عقب الحرب الأهلية الأمريكية (والتي كانت كما يزعمون من أجل إنهاء عصر العبيد والإقطاع، خاصة في ولايات الجنوب)، قال أحد (العبيد) الذين (تحرروا ) ساخرا من فحوى الحرية التي وهبوها إياه، كنت عند سيدي أجد احتياجاتي الأساسية، أجد المأكل والمشرب والمأوى، أما الآن فأنا أناضل من أجل تأمين هذه الاحتياجات، وفي أحيان كثيرة أتنازل عن حريتي وأكثر، من أجل تأمين هذه الأشياء التي كانت تبدو بسيطة أو غير مهمة،.
فلقد ظن الناس أن التحرر من الإقطاع والعبودية هو السبيل إلى السعادة، ليفعل الإنسان ما يريد، وقتما يريد، دون قيود من أحد، فعلى ما يبدو أنهم قد أصبحوا سادة أنفسهم، والمتحكمين في حياتهم، ولكن، يبدو (كما أدرك هذا العبد) أن هذا لم يحدث، إذ في واقع الأمر أصبحت الحرية بالنسبة له لا تعني سوى العمل أو الموت جوعا، بل وأصبحت تعني القلق وعدم الأمان بالنسبة له، مثلما هو لغالبية البشر، وبينما الحال على هذا النحو يفاجئنا (عبد) آخر بمقولة تبدو صادمة أكثر من سابقتها إذ يقول: لم يتحسن شيء في حياتي، ولم أصبح حرا كما يدعون، فقط تمكنت من تحسين شروط عملي، ولكني مازلت أكد وأكدح من أجل توفير احتياجاتي الحيوية الأولية.
ما الذي يمكن أن تعنيه مقولات من هذا النوع لأشخاص ذاقوا مرارة الحرمان من حريتهم بالمعنى الوجودي للكلمة، إذ كانوا مملوكين لآخرين قانونيا واجتماعيا، وما الرسالة التي يمكن أن يبعثها لنا أناس عاينوا الخروج من العبودية إلى تحطيم قيودها، وما التساؤلات التي يمكن أن يطرحها علينا موقف من هذا النوع.
هل يمكن لنا أن نقول إن النظام المفروض على البشر منذ الخروج من الإقطاع إلى (رحابة) النظم الحديثة لا يقل عبودية عنه،
هل يمكن لنا أن نقول إن النظام المفروض على البشر منذ الخروج من الإقطاع إلى (رحابة) النظم الحديثة لا يقل عبودية عنه، حيث لا يمكن لنا قياس الحرية بما يحدده المجموع لنا ويفرضه علينا، وما هو متاح لكل فرد منا، وما هو غير متاح، فقدرة الفرد على اختيار سادته لا تنفي أو تلغي واقع أن هناك سادة وأن هناك عبيدا، في حين تعني الحرية ما يستطيع الفرد اختياره، وما يختاره بالفعل.
ويكشف “بورديو” الأمر بوضوح بأن شروط الحياة في ظل المجتمعات الحديثة هي نفسها شروط الإنتاج الاجتماعي في الرأسمالية الجديدة، والتي تموضع الدولة في فضاء “ملغز” حيث ترى البشر ولا تراهم في الوقت عينه، تراهم بينما تضع سياسات اقتصادية واجتماعية وثقافية.. إلخ، من شأنها إفقارهم على كافة المستويات، ولا تراهم بينما “يتفككون” في واقع قاس وحاضر لا أفق له، وعلى هذا النحو يبدو العنف في مستواه الظاهري وكأنه عنف فردي، محكوم بعلاقات فردية، بينما_ وفي لحظة ما_ سيتكشف بوضوح مستواه العميق والذي يتجلى في عنف سياسات الدولة وشروط الإنتاج.
يقول “باتاي”: لا شيء في الحياة الحيوانية من شأنه أن يندرج ضمن علاقة السيد/العبد، ولا يوجد مبدأ طبيعي/حيواني بإمكانه إقامة علاقة السيادة/العبودية، التي يسعى البشر إلى تسييدها، حتى بالنظر إلى أن بعض الحيوانات تفترس حيوانات أخرى، فهذه يمكن أن نطلق عليها “قوة غير متكافئة” لكن لا يوجد بينهما سوى هذا الاختلاف الكمي، فالأسد ليس ملكا على الحيوانات، إنه وفق حركة (المياه) مجرد موجة أعلى من غيرها تتغلب على الأضعف. ومن هنا لا يمكن تبرير هذا التحول (الكيفي) الذي يقوم به (أفراد من البشر) بالرغبة في السيطرة على آخرين بدعوى الاختلاف البيولوجي الذي يجعل بعض الأجناس البشرية أعلى قدرا من الأخرى فيما يتعلق بالوظائف الحيوية المختلفة ومن بينها التفكير، وهو ما يقوض رغبة البعض في إقامة علاقات تبعية تفرض تراتبا اجتماعيا يمنح البعض حقوقا أعلى، مثلما يفرض على البعض واجبات أكثر وأشد قسوة.
