في المناوشات والتوتر المتصاعد بين أمريكا وروسيا في البحر الأسود ردا على تحركات أمريكا العسكرية لبسط الهيمنة والنفوذ يرجح متابعون بقوة نقل الصراع إلى القرن الإفريقي بخاصة السودان المطل على البحر الأحمر. الذي ترى فيه القوتين الروسية والأمريكية أرضا لحماية مصالحها وبسط نفوذها.
في تحرك مواز لما يحدث في البحر الأسود من استنفار عسكري للبحرية الأمريكية من خلال قوات الناتو، والحشد العسكري الروسي للحدود مع أوكرانيا.
كان ميناء بورتسودان موطأ قدم لروسيا وأمريكا حيث وصلت منذ مارس الماضي الفرقاطة الروسية الأدميرال جريجوروفيتس والمدمرة الأمريكية ونستون تشرشل. وهو التحرك الذي أعطي دلائل على البداية العلنية للتنافس الروسي الأمريكي ومعركة بسط النفوذ والسيطرة في منطقة المصالح الحيوية في القرن الأفريقي والبحر الأحمر.
بوادر وملامح التنافس الروسي الأمريكي على السودان
التقارب الأمريكي الملحوظ نحو السودان منذ الثورة السودانية وعزل نظام البشير الإسلامي. الذي بدأ بالرفع التدريجي للعقوبات الاقتصادية الأمريكية المفروضة على السودان منذ التسعينيات ورفع اسمه من قائمة الدول الراعية للإرهاب. جاء في وقت عززت فيه موسكو علاقاتها مع الخرطوم قبل وبعد الثورة السودانية إذ كانت الملجأ والحليف العسكري الأول لنظام البشير في مواجهة ضغوط أمريكا. ولم تختف من المشهد عقب إزاحة البشير. بل ظلت بوصلة السلطات الدبلوماسية والعسكرية السودانية تتجه نحو موسكو لطلب الدعم في إطار التحديات الجمة التي لا يزال يعاني منها السودان.
فسر مراقبون للعلاقات الدولية وتحركات القوى الفاعلة في السودان تحرك البحرية الأمريكية في ميدان بورتسودان بعده أسباب. في مقدمتها مواجهة أي نفوذ روسي في المنطقة. بعد أن تركت أمريكا لها المجال لتكون محرك الأحداث الرئيسي في سوريا وليبيا. حيث سبق وصول المدمرة الأمريكية تشرشل، وصول البارجة كارسون سيتي التابعة للبحرية الامريكية للبحر الأحمر في فبراير الماضي. وهي التحركات التي تأتي لتحقيق أهداف وصفتها السفارة الأمريكية في الخرطوم بأنها من أجل دعم أمريكا للانتقال الديمقراطي في السودان وتعزيز الشراكة بين البلدين.
الحرب الأهلية
لم تكن الخلافات بين أمريكا وروسيا حول الشأن السوداني جديدة. إذ كانت الحرب الأهلية في السودان طوال فترة الثمانيات حتى انفصال جنوب السودان مجالا للتنافس. فرغم الموقف الروسي الرافض للانفصال والتحذير المستمر من أن انفصال الجنوب سيكون تهديداً للسلم العالمي بخلق نموذج مشابه للصومال. إلا أن موسكو سرعان ما غيرت مواقفها لصالح دعم الانفصاليين. حيث رصدت تقارير دولية مساهمة روسيا في تزويد الحركة الشعبية بطائرات مقاتلة وأسلحة قتالية أخرى. فضلا عن عرض المساهمة والاستثمار في مشاريع النفط بجنوب السودان. وهي التحركات الموازية لدعم القوى الغربية وأمريكا جنوب السودان في الانفصال.
مع الدعم الروسي لانفصال جنوب السودان. ظلت موسكو تلعب على وتر التقارب مع حكومة الخرطوم في مواجهة الضغوط والعقوبات الأمريكية. إذ كانت روسيا المتنفس الأول للسودان خلال سنوات الحصار الأمريكي سواء في مجالات الدعم الاقتصادي والعسكري والسياسي. حيث ساهمت في تعزيز قوى الجيش السوداني وتقديم الخبرات في استخراج البترول.
ولعل أبرز شواهد التقارب الروسي مع السودان كان اتفاقيات للتعاون العسكري تتعلق بالتدريب، وتبادل الخبرات. ودخول السفن الحربية إلى موانئ البلدين.
بنهاية عام 2020 بدأت ملامح المواجهة الحقيقية وصراع المصالح بين روسيا وأمريكا. فمع قرب دخول اتفاقية التعاون الروسية السودانية وإنشاء القاعدة العسكرية الروسية في ميناء بورتسودان لتكون بمثابة مركز لوجسيتي للبحرية الروسية حيز التنفيذ. أعلنت الولايات المتحدة عن رغبتها في إقامة تعاون عسكري وثيق مع السودان. حيث بدأ الملحق العسكري الأمريكي في الخرطوم مباحثات مع القوات المسلحة السودانية لتعزيز التعاون والعلاقات الثنائية بخاصة ما يتعلق بمجال عمل القوات البحرية السودانية. وتأتي التحركات الأمريكية في إطار تقارب عسكري غير مسبوق مع السودان منذ 20 عاماً. توقف خلالها كافة أشكال الدعم والتعاون العسكري. حيث افتتحت واشنطن ملحقية عسكرية لها في الخرطوم وبدأت في استئناف العلاقات العسكرية منذ قطعها في 1997 حيث كانت قد فرضت حظر التسليح العسكري بجانب العقوبات الاقتصادية.
