يحمل التوظيف السياسي لقاطني العشوائيات تاريخًا طويلاً، بعدما ظلوا لأعوام كتلة تصويتية، يتم التلاعب بهم في الانتخابات البرلمانية. وذلك عبر وعود بتحسين مستوى حياتهم، أو محاولة استقطابهم لصناديق الاقتراع، مقابل مساعدات عينية أو مالية مباشرة.
كما اعتبرت الحكومات المتعاقبة ملف العشوائيات تحديًا أمنيًا فقط، مع تنامي معدلات الجريمة داخلها بشقيها المنظم وغير المنظم. قبل أن تظهر الفترة الانتقالية التي شهدتها مصر على مدار العقد الأخير، تحول تلك المناطق لبيئة حاضنة للتطرف والاستغلال الديني.
العشوائيات “مفرخة” المتطرفين.. وملجأ العصابات
استوعبت الحكومة خطورة التوظيف السياسي للمناطق العشوائية في أعقاب الإطاحة بجماعة الإخوان في 2013. حينما كان أغلب منفذي وقائع حرق الكنائس والمنشآت من مناطق عشوائية.
دخلت الحكومة بقوة على خط تطوير العشوئيات بمشروعات تغير واقع المقيمين فيها تمامًا. وذلك بعدما أدركت خطورة ترك الجماعات الدينية تقوم بأدوار اجتماعية لمساعدة الفقراء بهدف استقطابهم. بعدما كان حشدهم في التظاهرات أو الحصول على أصواتهم في الانتخابات ثمن مساعدتهم.
في ندوة نظمتها أكاديمية الشرطة بعنوان “دور المشروعات القومية في تحقيق الأمن والاستقرار في المجتمع”. أكد اللواء محمود العبودي، مساعد وزير الداخلية لقطاع الجريمة المنظمة ومكافحة، أن القضاء على الفقر والبطالة والعشوائيات قلص معدل الجريمة.
اللواء محمود العبودي: العصابات تستغل المواطنين الفقراء في العشوائيات لارتكاب الجرائم مثل “ترويج المخدرات، التسول، الاتجار في الأعضاء البشرية”
ركزت النقاشات على أن المشروعات التنموية ساهمت في تحسين معيشة المواطنين، وترسيخ مبادئ الانتماء والولاء للوطن. بالإضافة إلى توفير منظومة ملائمة للحياة الاجتماعية، كما ساهمت في الحد من تجارة الأسلحة والمخدرات.
وقال العبودي إن العصابات تستغل المواطنين الفقراء في العشوائيات لارتكاب الجرائم مثل “ترويج المخدرات، التسول، الاتجار في الأعضاء البشرية”. وأكد أن شعور المواطنين بتحسن مستوى المعيشة، يساهم في تغيير السلوك بشكل إيجابي.
وتؤكد الدراسات وجود رابطة بين المناطق العشوائية والعنف بمختلف أشكاله، والذي يصل إلى حد تهديد الأمن القومي بالمفهوم التقليدي. وذلك عبر انخراط بعضهم في العنف السياسي سواء في تجنيد بعض سكانها بأعمال ضد الحكومة بزعم عدم عدالتها. بحسب المؤتمر السنوي الرابع، الذي حمل عنوان الأبعاد الاجتماعية والجنائية للعنف في المجتمع المصر.
العنف السياسي والعشوائيات
وتعتبر فترة السبعينيات البداية الحقيقة لظاهرة العنف السياسي المرتبط بالعشوائيات بعدما شهدت تلك الفترة سلسلة حوادث شهيرة. وقتها جرى القبض على متهمين في مناطق عشوائية ببولاق الدكرور وعين شمس في عام 1977. كما شهدت عشوائيات القناطر الخيرية والمنوفية القبض على تنظيمات متطرفة متورطة في عنف سياسي في 1986.
