سيطر الارتباك على المشهد الليبي قبل أشهر قليلة من الموعد المقرر للانتخابات العامة، في 24 ديسمبر المقبل، وذلك في ضوء “صراع صلاحيات” مستمر بين رئيس حكومة الوحدة الوطنية برئاسة عبد الحميد الدُبَيْبة وقائد قوات الجيش في شرق ليبيا المشير خليفة حفتر.
ويمكن القول إن هذا الصراع بدأ منذ اليوم الأول لمنح مجلس النواب (داعم لحفتر) حكومة الدبيبة الثقة، وما تبعها من مطالب بتخصيص ميزانية مستقلة لقوات شرق البلاد، مرورًا بتجاهل حفتر تعليمات أصدرها المجلس الرئاسي بشأن احتكار تعيين العسكريين وترقيتهم.
في سياق هذا الاحتقان المكتوم، بدت مؤشرات ميدانية، أعادت الانقسام إلى الواجهة بعد أشهر من اتفاق جنيف السياسي، أولها منع وفد الحكومة الجديد من زيارة مناطق بالمنطقة الشرقية (مقر قوات الجيش بقيادة حفتر ومجلس النواب المناهض لقوات الغرب وأجسامها السياسية).
ومع تزايد الخلافات السياسية والاقتصادية، والتي حالت- في إحدى محطاتها- دون الاتفاق على تعيينات المناصب السيادية، طلّت نُذر مواجهات عكسرية في الأفق، من خلال الكشف عن وصول دفعة جديدة من المرتزقة السوريين لمناطق غرب ليبيا، ثم تصريحات تركية ترفض مغادرة عناصرها الأراضي الليبية، في المقابل إعلان المشير حفتر أنه لن يخضع لأية سلطة مدنية.
اتفاق أكتوبر 2020
كل ما سبق يجعل العودة إلى ما قبل أكتوبر 2020 قريبًا إلى المشهد الليبي، وهو ما كان سببًا- على ما يبدو- وراء زيارة مفاجئة لرئيس مجلس النواب عقيلة صالح والمشير خليفة حفتر والمبعوث الأمريكي ريتشارد نورلاند إلى القاهرة، حيث دار الحديث عن جهود مصرية لاحتواء الموقف والدفع في اتجاه استكمال خارطة الطريقة الأممية.
وضعت الحرب أوزارها، عندما وقّع الطرفان المتحاربان (قوات شرق ليبيا – قوات حكومة الوفاق بالغرب) اتفاقاً في أكتوبر 2020 لوقف إطلاق النار، حين كانت التوقعات تشير إلى حرب إقليمية أوسع نطاقًا في الدولة المطلة على أوروبا.
وبعد محادثات سياسية بين كافة الأطراف، جرى التوقيع على خارطة طريق برعاية الأمم المتحدة في نوفمبر 2020، تنص في آخر بنودها على إجراء انتخابات عامة بنهاية 2021.
على هذا الأساس جرى اختيار سلطة مؤقتة في فبراير الماضي، عبر اقتراع مباشر للمشاركين في منتدى الحوار السياسي ممثلين عن كافة المناطق. جاء محمد المنفي – المحسوب مناطقيًا على الشرق لكنه يميل سياسيًا إلى الغرب (الإسلاميين) كرئيس للمجلس الرئاسي خلفًا لـ فائز السراج، وعبد الحميد الدبيبة المحسوب كليًا على الغرب رئيسًا للوزراء.
صراع صلاحيات بين حفتر والدبيبة
بدت ملامح هذا الصراع على الصلاحيات، عندما نصّت خارطة الطريق على أن المجلس الرئاسي، يشغل منصب القائد العام للقوات المسلحة، غير أنّ مجلس النواب الذي منح الثقة لحكومة الدبيبة، تجاهل التصديق رسميًا على خارطة الطريق.
