قبل 8 سنوات من الآن كتب الله النجاة لعطية حارس كنيسة الأنبا موسى الأسود بالمنيا. بعد أن حاصرت نيران الإرهاب الذي انطلق شرارته في ربوع مصر بعد فض اعتصامي رابعة العدوية والنهضة، كنيسته التي هي مكان صلاته ومكان عمله أيضًا. حينها وقف خلف بابها يحتمي به من الرصاص والمولوتوف الذي كان يأتيه من كل اتجاه. فقد كان أنصار الجماعات الإرهابية يحتشدون في ميدان بالاس بالمنيا قرب مسجد الفولي. الذي تقع الكنيسة في محيطه وفور سماعهم نبأ فض الاعتصام انطلقوا في حشود صوب الكنائس المختلفة يضرمون فيها نار الكراهية.
كانت كنيسة الأنبا موسى الأسود التي أكلتها نار الإرهاب قد خضعت لتجديدات ضخمة قبل أن تأتي النيران على محتوياتها كلها. بينما قرر كاهنها أن يصلي قداسًا في نفس الأسبوع على أنقاض الكنيسة ليشهد الله والمؤمنين من حوله على ما جرى.
يقول أحد خدام الكنيسة إنهم صلوا هذا القداس بالدموع: “فلم يكن في بالنا إن الرئيس عبد الفتاح السيسي سوف يأمر بإعادة الترميم على نفقة الدولة”.
أما ماركو الأمين الباحث المتخصص في التراث القبطي وأحد خدام كنيسة الأمير تادرس بالمنيا. وهي الكنيسة التي أتى الإرهاب على محتوياتها كلها فقد عمل على توثيق ما جرى في كنيسته بحثيًا. وأكد أن قلبه كان يحترق على تلك الكنيسة التي يزيد عمرها عن 100 عام قضى فيها طفولته وشبابه ثم قرر أن يتجه لتوثيق التراث القبطي خشية ضياعه في أحداث مشابهة مستقبلًا.
لفت ماركو إلى أن أنصار الجماعة الإرهابية كانوا قد نهبوا محتويات الكنيسة. حتى إنهم فككوا أجهزة التكيف واستطاعوا نزع الأبواب القديمة العملاقة من أماكنها في مشهد لا ينساه أبدا.
كانت المنيا صاحبة الحصة الأكبر من الكنائس التي تعرضت للاعتداء عقب فض اعتصامي رابعة والنهضة. حيث بلغت ما يقرب من 110 كنيسة ومبنى خدمات كان للكنائس الأرثوذكسية العدد الأكبر بينهم. غير أن غالبيتهم في المنيا التي تضم التعداد الأكبر للأقباط في الشرق الأوسط من ناحية. ولكنها أحد أكثر المحافظات التي سجلت أحداث عنف ديني في السنوات الماضية وكأنها تعيش على نار التشدد.
يشير الكاتب كمال زاخر المتخصص في الشأن الكنسي إلى أن الأقباط كانوا من بين الفئات التي دفعت ثمن ثورة 30 يونيو غاليا. فقد تم التلويح بذلك منذ أن شاركوا في المظاهرات وقيل في البداية إنها تظاهرات الأقباط. ثم دخلت الكنائس في خطط الاستهداف بعد أن شاركت الكنيسة بفعالية في خارطة الطريق. فكان مشهد حرق الكنائس بمجرد انطلاق الشرطة لفض الاعتصام. بينما تكفلت الدولة بإعادة الترميم مرة أخرى وهو الوعد الذي قدمه الرئيس عبد الفتاح السيسي للبابا تواضروس في زيارته للكاتدرائية في عيد الميلاد المجيد ثم توالت الزيارات.
بينما تشكل لحظة فض اعتصامي رابعة العدوية والنهضة علامة فارقة في علاقة الكنيسة بالدولة المصرية. فقد تعاملت الدولة بإيجابية مع أحداث الفض وقررت التكفل بتكلفة الترميم. غير أن الكنيسة هي الأخرى لم تقف مكتوفة الأيدي أمام الحلف الجديد الذي تشكل بينها وبين الدولة المصرية. إذ تلعب العلاقة بين البابا تواضروس الثاني والرئيس عبد الفتاح السيسي دورا أساسيا في هذا الحلف. حيث يؤثر نمط العلاقة الشخصية على طبيعة تلك العلاقة. وهو ما كان ظاهرا في علاقة مقابلة مثل علاقة البابا شنودة الثالث بالرئيس السادات والتي اتسمت بالحدة والعنف وانتهت بوضع البابا رهن الاعتقال عام 1981.
رسمت الكنيسة خطًا جديدًا لهذا الحلف وعملت الدولة على إعادة توظيف الكنيسة كجهاز سياسي. فتم استخدامها لأغراض الدبلوماسية الشعبية في العديد من المناسبات. وبدأت زيارات رؤساء وملوك الدول العربية والأجنبية تمر بالكاتدرائية كمحطة رئيسية على الأجندة. بينما لا يدخر البابا تواضروس الثاني جهدا في التأكيد خلال زياراته الخارجية. على أن ما جرى في مصر في 30 يونيو ثورة شعبية دعمها الجيش وليس انقلابا عسكريًا مثلما وصفته وسائل الإعلام العالمية.
استخدم البابا تواضروس الثاني خطابًا موحدًا في الزيارات الرسمية التي تعامل معها كسفير. فقد كان يؤكد مرارا أن الكنائس المصرية في المهجر سفارات تدافع عن مصر. بينما أشار في استقباله للمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل على سبيل المثال إلى التغير الكبير الذي حدث في علاقة الكنيسة بالدولة المصرية منذ 30 يونيو. مثل ارتفاع نسبة تمثيل الأقباط نيابيا لرقم غير مسبوق وذلك نتيجة تطبيق مبدأ المحاصصة الإيجابية في قوائم الانتخابات. بالإضافة إلى صدور قانون بناء الكنائس عام 2016. ولم ينس البابا في زياراته تلك أن يمر بمزار الشهداء في الكنيسة البطرسية. ليؤكد أن الأقباط قد عانوا من الإرهاب ودفعوا ثمنه دمًا في الوقت الذي يتمتعون فيه بدعم الدولة المصرية.
وبعد سنوات من فض الاعتصام والتزام الدولة بالحلف السياسي مع الكنيسة والذي اتضحت ملامحه مع الوقت. لم يبرح الأقباط صورة البابا الثوري الذي يدخل في مصادمات حادة مع الدولة. إذ تشكلت تلك الصورة طوال عصر البابا شنودة الذي خرج من تجربة تحديد إقامته بآليات جديدة في علاقته بالدولة. كان أبرزها على الإطلاق اعتكافه في دير الأنبا بيشوي إذا حدث ما لا يعجبه. بينما يحاول البابا تواضروس الثاني جاهدًا للتأكيد على أن الزمن له معطياته وأن عصر الصدام قد انتهى. إلا أن صورة البابا شنودة تحاصره وتطالبه بما لا يطيق ولا يناسب زمنه.