاً المزيد من الفرص لروسيا لتقويض الغرب على جبهات أخرى”.
إذاً، اكتساب نفوذ أكبر في الشرق الأوسط سيجعل الكرملين أقرب إلى تحقيق أولى أولوياته، وفقاً للمعهد الأمريكي، والمتمثل في إضعاف النظام العالمي الليبرالي الذي تقوده الولايات المتحدة؛ فانتصار روسيا يتطلب خسارة الولايات المتحدة، ويتابع: “وإذا تُركت روسيا تتصرف بدون عراقيل في الشرق الأوسط، فسوف تواصل تقاربها العميق بالفعل مع إيران (ووكلائها) وستكون لها في النهاية الكلمة الأخيرة بشأن مستقبل سوريا.. وقد يؤدي التقارب بين روسيا وإيران إلى منح روسيا، بمرور الوقت، قدرة أكبر على الوصول إلى موانئ المياه الدافئة في الخليج العربي، الذي هو أحد الممرات المائية الأكثر استراتيجية في العالم – وتحقيق حلم آخر بعيد المنال من أحلام بطرس الأكبر الذي كانت رؤيته للتوسع الروسي تمتد إلى حدود بعيدة تصل إلى المحيط الهندي. وسيؤدي أي خط مفتوح لروسيا إلى الخليج العربي إلى إضعاف النفوذ الأمريكي إلى حد كبير”.