الصور المفزعة لمئات الأفغان وهم يتعلقون بطائرة النقل العسكرية الأمريكية الضخمة أثناء اقلاعها من مطار كابول، ثم سقوط اثنين أو ثلاثة منهم بعد ارتفاعها عاليا في الجو، كانت مدعاة للشماتة بكل تأكيد في كل من يرون في الولايات المتحدة حليفا موثوقا لهم. وعادت للرواج مجددا المقولة التي نقلت عن الرئيس المخلوع حسني مبارك بعد أن طالبه الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما علنا بالرحيل بعد ثورة 25 يناير 2011، وهي أن “المتغطي بأمريكا عريان” ولكن هل هذه هي الحقيقة؟ الإجابة غالبا هي: نعم ولا.
من يعتمد تماما على أمريكا وينتظر منها أن ترضعه حليب الصباح كل يوم إلى الأبد، من المؤكد أنه “عريان” وسيسقط صريعا في اللحظة التي تتوقف فيها عن إرضاعه الحليب، والذي هو بلغة العصر الحالي الأموال والأسلحة والحماية الدولية. أما من يسعى لتحويل الدعم الأمريكي السخي لترسيخ أقدامه على الأرض والتمكن بعد ذلك، وبشكل تدريجي، من أن ينال قدرا ما من استقلال القرار، فقد يتمكن من الاستمرار في الحفاظ على علاقة جيدة مع القوة العظمى الوحيدة في العالم منذ سقوط الاتحاد السوفيتي السابق في 1991.
ولننظر الفارق مثلا بين نماذج ألمانيا واليابان وكوريا الجنوبية وإسرائيل حيث قدمت الولايات المتحدة دعما سخيا، عسكريا وماليا، سمح لهذه الدول بالنهوض من الصفر تقريبا، وما انتهى عليه الحال في دول مثل الصومال أو أفغانستان والعراق، حيث تورطت واشنطن في حروب طويلة انتهت بانسحابها بعد أن توصلت لقناعة أن الاستمرار هناك بلا جدوى وسيكلفها فقط المزيد والمزيد من الخسائر البشرية والمادية.
لم تكن الولايات المتحدة منذ نشأتها في نهاية القرن الثامن عشر دولة استعمارية كما هو حال بريطانيا وفرنسا، وقبلهما إسبانيا والبرتغال. بل إن أمريكا كانت في الواقع دولة خاضعة للاحتلال، واضطر الآباء المؤسسون للفيدرالية المتسعة الجديدة للتحالف مع فرنسا للتخلص من الاحتلال البريطاني. وفي أعقاب نيل الاستقلال، سارع نفس الآباء المؤسسين إلى إنهاء التحالف مع فرنسا، وسيطر على صناعة القرار في الدولة الجديدة من يسمونهم في الولايات المتحدة ب”الإنعزاليين” أو Isolationists ممن رأوا في المحيط الأطلنطي عازلا طبيعيا يبعدهم عن أوروبا ومشاكلها وصراعتها.
وفي خطاب الوداع الذي ألقاه أول رؤساء الولايات المتحدة، جورج واشنطن في 1779، حدد السياسة الخارجية للدولة الناشئة كالتالي: “إن القاعدة الرئيسية في التعامل مع الدول الأجنبية بالنسبة لنا تتمثل في توسيع علاقاتنا التجارية معها من دون أن يكون لذلك أي رابط سياسي قدر الإمكان. إن أوروبا لها مجموعة من المصالح الهامة، والتي لا تمثل شيئا بالنسبة لنا، أو ربما أقل القليل. ولذلك فليس من الحكمة أن نورط انفسنا بروابط تخدم مصالح أوروبا السياسية أو بما يربطها من صداقات أو عداوات”.
وإذا كانت بريطانيا وفرنسا اعتمدتا لبناء الإمبراطوريات الخاصة بهما على الاستيلاء على مستعمرات في مناطق مختلفة من العالم، وتحديدا في أفريقيا وآسيا، فإن الولايات المتحدة كان يكفيها ما لديها من اتساع جغرافي ومصادر طبيعية متنوعة لكي تبني إمبراطوريتها الخاصة من دون الحاجة لاحتلال دول أخرى والاستيلاء على مواردها. بل إن أوروبا التي أنهكتها الحروب العالمية الأولى والثانية هي التي كانت تترجى الدولة الناشئة القوية الجديدة لكي تهرع لمساعدتها سواء لوضع حد لتلك الحروب، أو للمساهمة عبر خطة مارشال، على سبيل المثال، لإعادة بناء أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية.
وكان أصحاب الاتجاه الانعزالي في الولايات المتحدة هم من رفضوا في الأساس الانضمام لـ”عصبة الأمم” في أعقاب الحرب العالمية الأولى خشية التورط في الحروب الأوربية. كما استمر صناع القرار في الولايات المتحدة، ديمقراطيون وجمهوريون على حد سواء، في رفض التورط في الحرب العالمية الثانية لعامين كاملين حتى قامت اليابان بشن هجومها المفاجئ على بيرل هاربور بهاواي في العام 1941.