إننا نحاول جميعا –في جشع ونهم- أن نتشبث بالأشياء كلها، وخاصة تلك الأشياء التي نظن أنها تخصنا، وكلنا نعاني، ونتألم، لأننا لا ندرك أن الإجابة على سؤال الوجود إجابة ربما تكون خاطئة، والأغلب أنها كذلك، وإذا ما أردنا التخلص من هذا الألم، علينا أن نبحث عن الإجابة “الصحيحة”، ونتوصل إليها، أي إذا تغلبنا على “وهم انفصالنا”، واستطعنا أن نتغلب على جشعنا، و”استيقظنا”، كي ندرك/نعي الحقائق التي يتأسس عليها وجودنا.
ويشي الواقع المعاش بجحود الإنسان في مواجهة كل الهبات التي منحت له، فاستخدامه للعلم والمعرفة كان استخداما متطرفا، يكشف عن خيبات أمل متكررة، ويبين فشل الإنسان في بحثه الدؤوب عن السعادة، بل ربما يؤكد على ما قاله “إيريك فروم” بأن الإنسان هو الحيوان الوحيد الذي لا يمتثل لغريزته الأولى التي تتمثل في غريزة البقاء، والحفاظ على النوع، إنه يسعى في تكرار عجيب إلى تدمير ذاته، عبر سعيه إلى تدمير العالم، ولم يكن التقدم العلمي والمعرفي الذي حدث في العقود الأخيرة إلا من أجل مزيد من الأسلحة المتطورة، التي يمكن لها إحداث مزيد من القتل السريع، والتدمير الأسرع والأوسع انتشارا، ورغبة الإنسان في الهيمنة، رغبته في السيطرة على أخيه الإنسان، لنستعيد ببساطة، مقولة “هوبز” الخالدة (الإنسان ذئب لأخيه الإنسان)، والسيطرة على الطبيعة، وربما نلحظ جميعا دون عنت، ما وصلت إليه أمور الكوكب من تداعيات مرضية، تعلن عن نفسها في التغير المناخي، وارتفاع معدلات التلوث البيئي على مستوى العالم، والرعب من نفاذ الموارد، ناهيك عن الهلع السائد من قيام حرب نووية تدمر العالم بما فيه من كائنات.
يرى إيريك فروم أن ممارسات الفرد تخضع في معظمها للطابع العام للجماعة، ولا يقدم الفرد عادة على هذا من خلال انصياع قهري، من قبل المجتمع، بل عبر تسييد لا واعي لقيم، وعادات، وتقاليد، تجعل الفرد يقدم على ممارساته الشخصية برغبة تبدو طبيعية/غريزية، ويطلق عليها “فروم”: “قدر الحياة المشترك”، وتعني طبع أفراد المجتمع بطابع ما ليقوما بفعل ما عليهم فعله لضمان استمرار المجتمع، ومن ثم تصبح مهمة الطابع العام لمجتمع ما هو تشكيل طاقات أعضاء هذا المجتمع، والتشبث بالنموذج (المجتمعي) الذي يعيشون فيه، ولكنه، يرضيهم في الوقت نفسه، لكي يسلكوا طبقا للمتطلبات الثقافية.
وربما كانت هذه المقولات صادقة إلى حد بعيد على المجتمعات في عصور كثيرة قبيل عصرنا الراهن، عصر العولمة، عصر ما بعد الحداثة، زمن التفكيك، ذلك العصر الذي دفع الفرد إلى أن يتمحور حول ذاته، فأسلوب الحياة الجديدة يدعو إلى العزلة، أشكال العمل، أساليب الحياة، القيم السائدة، الدعوات الفكرية، وسائل التواصل، التطور التكنولوجي، إحداثيات هذا العصر جميعها تتوجه نحو العزلة والفردانية، في اللحظة الراهنة، تتشكل ماهية مغايرة للإنسان المعاصر، تذهب به نحو العزلة، والفردانية، تضعه في سياق مربك، يحيطه اللايقين، وتتضمنه سيولة (معرفية – قيمية) غير مسبوقة، وليس مرد هذه التغيرات الشخص/اجتماعية، للتطورات الاقتصادية الكبرى فحسب، بل أيضا لتلك التغيرات الكلية، والعظيمة التي طرأت على الفكر الإنساني، على رؤيته الذهنية تجاه العالم، وأثرت على الفن، والأدب، والعلوم، وخاصة العلوم الإنسانية، نحن أمام طابع جديد، ماهية مغايرة للإنسان، تحتلف تماما عن ما طرحته العصور السابقة، بما في ذلك عصر التنوير، الذي كان الإنسان يفخر به، وبمنجزه الإنساني، الإنسان المعاصر يواجه العالم وحيدا، لا حدود فاصلة بين المتناقضات، لا يقين يستند عليه، فقط “الذات”، يرغب في أن يحيا وحيدا بعيدا عن المعايير الاجتماعية التي تبدو بالنسبة له عتيقة، يرغب في أن يتخذ قراراته بنفسه، وبحرية، وعفوية، يقرر ما (يروق له) أو هكذا يبدو الوضع. فالفرد في اللحظة ذاتها يمتلك الكثير ويستخدم الكثير، ولكنه يبدو كينونة ضئيلة، فواقع الحال يبدو وكأن التملك، والوجود يدخلان في علاقة عكسية، كلما زاد أحدهما تضاءلت الأخرى، ولكن لا يعي الإنسان هذه المعادلة، وتسيطر عليه منتجاته التي صنعها بيديه.