وفي عشوائيات الشرابية وحدائق المعادي جرى القبض على هاربين من أحداث عنف عين شمس عام 1988. بعدما نشبت مواجهات بين الأمن وقيادات تنظيم الجهاد فى عين شمس، استخدم فها التنظيم السلاح فى شارع “آدم” والذي من المصادفة أيضًا شهد حوادث عنف عام 2013.
كما شهدت فترة التسعينيات حوادث عنف في عشوائيات إمبابة، وتحديدًا عام 1992. ثم توالت أحدث عنف والسطو على محال الذهب والقتل والتفجير والعبوات الناسفة؛ مما جعلها في نظر المجتمع بؤر إرهابية وإجرامية، وفقا للدكتور طلعت حكيم في كتابه “التحليل النفسي للشخصية المصرية”.
يشير الكتاب إلى مواجهات نشبت بين الجماعة الإسلامية والأمن لأسباب متضاربة. إذ قيل إنها جاءت بعد حكم على إسلاميين في الإسكندرية، بجانب عرض الجماعة فيديو لعملية اغتيال السادات على تلفزيونات. أعدوها للعرض في شوارع إمبابة حينها في منطقة المنيرة الغربية.
لكن اللواء حمدي البطران يؤكد أنها نشبت في 2 سبتمبر 1990، حينما تم اغتيال زعيم منطقة إمبابة علاء عاشور، في شارع الهرم. وأحرقت بعدها المباني والمحلات بجانب عدد من الكنائس والمحلات المملوكة للمسيحيين.
في دراسة للمركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بعنوان “العنف والسياسة في المجتمعات العربية المعاصرة (الجزء الثاني). تم رصد العلاقة بين العنف والعشوائيات والسياسة قبل ثورة 25 يناير في القاهرة والجيزة والقليوبية. وذلك بعد أن صار العنف من السمات البارزة في الشأن السياسي والمجتمعي، وقال إنها تتضمن درجة عالية من التعقيد. فالعشوائيات لا يمكن النظر إليها على أنها كتلة واحدة يصدر قاطنوها العنف لباقي المجتمع، وإنما النظرة المعاصرة تؤكد أنهم قد يكونوا ضحايا عنف هيكلي وبنيوي ناتج من قصور في أداء مؤسسات الدولة في التعامل معهم.
العنف الهيكلي البنيوي
رأى أن سكان العشوائيات عانوا قبل ثورة 25 يناير من العنف الهيكلي البنيوي، وسوء استخدام أوضاعهم وغياب الحماية الحكومية لهم. بالإضافة إلى غياب الصون السياسي الممثل لهم، حيث يمثل سكان العشوائيات شريحة سكانية من المجتمع تعاني اليأس وفقدان الأمل. فضلاً عن زيادة الأعباء الحياتية؛ ويدفعهم للخروج عن قواعد السلمية لشعورهم بالغبن؛ ويسهل توظيفهم في أعمال عنف صد منشآت الدولة.
في فترة 25 يناير، تظهر تداعيات غياب الوعي الثقافي للمناطق غير المخططة. فموقعة الجمل نشبت بتحريك قطاع من سكان منطقة نزلة السمان المتاخمة للأهرامات ممن يملكون عربات حنطور أو يعملون عليها. وذلك لمجرد إخبارهم بتأثير تظاهرات ميدان التحرير على السياحة، مصدر رزقهم.
ظلت العشوائيات وسيلة تمويل لأحد الأحزاب الصغيرة، في نهاية الألفية الثانية. وذلك عبر الدفع بمرشحين مجهولين للانتخابات البرلمانية يجوبون المقابر والمناطق شديدة الفقر لإثارة ضجة. ومن ثمّ المساومة بعدها بسحبهم من المعركة الانتخابية مقابل أموال من المرشحين الآخرين من طبقة رجال الأعمال أو السياسيين البارزين.
