يبدو أن “الرقائق الإلكترونية” هي عنوان التنافس العالمي المستجد، على وقع حرب ضروس دارت في الخفاء ثم انتقلت إلى العلن. ومعها ضُربت صناعات حيوية في مقتل، بعدما شهد العالم نقصًا في إنتاج الرقائق بسبب جائحة كورونا.
ربما تسببت جائحة كورونا في ظهور أزمة الرقائق أو أشباه الموصلات إلى العلن. لكنّ تفاصيل الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين تحتوي على دخان كثيف لصراع الاستحواذ على الرقائق.
ولأنها أصبحت تشكِّل العقل لكافة الأجهزة والآلات الحديثة في المجتمع الحديث، من ماكينة القهوة وحتى المحطة الفضائية. باتت الرقائق الإلكترونية تتحكم في مستقبل البشرية، إمّا بالإيجاب نحو التحوّل التكنولوجي، أو بالسلب نحو الاحتكار أو التعرض لأزمات التوقف عن الإنتاج.
وتعمل هذه الرقائق على التقاط البيانات وتخزينها وإصدار الأوامر للدوائر الكهربية المختلفة للقيام بوظائفها. بدءاً من تقليل سرعة السيارات وحتى الزمن اللازم لدورة غسيل الملابس.
ويواجه الاقتصاد العالمي أزمة كبيرة منذ بداية جائحة كورونا في توفير الإنتاج الكافي من الرقائق لتلبية الطلب المتزايد عليها. ورغم تراجع إنتاج شركات السيارات، وما تبعه من إلغاء الكثير من طلبيات شراء الرقائق. فقد ارتفع الطلب عليها بشدة من قبل شركات الأجهزة الإلكترونية التي ازدهرت بسبب تطبيق إجراءات الحجر الصحي. مثل أجهزة الكمبيوتر المحمولة والهواتف المتنقلة وأجهزة الألعاب.
الرقائق الإلكترونية.. عقل الأجهزة الحديثة
تصنع الرقائق الإلكترونية من السيليكون وتطبع عليها دوائر كهربية من أشباه الموصلات Semiconductors التي تجمع البيانات وتخزنها. ومن ثمّ تنقلها لدوائر التحكم في الآلات والأجهزة التي نستخدمها حاليًا.
استخدمت للمرة الأولي في أجهزة الراديو، قبل أن تصبح بمثابة العقل لكل الأجهزة الإلكترونية التي غيرت العالم. بدءًا من محمصات الخبز لغسالات الملابس للهواتف الذكية وأجهزة الكمبيوتر والألعاب والسيارات وحتى مركبات الفضاء.
وتتميز الرقائق بصغر حجمها المتناهي وتكلفتها المنخفضة واستهلاكها الضئيل من الكهرباء. لذلك ساهمت في تخفيض حجم وقيمة الكثير من الأجهزة الإلكترونية التي أصبحت أساسية لكل شخص. ورغم سهولة إنشاء مصانع جديدة لإنتاج الرقائق، إلا أن التحدي الأكبر يكمن في قدرة المصانع على الاستمرار في تطوير منتجاتها.
ويتحكم “قانون مور” في تطور الرقائق الإلكترونية، وينص على أن يتضاعف عدد الترانزستورات على الرقاقة الواحدة كل عامين. فالمكونات الأكثر تطورًا الآن يتراوح حجمها بين 5 و 7 نانومتر، وهو ما يخفض تكلفة الأجهزة إلى النصف.
من يتحكم في إنتاج الرقائق الإلكترونية؟
تتحكم 3 شركات كبرى في 80% من إنتاج العالم من الرقائق الإلكترونية. وهي انتل Intel الأمريكية، وسامسونج Samsung الكورية الجنوبية، و”تي أس أم سي TSMC” التايوانية. بالإضافة إلي عدد من الشركات الصغيرة في أوروبا وباقي العالم.
وتكمن مشكلة توسيع خطوط الإنتاج في تكلفة المصنع التي قد تصل إلى 20 مليار دولار، وقد يستغرق بناؤه عدة سنوات. كما أن الآلات اللازمة لخطوط الإنتاج التي تصنع الرقاقات يستغرق تصنيعها ثلاثة أشهر لكل آلة.
ووفقا لبيانات شركة التحليل الاقتصادي الشهيرة “سانفورد بيرنستاين” (Sanford Bernstein) ارتفعت الطلبيات على الرقائق الإلكرتونية بنسبة 17% العام الماضي 2020. ويتوقع عملاق صناعة الآلات الياباني “طوكيو إلكترون ليمتد” (Tokyo Electron Ltd) ارتفاع الطلب عليها بنسبة 23% أخرى هذا العام.
ويواجه مصنعو الرقائق طلبًا متزايدًا منذ بداية أزمة كوفيد-19 بسبب ارتفاع الطلب على أجهزة الكمبيوتر ومشغلات الألعاب والأجهزة المنزلية. وذلك بسبب العمل عن بعد والحجر المنزلي، وهو ما لم تكن شركات إنتاج الرقائق مستعدة له.
كما وضعت الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين ضغوطا كبيرة على السوق حتى قبل أزمة كورونا.