الجيش السوداني.. معركة النفوذ العسكري بين روسيا وأمريكا
إلى جانب صراع النفوذ على البحر الأحمر وميناء بورتسودان. يظل الجيش السوداني وتكوينه وتسليحه المجال الأوسع للصراع بين واشنطن وموسكو. بخاصة ما يتعلق بوضع الميلشيات وقوات الدعم السريع التي لا تزال تحتل جانب كبير من المكون العسكري في السودان.
في زيارة مطولة للخرطوم مطلع أغسطس الجاري. دعت سامنثا باور، المدير التنفيذي للوكالة الأمريكية، إلى انشاء جيش سوداني موحد تدمج فيه قوات الدعم السريع وقوات الحركات المسلحة يخضع لقيادة سياسية وعسكرية واحدة. كشرط أساس لاستمرار دعم الإدارة الأمريكية للحكومة الانتقالية، بما يحقق الاستقرار في السودان
وفقا لتقارير إعلامية سودانية. فإن قوات الدعم السريع كانت وظلت تعتمد بالأساس على الدعم الروسي في إحكام سيطرتها وعملها داخل السودان. حيث كان برنامج دعم روسيا لتطوير القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع بصفة خاصة. بدأ منذ عهد الرئيس المعزول عمر البشير. ما تناقلته العديد من وسائل الإعلام السودانية بشواهد لوجود أسلحة ومعدات روسية في العمليات التي تقوم بها قوات الدعم السريع في مناطق جبل الأولياء وأمدرمان وجنوب وشمال دارفور.
مع الدعم الروسي الصريح لقوات الدعم السريع. فإن تصريحات ومواقف نائب رئيس المجلس العسكري، محمد حمدان دقلو (حميدتي). الذي يملك تأثيرا قوي على مجريات الأمور السياسية والعسكرية في السودان، تتقارب كثيرا مع روسيا الذي دافع عنها بأنها لا تملك أجندات في السودان وأن مواقفها تنحاز دائما للطريق الصحيح من أجل مصلحة السودان.
إلا أن تغير الموقف السوداني فيما يتعلق بمراجعة اتفاقية المركز اللوجيستي الروسي على البحر الأحمر، فسره المراقبون أنه نتيجة ضغوط من واشنطن خاصة مع وصول قوات من البحرية الأمريكية لميناء بورتسودان.
موقع السودان على البحر الأحمر.. الأهمية الجيوسياسية
بدأت القوى الإقليمية تنظر إلى السودان باعتباره حلقة وصل استراتيجية هامة بالنظر إلى موقعه في الجزء الشمالي من القارة الإفريقية. حيث يعد المدخل لأفريقيا جنوب الصحراء عبر البحر الأحمر. حيث يمتلك السودان سواحل تمتد بـ750 كيلو متر على البحر الأحمر. يتصدرها ميناء بورتسودان الذي يعد منفذ بحري استراتيجي هام. حيث تقترب كثيراً من دائرة الأزمات في الشرق الأوسط والقرن الإفريقي وغرب المحيط الهندي وشرق البحر المتوسط.
مع استقرار السودان وعبور المرحلة الانتقالية بأجراء الانتخابات العامة. والبدء في دمج السودان في المحيط الإقليمي والدولي، وتطبيع العلاقات مع إسرائيل. تظهر المصالح المرحلية لضمان استقرار السودان ومواجهة المخاطر المحتملة لأي نشاط يتعلق بالجماعات الإرهابية وتغلغل داعش مع استمرار التهديدات الأمنية في البحر الأحمر من قبل الحوثين في اليمن وحركة شباب المقاتلين في الصومال. فضلاً عن منع استغلال الأراضي السودانية كممر لعبور الأسلحة والمقاتلين والمهاجرين إلى ليبيا، ومنها إلى أوروبا، ومنع تهريب الأسلحة إلى قطاع غزة عبر السودان ومصر.
وتبقى محددات التنافس أيضا في ضمان عدم تقارب السودان مع الحكومات المعادية للمعسكرين الغربي والشرقي مثل تركيا وإيران. في إطار محاولات سابقة لبسط النفوذ التركي في السودان لإحياء اتفاق ميناء سواكن السوداني شمال البحر الأحمر.
المصالح الاقتصادية بين موسكو وواشنطن
رغم المشاكل الاقتصادية الجمة التي لا يزال يعاني منها السودان في أعقاب الثورة السودانية. إلا الملف الاقتصادي يبقى محل رهان لتحقيق مصالح كل من موسكو وواشنطن. حيث تبقى الأهمية الاقتصادية للسودان محل اهتمام الحكومات والشركات عابرة القارات باعتبار السوق السوداني مدخلاً وبوابة للانتشار في السوق الإفريقي فضلا ًعن إمكانية الاستفادة من القدرات الاقتصادية والطاقات الكامنة في السودان بخاصة في ملفي التعدين والزراعة.