في انتخابات مجلس الشورى 2010، جاب شقيق أحد رؤساء الأحزاب منطقة تل العقارب يطوف بين عششها، واعدا بتحسين أحوالهم. فقام بالتقاط الصور بين قاطنيها وفردها على صفحات كاملة على جريدة الحزب محدودة الطباعة والتوزيع. وبعد إثارة ضجة انسحب في هدوء تاركًا المجال أمام رجل الأعمال المنافس، قبيل ساعات من موعد إجرائها.
أحدثت الدولة نقلة بتلك المنطقة أخيرًا لتتغير معالمها بوضع تصميمات تتناسب مع منطقة السيدة زينب بإضافة الشكل الجمالي والطراز الإسلامي. وذلك تحت اسم مشروع “روضة السيدة” بتكلفة 330 مليون جنيه بمحافظة القاهرة، لتوفير مسكن آمن لـ4080 نسمة. وتحتوي على 816 وحدة سكنية بإجمالي 16 عمارة، 198 وحدة إدارية وتجارية.
أحوال معيشية صعبة
ووفقًا لدراسة أعدها المجلس القومي للخدمات والتنمية الاجتماعية في 2015، فإن المناطق العشوائية تفتقر لمعلومات عن التاريخ الإجرامي لسكانها. وذلك بسبب نزوح أعداد كبيرة من سكان القرى والنجوع إليها، وعدد منهم من ذوي الأنشطة الإجرامية المختلفة. كما أنّ بعضهم يعيش مستتراً وراء أسماء جديدة، أو استخراج بطاقة شخصية بهوية غير حقيقية.
تعتبر الدراسة تلك الأجواء مشجعة للفكر المتطرف؛ نتيجة سوء الأحوال المعيشية وانخفاض المستوى الاقتصادي للسكان. بالإضافة للحرمان من أغلب الخدمات والمرافق؛ ما يولد شعوراً بالإحباط، ويجعلهم فريسة سهلة لمروجي الأفكار المتطرفة، ودفعهم نحو الأعمال الإرهابية.
وبسبب عدم الاهتمام بتلك المناطق في السابق، انحفضت القدرة على التطوير الذاتي لها حاليًا. وهو ما يدفع إلى التوسع من خلال إنشاء أحياء سكنية جديدة على أطرافها بتكاليف باهظة. وذلك يؤدي إلى رفع العائد والمردود على النشاط الاقتصادي، وارتفاع الأحوال الصحية للأسر، وانحسار معدلات وفيات الأطفال وعمالة الصغار، وانخفاض معدلات الجريمة والنشاطات غير الشرعي.
تعتمد الحكومة حاليًا على تغيير واقع العشوائيات اقتصاديًا وليس فقط تطوير العمران. فشريحة من السكان يتم نقلهم للمناطق الجديدة، وشريحة أخرى يتم تطوير منازلهم وإعادتهم إليها في وحدات مؤسسة جديدة. مع تخطيط المنطقة ككل لتشمل كافة الخدمات.
البطالة والتقسيم الوظيفي
والبطالة في المناطق العشوائية هي الأعلى. وذكرت دراسة لمركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار عام 2019 أن أكبر 10 مناطق عشوائية غير آمنة تتراوح فيها البطالة بين 49 % و67%. وهو ما يجعل أهلها عرضة الاستغلال الاقتصادي.
يظهر التقسيم الوظيفي للعاملين في المهن بأكبر 10 مناطق غير آمنة أن 67% منهم يعملون في مهن خدمية. و١٥% حرفية و٩% مهنية، والأخيرة أكثر خطورة بضمها 28% من المعلمين. ما يعني أنهم يشكلون أفكار الأجيال القادمة، ويمكنهم غرس أفكار متطرفة داخلهم بسهولة.
تتراوح نسبة الأمية في أكبر 10 مناطق غير آمنة بمصر بين 17.7% و51.7% وتصل نسبة عمالة الأطفال داخلها إلى 9%. بينما تتراوح نسبة الإعالة بين 2.5 و4.6% لكل عائل فيها.
