تابعت ما وسعني الجهد ردود الفعل المصرية عما جري في تونس منذ ٢٥ يوليو الفائت، وقد اقتصرت متابعتي على ردود فعل المثقفين والسياسيين المصريين، وكذا شباب يناير (إن كانت لازالت التسمية مناسبة) وشباب الإسلاميين خارج مصر، ولم ألتفت كثيرا للإعلام الرسمي الذي يمكن أن تتوقع خطابه بسهولة.
كان مقصدي المحرك لهذه المتابعة أمورا عدة: أبرزها قناعتي أن ما ستؤول إليه الأوضاع في تونس سيكون له تداعيات مباشرة وغير مباشرة على الأقل على التفكير السياسي في مصر؛ أدرك ذلك النظام المصري مبكرا فأعلن موقفه من تأييد قرارات قيس سعيد -الرئيس التونسي -وأرسل وزير خارجيته لتأكيد هذا الدعم، والمقصد الثاني هو أن الدرس التونسي بمثابة لحظة كاشفة لطبيعة تطور الفكر السياسي المصري بمكوناته المتعددة بعد عشر أعوام من الربيع العربي، وهو عندي قد يكون مدخلا للمراجعة وإعادة النظر في مناهج هذا التفكير من خلال القضايا التي تمت مناقشتها، وكيفية تناولها، وطبيعة الاقتراب منها والأجندة التي غابت أو أخفيت عمدا، بل أزعم أيضا أنه كاشف لطبيعة العمل البحثي في بعض المؤسسات المنشئة حديثا. والتي تأثرت بالسياق السياسي لنشأتها أكثر من التزامها بقواعد البحث العلمي برغم أن هذا التجاوز يضر أصحاب هذه المراكز أكثر مما ينفعهم؛ فقرارتهم لن تبنى على أسس سليمة ولا معلومات صحيحة.
طالت المقدمة أكثر مما ينبغي، ودعونا نطرح بعض نقاط الدرس التونسي
أولا: الاستثناء التونسي
هناك دائما في النظر الغربي الذي تسرب إلى قطاعات من باحثينا ونخبتنا أن هناك استثنائية لهذه المنطقة خاصة في علاقتها بالحداثة والديموقراطية، وقد اتخذ ذلك تغليب العناصر الثقافية/القيمية في مقابل العوامل البنيوية والهيكلية في التحليل.
اعتبر نموذج تونس مهما لأنه ساعد في تبديد الأسطورة القائلة بأن الديمقراطية لم تكن ممكنة في العالم العربي؛عندما انزلقت البلدان المحيطة بها إلى حروب أهلية أو انحدرت إلى الحكم الاستبدادي. أجرت تونس انتخابات وطنية ومحلية حرة ونزيهة، واعتمدت دستورًا ديمقراطيًا ليبراليًا، وشهدت انتقالًا سلميًا للسلطة، وتم التوافق على بناء الدستور والمؤسسات السياسية عبر الحوار الممتد والذي استخدم في معالجة أزمات الفترات الانتقالية، لكن المشكل أن التجربة التونسية قدمت دائما باعتبارها استثناء متعدد الأبعاد؛ فهي استثناء من الربيع العربي، والإسلاميين فيها استثناء، وشعبها ونخبتها استثناء من المنطقة، وطبقتها الوسطي المتعلمة والمنفتحة علي الغرب استثناء، وهكذا حكمت الاستثنائية التجربة، ومن هنا كانت الصدمة أكبر، لكن المؤكد أن التجارب المقارنة للتحول الديموقراطي تدلنا على أن مساره لا يتخذ خطا مستقيما تصاعديا ويتخذ منعرجات ومنحنيات، وتونس ليست استثناء من ذلك، وإن مثلت وستمثل مختبرا مهما لعديد المسائل والقضايا التي يثيرها هذا التحول وطبيعة الانتقال في المنطقة العربية من أمثال: مشكلة النظام السياسي المختلط الذي يجمع بين البرلماني والرئاسي، وكذا مدى امتلاك نخب ما بعد الربيع العربي مشروعا فارقا عن الأنظمة التي ثارت عليها الجماهير وقادر أن يلبي تطلعاتهم، وإمكانية إحداث تحول ديموقراطي مستدام في ظل بيئة إقليمية معادية ودولية غير مساندة وداعمة لهذا التحول.
