كان سهلا ملاحظة التعاطف غير المسبوق مع محنة «أسرة غانم»، وهو غير مسبوق لأننا اعتدنا طويلا على سخافات المتنطعين الذين يلاحقون أهل الفن في محنهم؛ إما باللعنات أو بالتسامح المتعالي وطلب المغفرة كما لو كانوا قتلة أو لصوصًا.
لكن هذه المرة «غير»، طوفان الحب الذي عكسته مواقع التواصل الاجتماعي بأنواعها كان كاسحا، واللافت أن كثيرا من المعلقين، أحس بألفة غامضة إزاء أسرة سمير ودلال ودنيا وإيمي، ألفة تتجاوز عِشرة مشوار الفن الطويل؛ القديم بالأبوين، المتجدد بالابنتين. ألفة مبعثها إحساس يصعب قياس مصداقيته بأن ثمة شبهًا ما بين المتعاطِف والمتعاطَف معه. وانصب معظم هذا الإحساس على دلال عبد العزيز خصوصا؛ علاقتها بابنتيها وحبها الجارف الذي تقوّمه نزعة صرامة محسوبة، علاقتها بالأب التي تحفظ له مكانته في صدارة العائلة مهما تقدمت به السن، وساهم في زيادة هذا الشعور نحو «الأم دلال» أدوارها في السنوات الأخيرة، خصوصا في مسلسل «سابع جار»، الذي أخذت مواقع الإنترنت «تفصّص» مشاهده لعرضها كلما شاءت أن تضرب المثل بعادات الأم المصرية، و«كليشيهاتها» ودعواتها وأحلامها المنصبة – بالتأكيد – على أسرتها و- زواج – بناتها. وربما كانت عبارة «شبه ماما قوي» هي «الكومنت» الأكثر تكرارا من الجمهور أسفل تلك المشاهد التمثيلية، أو حتى لقاءات دلال التلفزيونية التي زاد عرضها بعد رحيلها المؤلم، لكن هل لهذه العبارة، هذا التصور، هذا الشعور بالألفة، أرض ثابتة للوقوف عليها؟
إذا كنا نستطيع القول بثقة أن الحجاب يحتل مكانه على رأس ما لا يقل عن 80% من الفتيات المسلمات في مصر، فإن هذه النسبة تكاد تلامس المئة بالمئة –أو أقل بدرجتين أو ثلاث – حين نتحدث عن «الأمهات» المسلمات، يكاد الحجاب يكون زيَا رسميا للأم المصرية بغض النظر عن الطبقة أو الوظيفة بل حتى عن التدين نفسه، وكلما زاد السن كلما زادت ضرورة الحجاب أو تغطية الرأس على أقل تقدير، بالطبع، وكما هو معروف، لم تكن دلال محجبة ولم تبد منشغلة بالأمر دفاعا أو هجوما أو تبريرا، هي واحدة من فنانات قليلات – ومعظمهن ينتمين لنفس جيلها – لم يتخذن موقفا دفاعيا من مسألة الحجاب أو ممارسة الفن، ومن هنا ننتقل إلى النقطة التالية.
من المؤكد أن أسرة مصرية تعمل كلها بالفن ليست شيئا يشبه المصريين على الأقل في طبعتهم الحالية، لقد رأينا كيف «جزّت» الأسنان على بطلاتنا في الأولمبياد لأنهن «تنططن» كما تتطلب الرياضة ولم يخفض من الهجوم عليهن إلا الحجاب على رؤوسهن، والذي تم استغلاله أيضا لتسويق سلعة التدين الشكلي نفسها. إذا كان هذا هو حال بطلات الأولمبياد، واللواتي لعبن في ألعاب قتالية على طريقة «بنت بـ 100 راجل»، فماذا عن فنانتين كدنيا وإيمي؟ إذ لا يزال الفن في بلدنا يحمل الأخلاق المزدوجة نفسها، فنرى “فنانين” من الرجال يفخرون بمنع بناتهن من العمل بالفن، أو فنانين هُزمت بناتهن أمام تمزيق المجتمع لهن، فيعملن يوما ويعتزلن يومين، وفنانات تبرأت منهن أسرهن. بين هؤلاء، وبموهبة حقيقية وثقة بالنفس، تصنع دنيا وإيمي طريقهما الفني وقد ورثتا احترام الفن وحبه بضمير غير معذب.
وكذلك كان والدهما سمير غانم، عبقري الارتجال الخارق على المسرح ومبهج الأطفال، أبًا من نوع خاص، فخورا بابنتيه واثقا من موهبتهما، معلنا دائما لمكانة زوجته كما يليق بجنتلمان من العصر القديم، وربما كان العصر الذهبي ذلك هو مكمن السر، ربما أحسّ المشاهد الحالي بألفة مع دلال لا كأم من زمن الألفين وعشرين، بل كأم من زمن مضي، يعرفها من صاروا الآن في الأربعينيات من عمرهم، أمّ الستينيات والسبعينيات وأوائل الثمانينيات، أمّ ما قبل الحجاب والتحريم وكراهية الفن، الأم التي أنشأت أسرتها على الصح والغلط والعيب، لا على الحرام والحلال والمكروه.