وبعد فرض إدارة الرئيس السابق “دونالد ترامب” عقوبات على شركة “هواوي” الصينية ومنعها من شراء الرقائق الإلكترونية المصنوعة بتكنولوجيا أمريكية. وكان مقررا تطبيقه خلال 4 شهور من صدوره وهو دفع هواوي إلى زيادة طلبياتها وتخزين كميات كبيرة من الرقائق قبل تطبيق الحظر.
مستقبل صناعة الرقائق الإلكترونية
الرقائق الإلكترونية أحد المنتجات القليلة التي لا تنافس الصين على صدارة منتجيها، رغم كونها أكبر مستهلك ومستورد لها في العالم. وتنتج الصين فقط 16% من احتياجاتها منها، لكنَّها تعمل على الوصول بتلك النسبة إلى 70% بحلول عام 2025. وذلك عبر إنشاء صندوق دعم تلك الصناعة بقيمة 30 مليار دولار لتقوية جبهتها في الصراع التجاري مع الولايات المتحدة.
كما دفع الطلب الكبير على الرقائق كبار المنتجين للإعلان عن استثمارات ضخمة في القطاع. بدأتها “إنتل” الأمريكية بالإعلان عن استثمار 20 مليار دولار لتوسيع خطوط إنتاجها. وإضافة مصانع جديدة معتمدة على قرار للحكومة الأمريكية بدعم تلك الصناعة وتوفير حوافز للبحث والتطوير فيها.
وكشفت “تي إس إم سي” التايوانية عن خطة طموح لاستثمار 100 مليار دولار خلال 3 سنوات لتطوير مصانعها. وإضافة خطوط إنتاج جديدة وزيادة إنتاجيتها. كما أعلن الاتحاد الأوروبي أيضاً عن خطة لمضاعفة قدرته الإنتاجية بحلول عام 2030، تستهدف حيازة 20% من السوق العالمي.
القطاعات الأكثر استخدامًا للرقاقات والأكثر تضررًا
أجبرت الأزمة الأخيرة شركات عملاقة على تغيير خططها الإنتاجية بسبب نقص الرقاقات الإلكترونية اللازمة لمنتجاتها. منها أكبر شركتين لإنتاج السيارات في العالم “جنرال موتورز” و”فورد” اللتان أغلقتا بعض مصانعهما وتخفيض إنتاجهما لهذا العام 2021.
وتحتوي السيارة الواحدة على ما بين 50 إلى 150 من الرقائق الإلكترونية التي تجمع بيانات عن السرعة والحرارة ومعدل مقاومة الهواء وضغط الإطارات. وتعيد توظيفها للتحكم في سرعة السيارة ودرجة انحرافها وسرعة الموتور والمراوح ودرجة الحرارة داخلها، وتشغيل نظام الفرامل للتوقف بالحالات الطارئة.
وتنفق شركات السيارات حوالي 40 مليار دولار سنويًا على الشرائح الإلكترونية، بينما تنفق شركة “أبل” فقط 56 مليار دولار سنويًا. ويستهلك قطاع الأجهزة الإلكترونية ما قيمته 470 مليار دولار، وهو ما يجعل المنتجين يفضلون القطاع الأخير على السيارات. خاصة بعد نمو مبيعات الأجهزة الإلكترونية بنسبة 11% عام 2020 لتبلغ 464 مليار دولار. وتوقعات شركة تحليل البيانات المتخصصة في مجال التكنولوجيا “IDC ” بنسبة نمو 12.5% في المبيعات خلال 2021.
حرب الرقائق الإلكترونية.. ندوب في جسد الصناعة
وتشير التوقعات إلى انخفاض إنتاج “فورد” بنحو 1.1 مليون سيارة وتراجع أرباحها بـ 2.5 مليار دولار. كما أعلنت “جنرال موتورز” عن غلق مصانعها الثلاث لتجميع الشاحنات بسبب نقص الرقاقات الإلكترونية.
وكشفت “كاتربيلر إنك” عملاق صناعة الشاحنات والآلات عن توقعاتها بعدم تمكنها من تلبية الطلب على الآلات في صناعة البناء والتعدين.
كما أوقفت شركة “فولكس واجن” الألمانية خطوط إنتاجها في المكسيك. وأغلقت مصانع “بي إم دبليو” في بريطانيا ثلاثة أيام، وتوقف عن إنتاج سيارة ميني في مصنعها في أوكسفورد لنفس السبب.
ووصلت الأزمة إلى “ميتسوبيشي” اليابانية التي أعلنت تقلص إنتاجها في مايو الماضي بـ 16 ألف سيارة. كما قلصت “مرسيدس بنز” عدد ساعات العمل في مصانعها بسبب أزمة الرقاقات الإلكترونية.
وبحسب بيانات شركة “Infineon” لأشباه الموصلات الألمانية، فقد تراجع الإنتاج العالمي للسيارات بمقدار 2.5 مليون سيارة خلال النصف الأول من العام الجاري.