أهمية النموذج التونسي -الذي بات محل تساؤل الآن- أنه قدم نموذجا مختلفا في المنطقة، وهو القدرة علي إدارة الفترات الانتقالية بالحوار والتعايش والتفاوض الدائم بين أطرافه الفاعلة، مع إمكانية الوصول لحلول وسط، ووجود مجتمع مدني قوي يستطيع أن يلعب دور الوسيط حال الصراع السياسي، والقطع مع ماسبق من ممارسات.. كل هذه النقاط على المحك الآن وما ستنتهي عليه الأزمة الحالية يمكن أن تكون معه تونس السؤال أم الإجابة-على حد تعبير أحد الكتاب المصريين.
5 أخطاء مصرية شائعة تجاه تونس.. الثورة وديمقراطيتها الناشئة
الأزمة في تونس.. “من كان منكم بلا خطيئة”
ثانيا: تونس وسردية الربيع العربي
هل ما يجري في تونس -وقد كانت مفجر الربيع العربي الأول- هو نهاية له أم تأكيد لسرديته؟
جادلت في كتابي عن الربيع العربي- الصادر هذا العام عن دار المرايا بالقاهرة – ولا أزال بأن هناك سردية جديدة لانتفاضات الربيع العربي تعلن نهاية صيغ القرن العشرين وفي القلب منها دولة ما بعد الاستقلال والحركات السياسية الإسلامية والعلمانية التي استندت إلى أيديولجيات شمولية، وأننا بصدد صيغ جديدة لم تتمأسس بعد.
فقد غلب عليها الاحتجاج وافتقدت إلى بلورة قاعدتها الاجتماعية الحاضنة والدافعة لها.
القراءة التاريخية لانتفاضات الربيع العربي؛ هي أننا أمام إعادة تشكل للتاريخ كله في المنطقة، نحن أمام محطة تاريخية فاصلة: فالقديم قاد إلى الانفجار، ولم يعد قادرا علي تقديم استجابات لتحديات المجتمع والدولة، ولكن الجديد لم يتبلور بعد، وهذه هي مهمتنا التاريخية كما أعتقد، واللحظة ليست خواء كما يظن البعض، بل تمتلئ بالكثير والكثير مما يصب في المستقبل، وبمقدار قدرة الفواعل السياسية الجديدة علي التقاط مقومات هذه اللحظة والتعبير عنها في مشاريع ومؤسسات بمقدار ما سيؤكدون حضورهم في المشهد السياسي ويرسمون ملامح المستقبل فيه.
أنا أدرك أن مشاريع الماضي المرتحل لم تكن مجرد صياغات وعبارات عابرة تحملها قوة السلطة بالمعني الذي يقدمه فوكو، إنها شكل أو مقترح للحياة، ولطبيعة المجتمع بشبكة علاقاته وهي خطاب وممارسة لتصورات وخيال سياسي واجتماعي واقتصادي، وتصور معرفي للحياة والدولة، تنبثق عنهما أعراف وتقاليد ومؤسسات ولغة وتصور للمجتمع ولأفراده، تصور للذات والآخر يعبر عن نفسه في قوانين وتشريعات ودستور وعلاقات إنتاج.
سردية الانتفاضات العربية بحثت عن عقد اجتماعي جديد يتم به إعادة بناء الدولة الوطنية بنخب جديدة، وجوهر هذا العقد: الحرية/الديموقراطية، والعدالة الاجتماعية/التوزيع العادل للثروة والفرص والدخل، وشرطه تحرير الإرادة الوطنية من الهيمنة الإقليمية والدولية، وفي القلب منه قضية فلسطين كما أكدتها انتفاضة القدس ٢٠٢١.
تدلنا التجربة التونسية ومن قبلها المصرية ٢٠١٣ ضرورة رسم وتحديد طبيعة العلاقة بين جناحي هذا العقد الاجتماعي؛ فبرغم أهمية الديمقراطية، فإنها تحتل مرتبة أدنى في التسلسل الهرمي للاحتياجات من الغذاء والمأوى والأمن، وإذا فشلت الحكومات المنتخبة في تلبية هذه الاحتياجات الأساسية، فإن إغراء احتضان رجل قوي يعد بالاستقرار يصبح قوياً للغاية.
