عمدت التيارات الأصولية إلى استعادة الماضي، بصورة قسرية، وبعث التراث في نموذج إكراهي، من خلال أفكاره ومعاركه التقليدية، فيما سعت إلى إحياء إشكالياته القديمة وتوظيفها مع معطيات الواقع المغاير، وشروطه السياسية والتاريخية المتفاوتة.
صعود التيارات الدينية، ذات المرجعية السلفية والأصولية، يبرز عدة أسئلة في ما يخص الشرعية التي حازتها هذه الجماعات والتنظيمات في المجتمع، وكذا الحاضنة الشعبية التي توافرت لها بحيث استطاعت أن تحظى أغلبية، سواء عبر الانضمام السريع واللافت للأحزاب التابعة لها، ثم القدرة على الحشد والتعبئة في المظاهرات والاحتجاجات، أو الحصول على أغلبية المقاعد في أول انتخابات برلمانية بعد ثورة الخامس والعشرين من يناير 2011، ما يعكس خضوع فئات ليست بالقليلة تحت تأثير أفكارهم وأدبياتهم السياسية والمجتمعية.
المجتمع العميق
ولا يمكن تخطي عامل رئيسي، في هذا السياق. وهو أن المجتمع العميق، ظل بؤرة حيوية للشبكات الاجتماعية والاقتصادية للقوى الراديكالية، يتغلغل داخلها، إذ تمكن من الوصول إلى أجزائه المفككة عبر أنشطته الاجتماعية والخدمية، الأمر الذي رافقه نشاط مواز، تمثل في تمرير خطابهم الديني والعقائدي. فشكلت جيوباً تجذب الأفراد المرشحين للانخراط داخلها، وتحويلهم إلى فاعلين. كما نجحت في تحويل فئات أخرى إلى حوامل أيدولوجية، تتبنى نزعة سحرية للعالم، ورؤية دينية منغلقة وسلفية للاجتماع البشري، وذلك في ظل القبضة على البنية التحتية للمجتمع، وآثارها الممتدة في الأخلاق والسياسة.
بيد أن هذه الفئات الانعزالية والقوى التي خضعت لأدلجة الدين وتسيسه، ظلت تحتاج، فقط، طوال الوقت، إلى الشرط التاريخي والمناخ المواتي، لتعلن عن وجودها وانحيازاتها، بوضوح، بينما تملأ الفجوة الشاسعة التي شكلتها، بالتبعية، متوالية الفشل والإخفاق في مشروع التحديث الديني، على خلفية عناصره السلطوية والتوفيقية، ما تسبب في انحساره، تاريخياً، منذ بدايات القرن الماضي. ومن ثم، نجاح الطرف الآخر، الأصولي والسلفي، في تعرية تناقضات هذا الخطاب التلفيقي والبراغماتي، وتوظيف ذلك لصالح إحياء مشروعه الراديكالي.
جذور تاريخية
حجر الزاوية في فهم الصعود السريع واللافت للتيارات الدينية الراديكالية، لا يمكن رده إلى استنتاجات سهلة، لا تسعى وراء الظاهرة بتشكلاتها المعقدة، ومعرفة أصولها وقوانين انحسارها وفيضانها، فتحيله إلى وفرة التمويل، مثلاً، من جهات خيرية أو دول معينة. وكذا اعتبار المجتمع بطبيعته يميل إلى التدين، بل إن هناك ضرورة لتفكيك كل تلك المقولات والمزاعم حتى لو افترضنا صحتها بشكل جزئي. إذ إن ثمة جذور، اجتماعية وتاريخية وسياسية، ساهمت في صعود وتقوية حضور تلك القوى الدينية، وشكلت للتيارات الإسلاموية الامتدادات والانحناءات الواسعة في المجتمع، الأمر الذي يعود إلى بدايات مشروع النهضة الذي درج عليه المفكرون الإسلاميون، في محاولة للدمج بين التراث والتجديد، وتهيئته ومقتضيات الحداثة الفكرية والمادية.