لكن التطورات الأخيرة كشف بجلاء رفضًا قاطعًا من خليفة حفتر للسلطة المدنية على قوات الشرق، حيث قال في كلمة بمناسبة الذكرى 81 لتأسيس الجيش إن “الجيش لن يكون خاضعًا لأيِّ سلطة إلا إذا كانت منتخبة من الشعب كونه مصدر السلطات”.
لدى تلك النقطة، رد الدبيبة على حفتر بالقول: “الجيوش وُجدت لحماية العواصم لا أن تقتحمها وترعب أهلها وتدمر ممتلكاتها”، في إشارة إلى العملية العسكرية التي أطلقها حفتر في أبريل 2019.
وقبل ذلك، تعهّد عبد الحميد الدبيبة بأن يزور مدينة بنغازي، لإبراز صورته كرئيس لحكومة توافقية، لكن موقفه من قوات الجيش بقيادة حفتر، طبعت صورته في المخيال الشعبي على أنه “الطرف المعادي” للمنطقة الشرقية، وهو ما ينزع عن الحكومة صفتها التوافقية إلى اعتبارها طرفًا في الصراع باحيازها إلى مناطق غرب البلاد.
اقرأ أيضًا| كيف تتخطى ليبيا عقبتي الدستور وتوحيد الجيش؟
زاد بروز هذا الموقف بعدما منعت قوات الجيش في الشرق طائرة للحكومة كانت قادمة إلى بنغازي من النزول في مطار بنينا. لذلك فإنّ سلوك الطرفين، يزيد الشكوك حول القدرة على تنفيذ خارطة الطريق، ويقلل تفاءل القائلين إنّ الحرب الليبية وضعت أوزارها.
إعادة هيكلة الجيش
وفي ذكرى تأسيس الجيش، كلف المشير خليفة حفتر رئيس الحكومة المؤقتة سابقًا عبد الله الثني بالإدارة السياسية في القوات المسلحة، والفريق أمراجع العمامي برئاسة القوات البرية، والعميد عبد الله عمر الزايدي آمرًا لغرفة عمليات الجفرة، واللواء صالح اعبوده لإدارة التدريب، وترقية اللواء مفتاح شقلوف إلى رتبة فريق وتكليفه برئاسة أركان الحدود. واللواء رمضان البرعصي آمرا لمنطقة البيضاء العسكرية، وترقية اللواء طيار محمد المنفور إلى رتبة فريق وتكليفه برئاسة أركان القوات الجوية.
تلك التعيينات، جاءت بعد يومين من إصدار المجلس الرئاسي تعليمات باعتباره “قائدًا أعلى للقوات المسلحة” لجميع الوحدات العسكرية بـ”التقيد بتعليماته فيما يخص الترقيات وتشكيل الوحدات العسكرية وتعيين آمري المناطق العسكرية وغيرها من اختصاصاته”. وذكر المجلس، في بيان، أن تلك الاختصاصات مسندة إليه وفقًا لمخرجات الحوار السياسي في نوفمبر 2020، وتشمل القيام بمهام القائد الأعلى للجيش الليبي.
ميزانية القوات المسلحة
أحد مظاهر الخلاف بين الحكومة الجديدة وممثلي المنطقة الشرقية، يتمثل في المطالبة بميزانية لقوات الجيش في الشرق، حيث قال عقيلة صالح منتصف الشهر الماضي حين كان يشرح سبب عدم إقرار البرلمان للميزانية حتى الآن: “لابد أن تكون للقوات المسلحة ميزانية لتقوم بمهامها ولا زلنا نصر على هذا الأساس”.
وقبل أسبوع، تلقى مجلس النواب الليبي ميزانية من حكومة الوحدة الوطنية، تقدر بنحو 111 مليار دينار. لكن البرلمان لا يزال يعترض على بعض بنودها ويقول إنها تفتقر إلى الشفافية ولا تراعي الوضع المالي والاقتصادي للدولة، كما أنها “مبهمة فيما يتعلق ببنود التنمية”.