تمتلك موسكو العديد من المصالح الاقتصادية في السودان. حيث تأتي الخرطوم في المرتبة الثانية كمستورد رئيسي للأسلحة الروسية خلال العقدين الماضيين. إضافة إلى القمح الروسي فضلاً عن العديد من المشروعات لشركات روسية في قطاع التعدين والتنقيب عن الذهب في السودان. بينما تشير تقارير إلى النشاط الخاص الذي تلعبه مجموعة فاغنر الأمنية الروسية بحراسة مناجم الذهب السودانية ضمن النشاط الواسع للمجموعة في السوق الإفريقي.
تتجه معظم التوقعات إلى سيناريو تعزيز الصراع خاصة مع السيناريو الأول: نجاح واشنطن في ترسيخ نفوذها في السودان على حساب روسيا والصين. استنادا إلى الانفتاح الأمريكي الجديد على السودان بعد رفع اسمه من قائمة الإرهاب. الذي قد يدفع الخرطوم للنأي بنفسها عن الطرفين الروسي والصيني لحساب واشنطن. فضلا عن استعداد الجانب الأمريكي لتقديم مزيد من المساعدات التنموية والإنسانية للنهوض بالاقتصاد السوداني. وبناء علاقات استراتيجية وتعاون عسكري وأمني أكبر وأوسع نطاقاً مع السودان خلال الفترة المقبلة.
وبدأت الولايات المتحدة أيضا في الانفتاح على الملف الاقتصادي بالسودان. من خلال بوابة الدعم للوضع الاقتصادي المتأزم من خلال بعض المساعدات المباشرة وغير المباشرة. التي تقدر بقيمة 1.1 مليار دولار. حيث حصل السودان على قرض قصير الأجل مع واشنطن بقيمة 1.2 مليار دولار بالتزامن مع توقيع اتفاق تطبيع العلاقات مع إسرائيل. كما ساهمت أمريكا في تمكين السودان من الحصول على تمويل يقدر بـ”مليار دولار” من البنك الدولي. إضافة إلى المساعدات الإنسانية لمواجهة التحديات المتعلقة بتدهور الاقتصاد. وتفشي جائحة كوفيد-19، والفيضانات. إلا أن أغلب هذه المساعدات لا تزال تصنف كمساعدات مشروطة في إطار تقديم ضمانات للحفاظ على المسار الانتقالي في البلاد.
سيناريوهات المواجهة.. وأدوات السودان لحماية مصالحه
في توقعات مستقبل الصراع فإن سيناريوهين أساسين يمكن أن يرسما ملامح التنافس الروسي الأمريكي. يتلبور الأول في إيجاد ألية للتعاون وتوافق الرؤى ومواجهة المخاطر التي تهدد مصالح الدولتين وعلى رأسها مواجهة الإرهاب المحتمل نتيجة عدم الاستقرار السياسي. أو السيناريو الثاني تغليب المصالح الأمريكية على حساب روسيا ما بدأت تظهر ملامحه بقوة للالتجاء إلى معسكر أمريكا خاصة من قبل الحكومة والمجلس السيادي السوداني. والانفتاح في بناء تعاون وعلاقات استراتيجية وعسكرية بعد سنوات من الانغلاق والعزلة.
وتبقى المصالح السودانية رهن قدرة القيادة السياسية السودانية على تحقيق هامش من المناورة المعقولة وإدارة العلاقات الدولية مع القوة الفاعلة والاستفادة من التنافس الأمريكي الروسي بشكل يحقق المطالب الملحة في الشارع السودان. وفق مبدأ تنويع الحلفاء والشركاء الدوليين من أجل استكمال خارطة الطريق وعبور المرحلة الانتقالية.
لكن يبقى الخطر الحقيقي من تصاعد وتيرة التوتر إثر صراع النفوذ في إقحام السودان في مشاكل أمنية أو فيما يعرف سياساً بعمليات الحرب بالوكالة لاستعراض القوة العسكرية. خاصة باعتبار السودان محط أنظار قوى اقليمية أخرى كإسرائيل وتركيا وإيران والصين إضافة إلى القوى الفاعلة في الخليج كالإمارات وقطر والسعودية. وما يعزز ذلك انقسام الأراء والولاء داخل المؤسسة العسكرية السودانية. ما يظهر بقوة في ميل حميدتي وقوات الدعم السريع لروسيا. ما قد يزيد من الاستقطاب السياسي في السودان.
حتى الآن يبقى السودان الباب مواربا أمام أمريكا وروسيا. فإلى جانب إعلان الخرطوم عن مراجعة اتفاقية القاعدة العسكرية البحرية الروسية في بورتسودان هرولت وزيره الخارجية السودانية، مريم المهدي إلى موسكو تأكيداً على عمق العلاقات الاستراتيجية بين البلدين. فيما تنتفح بشكل مواز مع واشنطن سياسيا وعسكريا واقتصاديا.