ومع تصاعد الحرب الباردة والخوف من الشيوعية، أصبح العالم بأكمله مجالا للمنافسة بين القوتين العظمتين، أمريكا والاتحاد السوفيتي السابق، وتراجع نسبيا نفوذ أصحاب الاتجاه الانعزالي في واشنطن.
وبعد أن بلغ التدخل الأمريكي ذروته في فيتنام على مدى عشرين عاما، اضطرت القوات الأمريكية للانسحاب سريعا بعد أن تبين أن دعمها لجيش فيتنام الجنوبي لن يمكنه من تحقيق انتصار على الشيوعيين المدعومين من روسيا والصين في الشمال. وكان انسحاب القوات الأمريكية من سايجون، وكذلك الخسائر البشرية، مهينا بشكل أكبر بكثير مما هو عليه الحال في أفغانستان اليوم.
في حرب فيتنام التي انتهت رسميا في العام 1975، قتل نحو 60 ألف أمريكي على مدى عشرين عاما، أما في أفغانستان، فلم يتجاوز عدد القتلى الأمريكيين 2300 خلال نفس الفترة الزمنية، 2001-2021. وإذا كانت صور مطار كابول هي التي ستبقى في الذاكرة بعد عشرين عاما من الاحتلال الأمريكي لأفغانستان، فإن صور الدبلوماسيين الأمريكيين وهم يسعون للهروب من على سطح السفارة الأمريكية في سايجون على متن طائرات هليكوبتر مثلت النهاية الأكثر درامية للاحتلال الأمريكي لفيتنام. وعلى عكس حرب فيتنام، فإن إدارة بايدن كانت تتفاوض مع قادة طالبان في قطر من أجل ضمان عدم تعرض دبلوماسييها وموظفيها للهجوم اثناء الانسحاب من كابول، بجانب وعود لم ترض الأفغان باصطحاب نحو ثلاثين ألف فقط من المترجمين ومن المتعاونين مع قواتها على مدى عشرين عاما.
كابول في قبضة طالبان.. كيف فشلت الاستراتيجية الأمريكية في أفغانستان؟
وبعد الهزيمة المهينة للولايات المتحدة في فيتنام، أو ما يعرف هناك ب”عقدة فيتنام”، دخلت أمريكا مجددا في حالة من الانعزال ورفض الرأي العام للتدخل في حروب خارجية حتى وقعت هجمات 11 سبتمبر 2001 التي تبناها تنظيم القاعدة الذي اتخذ من أفغانستان مقرا له، وأدت لمقتل نحو ثلاثة آلاف أمريكي في واشنطن ونيويورك. استغل الرئيس السابق جورج دبليو بوش تلك الهجمات لكي يلقن العالم ما رأى أنه درسا قاسيا لمن يتجرأ ويلحق ضررا بالمصالح الأمريكية ويهاجم أراضيها. وكانت النتيجة احتلال أفغانستان، حيث اختبأ أسامة بن لادن زعيم تنظيم القاعدة قبل اغتياله في باكستان في 2011، وكذلك غزو واحتلال العراق رغم أنه لم يكن لنظامها السابق أي دور في تلك الهجمات الإرهابية. ولكن هجمات سبتمبر وما تلاها كانت فرصة لاستعراض العضلات في مواجهة دول لا تمتلك ولو 1 في المائة من القوة العسكرية الأمريكية.
وعلى عكس الرئيس السابق بوش الابن الذي أراد أن يعطي لذلك الغزو والاحتلال الأمريكي لأفغانستان والعراق بعدا إنسانيا وتحرريا بالزعم أنه يهدف لبناء نظم ديمقراطية في تلك الدول، فإن الرئيس الحالي جو بايدن شدد في خطابه الذي ألقاه مساء الأثنين لتبرير الانسحاب الأمريكي المتعجل والمهين من أفغانستان أن بلاده لم تذهب إلى هناك لإعادة بناء الدولة الأفغانية Nation Building أو لمحاربة الطالبان تحديدا، ولكن فقط لمعاقبة من قاموا بشن هجمات على أراضيها، وهو ما تحقق بقتل أسامة بن لادن في عهد إدارة اوباما حيث كان يشغل منصب نائب الرئيس، وكذلك لمنع وقوع هجمات إرهابية جديدة تستهدف المصالح الأمريكية.