الدبيبة وسيف القذافي.. من “ليبيا الغد” إلى “ليبيا المستقبل”
وجزء من خلاف حفتر والدبيبة هو علاقة الأخير بسيف القذافي، خاصة أن البعض طرح سؤالاً جوهريًا: هل يمهّد دبيبة لعودة “سيف الإسلام”؟ وإن كانت الإجابة عن هذا السؤال غير محددة أو دقيقة في الوقت الراهن، فإن الدبيبة يبدو أنه لا يعارض ترشح سيف للرئاسة، بحسب تصريحات سابقة أدلى بها لموقع “جون آفريك” الفرنسي عام 2018.
بالإضافة إلى ذلك تصريحاته الأخيرة التي تؤكد دعمه للمصالحة بين جميع الليبيين، ما يتيح لأنصار القذافي لعب دور سياسي أكبر في المرحلة الانتقالية. غير أن الربط الأكثر وضوحًا بين الاثنين، هو اعتبار أن تيار “ليبيا المستقبل” الذي يقوده دبيبة هو استمرار لمشروع “ليبيا الغد” الذي أطلقه سيف الإسلام في 2006، وكان حينها دبيبة أحد أركان هذا المخطط الإصلاحي للنظام من الداخل، والهادف لتطوير البلاد.
والمرجِّحون تحالف الدبيبة وسيف القذافي يستندون إلى فكر الأول “التصالحي”، فضلاً عن كونه رجل اقتصاد وسبق أن تقلد مناصب حكومية اقتصادية قبل أن ينشق عن النظام في العام 2011. وهذه العلاقة دفعت البعض للقول إن رئيس الحكومة الحالي حصل على دعم أنصار القذافي في الانتخابات المصغرة التي فاز خلالها برئاسة الحكومة، مقابل قائمة عقيلة صالح وفتحي بشاغا.
اقرأ أيضًا| ليبيا.. ماذا تعني عودة سيف القذافي؟
ربما هذه العلاقة غير العلنية حتى الآن تبرر التوتر الذي ساد علاقة الدبيبة بالأطراف في المنطقة الشرقية منذ اليوم الأول لتوليه المسؤولية، حتى وإن حصل على ثقة مجلس النواب الذي دُفع على ما يبدو لمنحها خشية العقوبات الدولية باعتباره معرقلاً للحل السياسي.
نشاط عسكري
وسط اتساع دائرة الخلاف السياسي والاقتصادي، عاد إلى الواجهة الحديث عن نشاط عسكري في بعض المناطق، لاسيما لأطراف خارجية، نشطت خلال المواجهات العسكرية في المنطقة الغربية قبل اتفاق وقف إطلاق النار.
واحدة من تلك المظاهر ما كشفه المرصد السوري لحقوق الإنسان، قبل يومين، من أن تركيا أرسلت دفعة جديدة من الفصائل السورية الموالية لها إلى ليبيا. وقال مدير المرصد رامي عبدالرحمن إن العناصر الجديدة من فصيل “أبو عمشة” هو المصدر الأول للمرتزقة السوريين الذين يقاتلون مع تركيا.
في الإطار نفسه، أفصحت “بي بي سي” أمس الأربعاء عن تحقيق تتبع إشارات على وجود عناصر روسية غامضة في خضم الحرب الأهلية الدائرة في ليبيا. وذكرت الشبكة في التحقيق الذي قالت إنه “سبقًا صحفيًا” إنها تمكنت من الوصول إلى مقاتلين سابقين لـ”مجموعة فاغنر” وكشفت عن تفاصيل نشاط تلك المجموعة في الأراضي الليبية. لكن روسيا تنفي أي صلة بالمجموعة وتقول وزارة خارجيتها إن موسكو “تعمل للتوصل إلى وقف لإطلاق النار وحل سياسي للأزمة الليبية”.