وتتراوح نسبة الأمية في أكبر 10 مناطق غير آمنة بمصر بين 17.7% و51.7% وتصل نسبة عمالة الأطفال داخلها إلى 9%. بينما تتراوح نسبة الإعالة بين 2.5 و4.6% لكل عائل فيها.
تبدو الإشكالية الأخطر في الخدمات التي افتقرت إليها تلك التجمعات لعقود ووصلت إلى حرمان مناطق بالكامل من المياه. من بينها: تل العقارب، وقلب مدينة قنا، وعشش السكك الحديد بالجيزة.
لعبت الأحزاب كثيرًا على تلك المشكلات واستغلتها لانتقاد الحكومة دون مشاركة في أعمال التطوير أو المساهمة فيها. ووفقا لدراسة نشرتها مجلة العلوم البيئية بمعهد الدراسات والبحوث البيئية جامعة عين شمس مارس 2018، فإن الأحزاب لم تهتم بالقضايا البيئية التي يعاني منها سكان المناطق العشوائية بوجه خاص ومصر بوجه عام.
مرحلة التطوير والتصحيح
وقال المستشار بهاء أبو شقة، رئيس حزب الوفد، في مقال نشره أغسطس الماضي، إن العشوائيات كانت واجهة مسيئة إلى الدولة المصرية وتشويه حضرتها، وتهديد الأمن القومى المصري.
وأضاف أن مصر بدون عشوائيات تعنى جلب المزيد من الاستثمارات الأجنبية بالبلاد، وانتعاش فى حالة السياحة الواردة للبلاد. ويعني أن مصر تسير فى الطريق الصحيح نحو الدولة الديمقراطية العصرية الحديثة.
ويرى ناجي الشهابي، رئيس حزب الجيل، أن العشوائيات ظلت المصدر الرئيس لجماعات التطرف في مصر. كما كانت مناخًا خصبًا لتوريد شباب صغير السن سهل التأثير عليه لصالح أعمال تضر بالأمن القومي.
ويقول إن مشروعات التطوير الأخيرة امتازت بأنها تمت بشكل علمي، وخيارات متعددة أمام قاطني العشوائيات. فمنهم من حصل على تعويض أو وحدة سكنية جديدو، أو العودة لمكانه القديم بعد تطويره، ما قلل الممانعة لخطط التطوير.
تتدخل الخطط الحالية بشكل متكامل بتوفير فرص العمل، والمدارس والخدمات. وإدخال شريحة كبيرة منهم في المبادرات الحكومية الخاصة بالفئات الأولى بالرعاية، مثل تكافل وكرامة وسكن كريم.
ويقول مسئول حكومي، لـ “مصر 360″، إن المدن الجديدة وفرت ملايين الوظائف، خاصة العاصمة الإدارية التي تضم مليوني عامل. وهو ما فتح المجال أمام قاطني المناطق غير المخططة للعمل برواتب جيدة، وتحسين ظروفهم المعيشية.
التوظيف السياسي مستمر
ويضيف أن التوظيف السياسي لقاطني العشوائيات لم ينته. وتابع: “بعض الجماعات تحاول عرقلة مساعي تطوير حياتهم وتحريضهم على الوقوف ضد مخططات التطوير بزعم إبعادهم عن مناطق عملهم.
يقصد المسئول الحكومي موجة الشائعات التي انتابت تطوير القاهرة الفاطمية. خاصة شارع المعز التي زعمت أن السكان سيتم إبعادهم عن الشارع الذي يمثل مصدر رزقهم بعد التطوير، وهو ما نفاه مجلس الوزراء. وقرر رئيس الحكومة عقد لقاء في الشارع مع مجموعة من الأهالي لتوضيح الصورة لهم.
يوضح أن الأمر ذاته تكرر مع منطقة نادي الصيد بالإسكندرية التي تغرق شوارعها شديدة الضيق في مياه الأمطار والقنوات. وتدخل المنازل بارتفاع متر ونصف المتر لانخفاضها عن الشوارع، حيث رفض الأهالي التطوير في البداية بتحريض من أصحاب المصالح.