هل يمكن لنا أن نكون مضللين، ننظر بضيق أفق وسطحية لطبيعتنا وغاياتنا ؟! هل يمكن أن يخدعنا المنطق الذي نراه (عقلانيا) فيجعلنا نختار رغبات متضاربة، لمجرد أنها تلح علينا بكثافة على الرغم من كونها تمثل جميعها بعدا واحدا من أبعاد الحياة، وهوالبعد المادي ؟!.. منطق ونظام يضفي صفة (الحاجة) على ما هو زائد عن الحاجة، بحيث يصبح اللهاث على توفير هذه (الاحتياجات) هو ما يمثل رفاهنا وحريتنا وسعادتنا وصميم وجودنا.
إن هذا التماهي مع الواقع الخارجي، والتوحد مع ما هو مفروض علينا من الخارج، دون التوقف ولو للحظة للتعرف على عمق تجاربنا الشخصية، والتأمل في أبعادنا المختلفة، والغوص في دواخلنا، يجعلنا نقف عاجزين مستلبين، لا نشعر بالسعادة، ولا نصل لمرحلة الرضا عن ذواتنا، فكلما تمكنا من امتلاك والوصول إلى غرض مادي، نجد أنفسنا أمام أغراض أخرى مظطرين لتحقيقها والوصول إليها، ويزداد خداعنا لأنفسنا عمقا، عندما تصبح هذه الاحتياجات المادية مصدرا لسعادتنا، والتي غالبا ما تتلاشى سريعا، حيث أنها لا تمثل في صميمها ولا تعبر عن مكمن السعادة الإنسانية، فتزداد تعاستنا، وتتعمق مأساتنا.
هل يمكن أن يمنح الوعي الإنساني بمفهوم “الذات” ومن ثم نقيضه “الآخر” دافعية للرغبة في السيطرة وإبداء مثل هذا النوع من القسوة التي يتفرد بها “الإنسان” دون كافة أنواع “الحيوان الأخرى”؟! هل يبدو هذا الوعي الذي يمثل نقطة التطور البشرية نحو الخروج من “مملكة الحيوانية المباشرة” لتصبح تلك النعمة هي نقمة على البشرية في مرحلة ما من مراحل تطورها “الاجتماعي”.
هل يمكن للإنسان أن يستعيد “الوعي” الذي يدفعه إلى أن يراجع مواقفه! يتخلى عن قصر نظره، عن هذه النظرة الجزئية الآنية التي تجبره على النظر بمحدودية وضيق أفق، وينحي هذا الجشع الذي يتملكه، وهذه الرغبة الاستهلاكية المدمرة جانبا . أن يتأمل ذاته ويفند هذه الكراهية التي تحكم أفعاله، كراهية الأغراب، كراهية المختلفين، ويدرك أن الذين يقتلون كل يوم ليسوا مجرد أرقاما، وأن الفقراء ليسوا حيوانات بيولوجية، وأن المشردين واللاجئين لم يأتوا إليه طمعا بل خوفا وكرها، وأن العاطلين عن العمل ليسوا كسالى، هل يمكن للإنسان بعد هذا التاريخ من الكراهية أن يجرب المحبة… محبة المختلفين.. محبة الأغراب.. محبة الأجيال القادمة.. أن يعلي من شأن “الوعي” في مواجهة الانحياز الأعمى الذي يسيطر عليه … يحوله إلى “آلة” … آلة قتل .. آلة استهلاك … آلة استغلال، يعميه عن رؤية أبعاد تعيد له إنسانيته المفقودة تحت ركام الرغية والاحتياج الزائف.