ولكن بايدن صب جام غضبه كذلك على الرئيس الأفغاني أشرف غني وقادة الجيش الأفغاني الذين انهاروا سريعا أمام التقدم غير المتوقع لطالبان، قائلا أنه لن يخوض حربا لا يريد حلفاء واشنطن الأفغان خوضها. وأكد بايدن أن بلاده طورت وسائل أخرى عديدة لمواجهة خطر الإرهاب لا تتطلب تواجد قواتها على الأرض في دول مختلفة، خاصة مع ظهور جماعات إرهابية جديدة بجانب القاعدة، وتحديدا تنظيم داعش.
كما كتب مايكل ماكينلي السفير الأمريكي السابق لدى أفغانستان بين الأعوام 2014-2016 في دورية “فورين بوليسي” أن المشهد الذي تابعه العالم في مطار كابول هو نتاج لسياسات أمريكية فاشلة على مدى عشرين عاما يرتبط بما وصفه ب”وهم” إعادة بناء دولة الأفغانية على النمط الغربي بينما الظروف المحلية والإقليمية لا يمكن أن تسمح بذلك مطلقا. وأشار إلى أن بلاده أنفقت ما يقرب من تريليون دولار لبناء جيش أفغاني وتزويده بأحدث الأسلحة والتي انتهت في يد مقاتلي طالبان.
ولكن، كما كان الحال في العراق، فإن أمريكا تنفق بسخاء فقط لأغراض الدعاية والزعم أنها تقوم بمهمة إنسانية، بينما هي تقوم في الواقع ببناء جيوش وهمية يتم المبالغة في قوتها وقدرتها على تحمل المسؤولية، وكذلك لدعم قيادات محلية فاسدة هي المستفيدة بشكل أساسي من تلك المعونات الأمريكية.
وأشار السفير الأمريكي أن مراجعة قام بها مكتب المحاسبة التابع للكونغرس كشفت،على سبيل المثال، أن نحو خمسين ألف على الأقل من الجنود الأفغان المسجلين في الجيش المقدرة قوته ب350 ألف لا وجود لهم سوى على الورق وأنهم “جنود أشباح” يتلقى رواتبهم القيادات المحلية الفاسدة التي تعيش حياة بالغة الثراء. واستطاع هؤلاء بالطبع الفرار من كابول قبل أيام طويلة من وصول طالبان للعاصمة الأفغانية.
وكان هذا هو الحال أيضا في العراق، إذ بعد إنفاق المليارات لبناء جيش عراقي بعد حل الجيش السابق الموالي لصدام حسين، انهار ذلك الجيش في أول اختبار حقيقي في مواجهة قوات داعش التي استطاعت تحقيق تقدم سريع ومفاجئ استولت بموجبه على الموصل والعديد من المدن العراقية.
وتبقى الحقيقة الثابتة في البلدين، وفقا للسفير الأمريكي السابق، هي أن الأموال فقط لا تستطيع بناء جيوش لديها عقيدة تدفعها للقتال بدلا من الاستسلام والانهيار السريع في أول مواجهة كما حدث مؤخرا في أفغانستان في مواجهة قوات طالبان وقادتها الذين اتخذوا من باكستان مقرا لهم.
حقيقة الأمر أن قرار الانسحاب من أفغانستان لم يتخذه بايدن، بل أطلقه أوباما بعد هزيمة الجمهوريين في انتخابات 2008 وعودة هيمنة الاتجاه الانعزالي على صناع القرار في الولايات المتحدة بعد أن أتضح فشل الحربين في العراق وأفغانستان من تحقيق أهدافهما، وتحديدا في ما يتعلق ببناء دول مدنية ديمقراطية حديثة بينما الواقع على الأرض يسوده إما الانقسام الطائفي، كما هو الحال في العراق، او الانقسام القبلي والطائفي كذلك في أفغانستان. فأفغانستان بلد شديد الفقر وتعيش غالبية أقاليمه في حالة عزلة تامة عن العالم الخارجي وهو ما دفع كل القوى العظمى التي سعت للسيطرة عليه، سواء بريطانيا أو روسيا أو امريكا، لوصفه ب”مقبرة الغزاة.”
وعندما تولى الرئيس الجمهوري الشعبوي السابق ترامب المسؤولية في 2017، رفع شعار “أمريكا أولا” ورغم انتقاداته الحادة للديمقراطيين، وتحديدا إدارة اوباما، فإنه لم يتراجع عن تنفيذ خططه القائمة على سحب تدريجي للقوات الأمريكية من العراق وأفغانستان. فشعار “أمريكا أولا” والانعزالية الأمريكية أمر يتفق عليه الديمقراطيون والجمهوريون على حد سواء، ولا تتقبل العقلية الأمريكية الاستمرار في بذل الجهد والأرواح إلى الأبد، خاصة إذا لم تكن هناك مصالح أمريكية مباشرة تتحقق نتيجة لخوض الحروب الخارجية، وإذا لم تكن هناك أطراف محلية لديها الاستعداد او القدرة على تولي المسؤولية بمفردها بعد عقود من الدعم الأمريكي السخي.