كرست استطلاعات الرأي هذه الحقيقة، فالملمح العام في موقف الرأي العام العربي من أسباب الثورات هو أنه برغم عدم القدرة على فصل الأسباب الاقتصادية عن تللك السياسية والاجتماعية والقيمية؛ إلا أن الأسباب الاقتصادية عند المبحوثين تظل لها الأولوية في ما يخص انطلاق الثورات: سيطرت أسباب الفساد (31%) والأوضاع الاقتصادية السيئة (16%) على أعلى درجات دوافع للثورات، وبلغ مجموعها النصف تقريبا (47% ) من إجمالي أسباب الثورة. وإذا أضيفت إليها أهداف إنهاء الظلم وتحقيق العدل والمساواة والكرامة فستصل إلى 60%؛ ما يعني غلبة قضايا اقتصادية واجتماعية وقيمية على أسباب الثورة ومطالبها، بجانب الأسباب السياسية مثل إنهاء الديكتاتورية (16%)، وتحقيق الديمقراطية (3%) وانتزاع الحريات (6%)، أي أن المطالب السياسية تبلغ الربع؛ أسبابا للثورة.
ويتضافر مع ذلك أن الكتلة الأكبر (57%) قالت إن أولوياتهم اقتصادية، إذ ذكر ما يزيد على نصف العرب أن البطالة، وارتفاع الأسعار، وسوء الأوضاع الاقتصادية، والفقر، هي أهم التحديات التي تواجه بلدهم، وتزداد هذه النسبة لتصل إلى قرب الثلاثة أرباع (٧٢٪) إذا اضيفت إليها نسبة (١٦٪) أولويات متعلقة بأداء الحكومات وسياساتها، مثل ضعف الخدمات العامة، والفساد المالي والإداري، والحكم وسياساته، والانتقال الديمقراطي، وهي مشكلات تقع في إطار أوضاع المعاش اليومي وإن تعلق جزء منها بسياسات الحكم في البلدان العربية.
وتعزز هذه الأولوية إدراك المواطنين العرب لمستوي معيشتهم فقد أفاد الربع تقريبا (27%) من الرأي العام العربي، وفق العينة، أن دخل أسرهم يكفي نفقات احتياجاتهم الأساسية، ويستطيعون أن يوفّروا منه (أسر الوفر)، والتي تتركز أساسا في إقليم الخليج العربي، بينما قال ٤٣٪ إن دخل أسرهم يغطي احتياجاتهم، ولا يستطيعون أن يوفّروا منه (أسر الكفاف)، وهي الأسر المرشحة لأن تكون -مع أية تطورات – ضمن الفئة الثالثة؛ التي تبلغ نسبتهم ٢٦٪ من المستجيبين؛ الذين أفادوا أ ّن أسرهم تعيش في حالة حاجة وعوز؛ حيث دخولهم لا تغطي نفقات احتياجاتهم الأساسية.
وقد انعكست هذه الأوضاع الاقتصادية في رغبة قرابة الربع تقريبا (٢٢٪ ) من العرب في الهجرة، والدافع لدي أكثريتهم هو تحسين الوضع الاقتصادي.
ولكن معني هذا أننا بتنا ازاء المقايضة التاريخية المعتادة بين الخبز والحرية؟
ثالثا: الخبز والحرية.. حدود المقايضة التاريخية
شهدنا في مصر وفي دول ما بعد الاستقلال في المنطقة مقايضة تاريخية بسيطة ولكنها واضحة وهي استبدال الخبز بالحرية، وكان محددها الموضوعي هو توفر الموارد التي يمكن توزيعها علي فئات اجتماعية متسعة، وهنا يصبح السؤال بديهيا: هل تملك الأنظمة في المنطقة الآن الموارد الكافية لإحداث هذه المقايضة مرة أخري؟ ويرتبط بذلك هل الصيغة التي طرحتها أنظمة ما بعد الربيع العربي- في مضادة واضحة له -استطاعت أن تحقق تطلعات الناس وخاصة الشباب منهم؟ وثالثا، هل يمكن النظر للأزمة التونسية الحالية من منظور المقايضة التاريخية فقط أم أن ذلك تبسيط مخل لها واختزال لأبعادها المركبة التي في القلب منها إعادة صياغة لعلاقة المجتمع بالدولة في مرحلة الانتفاضات العربية؟
أسئلة ثلاثة تستحق المتابعة المعمقة والتفصيل الذي ليس محله هذا المقال، ولكننا نكتفي باشارات سريعة؛ فنقول: كانت الأجيال السابقة من المستبدين العرب قادرة على محاولة شراء بعض الشرعية من خلال الغذاء والخدمات المدعومة، والوظائف الحكومية الوفيرة، لكن هذا الخيار قد يغلق الآن لأن العديد من الحكومات مثقلة بالديون. صحيح أن تجارب الديمقراطية فشلت في حل مشاكل الشرق الأوسط، ولكن من غير المرجح أن تكون الأوتوقراطية المتجددة أكثر فعالية.
