لم تلبث عاصفة وفاة الدكتور جورج حبيب بباوي أن تهدأ حتى تجدد جدل ملف المحرومين كنسيًا بوفاة لاهوتي آخر من نفس المدرسة هو “هاني مينا ميخائيل“. الرجل الذى نال عقوبة مشابهة لتلك التي حظى بها بباوي فتم حرمانه كنسيًا حتى توفي منذ أيام في لندن.
وإن كان قد حظى ميخائيل بمصير مشابه لبباوي الذى يلقبه الكثير من الأقباط بالمحروم، إلا إنه كان بعيدًا عن الضوء ربما لأن بباوي قد قرر رفع الحرمان عن نفسه قضائيًا حين اختصم الكنسية في المحاكم، أو لأن بباوي كان عالمًا متخصصًا في اللاهوت وترأس أقسامه في كبرى الجامعات مثل كامبريدج. بينما كان هاني مينا ميخائيل طبيبًا دخل عالم اللاهوت من بوابة الطب حين سافر كجراح عظام للعمل في بريطانيا منذ السبعينات وهناك التحق بمعهد الدراسات الأرثوذكسية بكامبردج أيضا وكأنه يقتفي أثر بباوي المعلم والأستاذ.
كان هاني مينا ميخائيل شماسًا في الكنيسة القبطية يحمل درجة أغنسطس، أي قارئ الكتب المقدسة، قبل أن تنزل عليه عقوبة الحرمان الكنسي بقرار من المجمع المقدس في جلسته يوم 25 مايو 1999م. كما تم تأكيد حِرمانه في جلسة المجمع المقدس يوم 10 يونيو 2006 م، حيث أشرف الأنبا بيشوي مطران كفر الشيخ الراحل ورئيس لجنة المحاكمات الكنسية على القرارين دون أن يستمع إليه أحد ودون أن تعقد له محاكمة يتم فيها تفنيد أفكاره وهو نفس السيناريو الذى حدث مع جورج بباوي أيضًا.
العدالة الإلهية حياة لا موت مغفرة لا عقوبة
جاءت العقوبة كرد فعل على صدور كتابه الشهير “العدالة الإلهية حياة لا موت مغفرة لا عقوبة” الذى صدر ممهورًا بمقدمة الأنبا اثناسيوس مطران بني سويف المتوفي. إذ أكد المطران في مقدمة الكتاب أنه لا يتفق مع ما ورد فيه من أفكار ولكنه أراد أن يكتب تلك المقدمة كطريقة لاحترام الرأي الآخر ومناقشته حتى وإن اختلفنا معه بينما تمت مواجهة هذا الكتاب من التيار التقليدي في الكنيسة بالمنع والمصادرة رغم أن وجود مقدمة موقعة من أحد الأساقفة هي أحد الأعراف الكنسية التي تعني إن هذا الكتاب قد حصل على إذن بالنشر والتوزيع كنسيًا.
رحيل هاني مينا ميخائيل بعد أن نال عقوبة الحرمان الكنسي فتح ملف المبعدين كنسيا والمحرومين في عصر البابا شنودة حيث تعني تلك العقوبة امتناع الكنيسة عن السماح له بالتناول من الأسرار المقدسة (سر الأفخارستيا) ومن ثم لا تتم الصلاة عليه في كنيسة أرثوذكسية وفقا لهذا الحرمان.
في مقابل الحرمان والمنع، تجد كتب هاني مينا ميخائيل تلاقي ترحيبًا كبيرا بين أوساط اللاهوتيين الشباب من العلمانيين في الكنيسة، أي البعيدين عن الرتب الكنسية. فيقول أمجد بشارة الباحث والكاتب في اللاهوت إن قرار الحرمان قد وقع على اللاهوتي الراحل دون تقديم أي تعليقات على التعليم الذي حمله الكتاب ذاته أو حتّى دون محاكمة الكاتب، ودون أن يحضر جلسة المجمع ليعرض حجته ويدافع عن رأيه ويُعطى فرصة للتوبة إن كان هناك خطأ، وهو أمر مخالف لما تم التعارف عليه في المجامع الكنسية حيث يجب أن يتثنى للمحكوم عليه فرصة للحضور والتعليق والدفاع عن نفسه.
يوضح بشارة أن الكتاب لا يتعارض مع المفاهيم الأرثوذكسية قائلا: لا يرى أي دارس للإيمان الأرثوذكسي أي مشكلة في الأفكار التي يقدمها الكتاب، بل على العكس فقد أورد الكاتب الكثير من التعليقات من الكتاب المقدس والآباء المُعلمين الشرقيين التي تدعم رأيه.
يؤكد بشارة أن كتاب العدالة الإلهية الذى قدمه هاني ميخائيل يؤكد على أن الليتورجيا (العبادات) أو الصلوات الكنسية هي تعبير عن عبادتنا، ولا يُمكن أن يتناقض ما نصلي به مع إيماننا، وأن الموت الذي يسود على حياتنا البشرية هو عدو دخيل وجد مكانًا كنتيجة للخطية التي هي بعدٌ عن الله، فنحن من أوجدنا للموت مكانًا ببعدنا عن مصدر الحياة (الله) مشددا: فعدل الله هو إحياء الإنسان، عدل الله هو حبٌّ للإنسان.
أما مارك فلبس، مؤسس مبادرة إيلثيا للتعليم اللاهوتي، فيؤكد أن الكتاب أشبه بمذكرة دراسية أكثر منه كتاب، وكاتبه طبيب بشري من غير المنتسبين للكليات الإكليريكية أو اكليروس الكنيسة وهو ما أسس في وعينا إمكانية دراسة اللاهوت طالما امتلكت الأدوات المعرفية الكافية، لذلك نعرض هذا الكتاب دائما في مبادرتنا ولن نكف عن الاستشهاد به لأنه قادر على امتصاص الصدمات المعرفية وتقديم عرض وافي لخلافات الآباء في الشرق والغرب.
لم يكتف هاني مينا ميخائيل بكتابه الذى تعرض بموجبه لعقوبة الحرمان الكنسي ولكنه أصدر بعده عدة كتب من بينها الخلاص والفداء والكفارة مقارنة للاهوت الشرقي والغربي، وكتاب آخر بعنوان “الله والإنسان والكون المادي في الإيمان الأرثوذكسي” وغيرها، إلا أن المعرفة تلك قد صارت إرثًا له دون أن تشفع له كنسيًا قبل وفاته.