وعلى مدى القرنيين الماضيين، منذ مطلع القرن التاسع عشر، استنفذ مشروع التحديث قدراته وإمكانياته المعرفية في التجديد وآلياته في التعاطي مع الحداثة. إذ كان مشروع التحديث الديني عبارة عن نموذج إكراهي مفروض على المجتمعات خارج سياقاتها التاريخية والاجتماعية، بينما لم تتمكن من إنتاج قيم حداثية على أسس معرفية سليمة.
ومن ثم، كان الاستدعاء البراغماتي والمؤقت للتراث والذي كان حاملاً لمواقف اجتماعية وسياسية قديمة وتاريخية، من خلال مصادرة الرأسمال الرمزي للدين، قد ساهم في صناعة طبقة اجتماعية ترهن التراث لتأويلها الخاص، وتتكون حولها آليات التكفير والإدانة والنبذ لكل من يستهدف تحرير التراث من الأيدولوجيا، وقطع الحبل السري بين الدين والسياسة.
وبينما ظل العقل الأيدولوجي يحفر مساراته في التاريخ وينتج مقولاته وأفكاره، ويعمد إلى التشويش على أي محاولات ابستمولوجية ومعرفية نقدية جادة، تجلت حالة الانسداد في التاريخ، وأفوله، عبر تثبيت رؤية جامدة ونظام معرفي تقليدي. وقد نجم عن ذلك تأبيد واقع اجتماعي وسياسي رث ومشوه، بكل ما يترتب على ذلك من مآلات في التفكير والسلوك.
غربة مزدوجة
فالعربي والمسلم على وجه العموم يعيش “غربة مزدوجة”، بحسب توصيف المفكر المصري، علي مبروك في كتابة: “الحداثة العربية بين العقل والقوة”. ويوصف المفكر المصري الحالة الراهنة بأنها “تتجلى في وقوف العربي والمسلم على هامش التاريخ عاجزاً عن الإسهام الفاعل فيه، وعن تراثه، كما تتجلى في عجزه عن الإمساك بجوهره الأصيل”. ويرى أن “الأصل في تلك الغربة يكمن في عجزه عن إنتاج معرفة حقه ومنضبطة بهما”.
وتوضيحاً ذلك، فإن الإخفاق والتداعي المستمر للتحديث الديني، من ناحية، وفشل تحرير التراث من الإطارات الأيدولوجية الجامدة، والقراءة التمجيدية له، من ناحية أخرى. تسببت فيه محاولات تكييف الواقع، بمفاهيمه ومستجداته، مع التراث، ومصادرة جهازه المفاهيمي القديم، ثم خلق قنوات دعاية شرعية، لنصبح بصدد عملية “أسلمة” دؤوبة لكافة عناصر الحياة.
هذه الصيغة من القولبة مستمرة وتستهدف إيجاد مماثل لكل ما هو معاصر ويومي في التراث ولدى السلف، بقيمه الروحية والسلوكية والاجتماعية والسياسية. ولذلك، فإن الجدل السياسي والثقافي حول تلك القضايا لا يبدو فقط تكرارياً ومستهلكاً أو باهتاً، إنما يتم بنفس آليات الصراع القديم، منذ كان طرفاه “العمامة” و”الطربوش”.
وتبعاً لذلك، يضحى الخطاب الذي تتورط فيه القوى المدنية، لا يضع فواصل بين المصطلحات والأفكار والممارسات، بل يسقط ضحية خطاب الآخر الذي يهيمن عليه، بصورة معكوسة ومضادة. ومن ثم، تنفتح شهية التأويل الساذج والانتهازي، لتختلط القيم الديمقراطية بمبادئ ومفاهيم “الشورى”، ومثلها المواطنة التي يظهر نموذجها أو بالأحرى أسبقيتها في “العهدة العمرية”. بينما تبلغ الأمور ذروتها في الأدبيات السياسية والحزبية لليسار (الماركسي) العربي، مثلاً، عندما صاغ بعضهم مقاربات نظرية متهافتة مع التراث.
ولا ينتهي الحال، وفقاً لهذا السياق، سوى بمزيد من الالتباس والتشويش في المفاهيم، وتثبيت المرجعية الدينية وشرعيتها، لجهة تمرير فكرة أو نبذها. وفي ظل سيادة الفكر الأصولي تجهض المشاريع العقلانية، القائمة على أسس معرفية ونقدية.