تنتهي باحثتان متخصصتان في الخليج إلى الشك في استقرار العقد الاجتماعي فيه مستقبلا؛ فقد تزايدت الضغوط عليه في ظل إجراءات التقشف التي تبنتها المملكة السعودية مؤخرا وعلى رأسها مضاعفة ضريبة القيمة المضافة إلى ثلاثة أمثالها لتصل إلى 15 في المئة في 2020. وسعيا لتخفيف نتائج عجز الموازنة فقد بدأت الدولة في خصخصة 16 قطاعا رئيسا، مثل قطاعي التعليم والصحة، آملة في تحصيل ما يقارب 55 مليار دولار على مدار السنوات الأربع القادمة. وبالرغم من حرص المسؤولين السعوديين على التقليل من شأن الآثار المحتملة لعمليات الخصخصة تلك على المواطن السعودي، إلا أن انعدام الشفافية حول هذا التغيير أثار مخاوف المواطنين بشأن استقرارهم وأمنهم الوظيفي الذي طالما تمتعوا به في القطاع العام.
ويضيفا بعدا آخر لاضطراب العقود الاجتماعية في الخليج: “لقد أدى الاستقطاب المتزايد داخل المجتمع الخليجي في أعقاب الانتفاضات العربية وما نتج عنها من إشكالات ومن محاولات دؤوبة لإعادة هندسة المجتمع إلى تأليب الشريحة الاجتماعية المحافظة على شقيقتها الليبرالية، وأصبحت قدرة دول الخليج العربي على الحفاظ على عقودها الاجتماعية مع مواطنيها متوقفة على مهارتها في تجنب خلق توترات جديدة بينما تسعى لحل المسائل القائمة.”
هذه مجرد شواهد وأمثلة لحدود العقد الاجتماعي في دول الريع النفطي، فما بالنا بدول أخري لا تتوفر لها هذه الامكانيات المالية الضخمة، وتعاني اقتصاداتها من الهشاشة، ومثقلة بالديون، وغير قادرة علي الاستجابة لتطلعات الشباب والشابات فيها الذين يمثلون أكثر من نصف السكان.
يقدم الباحث المتميز واستاذ علم الاجتماع بشير السعيداني في مقابلة صحفية مع المفكر التونسي منير السعيداني حول الأحداث الأخيرة في تونس، رؤية متميزة “لانقلاب القصر الناعم” -على حد قوله -لا أجد لها أي صدي في النقاش المصري عن الأزمة برغم تعلقها الشديد بالحالة المصرية؛ تاريخا وحاضرا ومستقبلا، حين يحللها من مدخل إعادة صياغة علاقة المجتمع التونسي بدولته، ويضعنا أمام منهج مختلف للتفكير؛ ففي رؤيته هذه يحذرنا من مساران ينبغي تجنبهما بأي ثمن: الأول هو أفق الديكتاتورية، والثاني هو استعادة وضع ما قبل 25 يوليو، ويرى أنه ينبغي حتى ينجح تصميم خارطةٍ تُجيد الاستجابة للموقف: “أن نستمر في قراءة ما يحدث من أسفل، بالانتباه إلى أصوات المجتمع المُحْتَجَّةِ والمُطَالِبَة المزمنة، ومَن داخل هذه اﻷصوات. ينبغي، بهذا المعنى، اعتبار ما حدث علامة مميزة في مسار علاقة المجتمع بالدولة.”
ويربط بين الحراك الاجتماعي المتصاعد والمستمر على مدار العشرية الأخيرة وبين تعبيراته السياسية، وذلك للخروج من مأزق تونس (وأضيف ومأزق الربيع العربي أيضا)، ويشرح لنا السعيداني التوازن الرّابط ما بين خارطة الاحتجاجات الاجتماعية وخارطة المعارضة السياسية، والذي مر بهزات كبرى طوال العقد اﻷخير. وزادت تلك الهزات من الافتراق بين الخارطتين، لذا فإنه “عندما تظل خارطة الاحتجاجات الاجتماعية، في استمرارها، من دون تعبير سياسي مباشر، بحيث لا تؤثر في السياسات العامة أو في الخطط الحكومية، يكون ذلك عائقًا حقيقيًا.”-أليس ذلك هو مأزق مصر الحالي؛ الخلف والافتراق بين الاجتماعي والسياسي؟!