الأجهزة المنزلية والهواتف
تأثير الأزمة لن يتوقف فقط عند قطاع السيارات. فقد أعلنت “أبل” عن تراجع أرباحها في الربع الثاني من العام الجاري بقيمة 4 مليارات دولار بسبب تراجع إنتاج الكمبيوترات والأجهزة اللوحية.
وكشفت شركة “جيجاست” المنتجة للأجهزة المنزلية والهواتف اللاسلكية عن تراجع إنتاجها بنسبة 80% بسبب نقص الرقائق الإلكترونية. وتوقعت شركة “نينتندو” عملاق منصات الألعاب الياباني تراجع مبيعاتها بأكثر من 3 ملايين وحدة خلال هذا العام.
وذكرت شركة “إيه في إم” الألمانية لصناعة الراوترات أنّها مضطرة للانتظار لمدة عام لتلقي طلبياتها من الشرائح الإلكترونية. وذلك بسبب الأزمة في خطوط التوريد.
وتوقعت شركة “جارتنر” المتخصصة في أبحاث سوق التكنولوجيا، استمرار الأزمة ونقص توريد أشباه الموصلات حتى منتصف العام القادم 2022. على أن تعود السوق لمستوياتها الطبيعية خلال النصف الثاني من العام المقبل.
الرئيس التنفيذي لشركة “نوكيا”، بيكا لوندمارك، عبّر عن حالة الصراع على الرقائق الإلكترونية في تصريح لتلفزيون “بلومبرج”. حين قال: “هناك معركة جارية، ويجب عليك التواصل يوميا مع مورديك للتأكد من أنك عميل مهم لديهم.. وعندما يكون هناك نقص في المعروض في السوق، ما يهم حقاً هو مدى أهميتك في الصورة الأكبر ومدى قوة علاقاتك وكيفية إدارتك للتوقعات”.
ما موقع مصر من الأزمة؟
تأثرت مصر بأزمة نقص توريد الشرائح الإلكترونية، خاصة صناعة السيارات، حيث أُجبرت الشركات المحلية على تخفيض إنتاجها. كما تؤثر الأزمة على خطة الحكومة المصرية لإحلال سيارات تعمل بالغاز محل سيارات البنزين والديزل. والتي تسعى لتحويل 1.8 مليون سيارة خلال عشر سنوات. و تباطؤ معدلات التنفيذ في الخطة منذ بداية العام بسبب انسحاب عدد من الشركات من بينها “جي بي أوتو” التي تعاني من تراجع إنتاجها لنقص توريد الرقاقات الالكترونية.
والسؤال هو لماذا لا تتجه مصر لصناعة الرقاقات. خاصة أنها تتمتع بموقع قريب من كبار منتجي السيارات والأجهزة الإلكترونية في أوروبا الذين سيرحبون بوجود مصدر قريب لوارداتهم منها؟. هذا ما يدعو إليه أمين رابطة صناعة السيارات السابق اللواء حسين مصطفى.
وقال “مصطفى”: “إنشاء مصنع للرقاقات تصل تكلفته إلى خمسة مليارات دولار هو مقابل زهيد يمكن أن تموله الشركات لضمان مورد للرقائق قريب لمصانعها في أوروبا”.
ويؤكد الأمين العام لشعبة صناعة السيارات باتحاد الصناعات خالد خليل، أهمية دخول مصر هذا المجال بالتعاون مع شركات السيارات العالمية. ويشدد على أن الأمر سيستغرق سنوات لوضع الدراسات العميقة لضمان سلاسل التوريد للمصنع، وبناء المصنع الذي قد يستغرق عدة سنوات.
وتوقع عضو شعبة السيارات باتحاد الغرف التجارية علاء السبع أن ترتفع أسعار السيارات في السوق المحلية بنسبة بين 5 و 10% بسبب أزمة الرقائق. فضلاً عن إبلاغ عدد من الشركات وكلائها في مصر بتخفيض ما سيتم توريده بنسبة 80% خلال الشهر الجاري.
ضرورة تصنيع الرقائق محليًا
وأكد رئيس شعبة السيارات، اللواء عفت عبد العاطي، أن الوضع سيكون مأزوم خلال الفترة المقبلة. وشدد عبد العاطي، في تصريح خاص لـ”مصر 360″ على أن دخول مصر هذا المجال لتوفير الرقائق الإلكترونية بات ضرورة. وسيساهم في تحقيق طفرة بعدد من القطاعات الحيوية ويدر ربحاً في ظل الأزمة والتوجه العالمي لتصنيعها قد يكون غير مسبوق.
أمين عام رابطة مصنعي السيارات خالد سعد، توقع أن يتسبب نقص المعروض من السيارات وارتفاع الطلب إلى ارتفاع الأسعار. وأكد أن الرقائق الإلكترونية جزء مهم في صناعة السيارات ونقص التوريد منها سيسبب أزمة كبيرة لصناعة تجميع السيارات المحلية.
وشهدت مبيعات السيارات في مصر ارتفاعاً بنسبة 30% خلال الشهور الثلاث الأخيرة. بينما كانت الذروة خلال شهر مارس والذي شهد ارتفاعاً بنسبة 57% في المبيعات بسبب عودة إصدار تصاريح السيارات.