محطة القاهرة.. حفتر وعقيلة وريتشارد
في محاولة مصرية للدفع باتجاه استكمال خارطة الطريق للوصول إلى انتخابات عامة، وصل أول أمس الثلاثاء إلى القاهرة عقيلة صالح المشير خليفة حفتر والمبعوث الأمريكي ريتشارد نورلاند.
مصادر قالت إن اجتماعات القاهرة الحالية جاءت في إطار دفع الحلول السياسية والتمسك بإجراء الانتخابات، وهو ما يستوجب الاتفاق على القاعدة الدستورية التي لا تزال تشهد نقاشات وخلافات داخل مجلس النواب.
وأفادت المصادر بأن مصر تحاول إعادة طرح مبادئ “إعلان القاهرة” الذي جرى الاتفاق عليه قبل جولات جنيف الأخيرة، والذي يهدف إلى تقاسم السلطة والتوزيع العادل للثروات.
وفيما لا يزال الخلاف مسيطرًا على آلية اختيار المناصب السيادية، فإن الجميع يترقب جلسة النواب التي ستعقد الإثنين المقبل، حول قانون انتخاب الرئيس، وتمرير الميزانية.
سيناريوهات مستقبلية
لذلك فإنّ محدودية المدى الزمني، وكثرة المهام اللوجيستية، وضعف تأثير حكومة الوحدة الوطنية، وخلافات حفتر والدبيبة، تُحدد فرص استكمال خارطة الطريق، وتأثير ذلك على حالة استمرار وقف إطلاق النار أو تجدُّد النزاع المسلح مرة أخرى.
السيناريو الأول لكل هذه التطورات يتمثل بإجراء الانتخابات، فهو مدعوم أمريكيًا في إطار الدفع للتوافق على قاعدة دستورية، وإرجاء كافة الملفات للسلطة المنتخبة الجديدة، بما في ذلك إقرار دستور دائم وتفكيك الميليشيات.
والسيناريو الثاني هو استنساج حكومة السراج السابقة، من خلال استمرار حكومة الدبيبة في السلطة لفترة أبعد من الأشهر المتبقية حتى نهاية العام، بحكم استمرار الخلاف هو القاعدة الدستورية وعدم الانتهاء من الاستعدادات المطلوبة لإجراء الانتخابات بما فيها قواعد البيانات والأمور اللوجيسيتة.
والسيناريو الثالث يأتي كنتيجة للسيناريو السابق، من خلال عودة الانقسام عندما يحين موعد 24 ديسمبر 2021 من دون إجراء الانتخابات، ووقتها سيكون من المرجح إعلان مجلس النواب (طبرق) عن حكومة موازية في شرق ليبيا من جديد. يدعم ذلك قول عقيلة صالح أثناء جلسة منح الثقة لحكومة الدبيبة، إن هذه الثقة مقتصرة على فترة ما قبل موعد الانتخابات.
ونتيجة للسيناريو الأخير، ينهار اتفاق وقف إطلاق النار، وتتجدد المواجهات المسلحة مرة أخرى، وهي المرحلة التي تشير التوقعات إلى أنّه سيحين موعدها بعد 24 ديسمبر المقبل، لكن المؤشرات الحالية تضع مقدمات لهذا السيناريو.
حكومة موازية
أحد أبعاد السيناريوهات المتوقعة يتمثل في إعلان مجلس النواب عن حكومة موازية في شرق ليبيا، وهو ما ألمح إليه عقيلة صالح حين حذر في تصريحات لوكالة رويترز قبل أسبوعين، من احتمال ظهور حكومة موازية جديدة في الشرق إذا تأجلت الانتخابات المقررة في 24 ديسمبر 2021.
يبرز هذا الاحتمال من خلال قول رئيس مجلس النواب إن ليبيا ستعود إلى المربع الأول وأحداث ما بعد 2011، إذا تأجلت الانتخابات المقررة. واعتبر أن حكومة الوحدة الوطنية تحولت إلى “حكومة طرابلس”، في إشارة إلى ميلها للمنطقة الغربية.