في زنزانته المظلمة بأحد سجون باكستان، يجلس الرجل الخمسيني ممددًا على سريره، عاقدًا ذراعيه خلف رأسه متأملاً في سقف الحائط. كان يفكر في الخبر الذي تلقاه قبل دقائق معدودة، أو بالأحرى البُشرى. سيخرج أخيرًا من سجنه بعد ثماني سنوات، وبناءً على طلب من؟ أعداؤه الذين يريدون التفاوض من أجل انسحابهم من بلاده. هذه المرة العرض بلا شروط على نقيض العرض السابق، حين أخبروه عام 2013 بأن الإفراج عنه يقابله التعاون معهم. رفض العرض وظل خمس سنوات أخرى سجينا، قبل أن تتغير الظروف ويتبدل السياق وتتحول الإرادة السياسية.
ما لم يعلمه، أنه بعد تلك الليلة بأقل من ثلاث سنوات، سيعود إلى موطنه من جديد، ليس كأي عودة وإنما باعتباره رجلاً منتصرًا ظفرت حركته بالسلطة من جديد. ومن المعقل الروحي لتلك الحركة الإسلامية المتشددة، ستستقبله حشود من أتباعه وكاميرات عشرات المحطات العالمية ليعلن وهو مرتبك من كثرة الأضواء: “لقد حققنا نصرًا لم يكن متوقعًا.. يجب أن نتواضع أمام الله.. حان وقت الاختبار. الآن يتعلق الأمر بكيفية خدمة شعبنا وضمان مستقبله وتأمين الحياة الكريمة له إلى أقصى حد ممكن”، ثم يحث مقاتليه على البقاء منضبطين بعد السيطرة على المدينة.
سيرة الرجل الثاني
هكذا كانت الصورة ربما في رأس عبد الغني برادر، أحد مؤسسي حركة طالبان ورجل سياستها الأول وقائدها العسكري السابق. والرجل الثاني خلف “أمير المؤمنين” الذي لم يظهر من غيبته بعد.
ربما بدا وكأن تدابير الإله في صفه هذه المرة، بعدما كان مطاردًا في الجبال، ثم مقيدًا بالسلاسل في القصر الرئاسي. فقابعًا في زنزانته بلا تواصل حقيقي مع العالم الخارجي. لكن هذه زاويته الشخصية التي يرى منها الأمور، وبالتأكيد زوايا الرؤية تتعدد وتتسع عن ذلك. فقط حاولنا أن نستشف زاويته كي نُلقي عليكم هذه المقدمة.
اقرأ أيضا – (هيبة الله زاده: سيرة “شبح” أعاد رسم خارطة أفغانستان)
الباحث في سيرة عبد الغني برادر ومسيرته سيجدها ثرية للغاية، فالرجل كان أحد أربعة مؤسسين لحركة طالبان في التسعينيات. وفيها تنقل من وضع إلى آخر ومن مهمة إلى أخرى، حتى أنه كان بمثابة المحرك الفعلي بعد سقوط الحكم. في ظل تواري رفيق دربه الملا محمد عمر عن الأنظار. وتصفه “فرانس 24″ بـ”الوجه المعتدل لحركة راديكالية”.
لقد ظلت صفة الرجل الثاني ملازمة له في جميع الفترات. والآن، من يدري فربما يصبح الرجل الأول ليس في طالبان، وإنما في جُل أفغانستان. قد يتحقق ذلك أو لا، على الأقل حديث بعض التقارير متواتر عن أنه الرئيس المحتمل لأرض الأفغان.
البداية كالعادة من قندهار
مثله مثل غيره من قيادات ومؤسسي طالبان، ولد برادر -بالعربية تعني الأخ- عام 1968 في قندهار وتحديدًا في قرية ويتماك، بمقاطعة ديهراوود بإقليم أوروزغان. وهو ينحدر من قبيلة بوبالزي، إحدى القبائل البشتونية الدورانية. وهي نفس القبيلة التي ينتمي إليها حامد كارزاي رئيس أفغانستان الأسبق، وقد جمعتهما علاقة توافقية في وقت ما.
كغيره أيضًا، شارك برادر في حرب المجاهدين ضد الاتحاد السوفييتي، ومن هنا جمعته علاقة صداقة وثيقة مع الملا محمد عمر. صداقة ستمتد طويلاً وسيرسخها رباط المصاهرة لاحقًا بعدما يتزوج كل منهما شقيقة الآخر. صداقة ستبدأ بالرغبة في إعلاء شرع الله وطرد المحتل وستنتهي بالدماء وآلاف الأرواح المزهقة. ويقول شخص يُدعى ضعيف، حارب إلى جانبهما، إن صداقتهما كانت أهم من أي علاقة عائلية. على الرغم من ذلك، فإن التباين بين الشخصيتين كان واضحًا للعيان.
من جهاد السوفييت إلى السلطة
بعد انتهاء الجهاد ضد السوفييت سيعود برادر رفقة الملا عمر إلى قرية مايواند، حيث تلقى الأخير تعليمه ليؤسسا مدرسة دينية ويعتزلا القتال. لكن الفساد والجريمة واغتصاب فتيات وفتيان القرية من قبل أمراء الحرب، سيكون دافعًا لهما لتأسيس حركة طالبان. التي ستبدأ بثلاثين رجلاً وخمس عشرة بندقية ثم تجتذب الآلاف من القومية البشتونية ممن أرهقتهم الحرب الأهلية وفساد أمراء الحرب. لتصل بعدها بعامين إلى الحكم، وفق تصور ضيق ومتزمت لشكل هذا الحكم وطريقة تطبيق الشريعة.
خدم برادر في البداية كالساعد الأيمن للملا عمر في قندهار ثم كقائد فيلقه في غرب أفغانستان. وبعد ذلك كقائد لحامية كابول ونائبًا لوزير الدفاع، حيث أدار القتال ضد قادة المجاهدين في الشمال.
الملا وكيل أحمد متوكل، وزير خارجية طالبان السابق، الذي التقى الرجلين لأول مرة في عام 1992، قال إن برادر أصبح القائد العسكري الأكثر ثقة وأهمية للملا عمر. وعندما قصفت القنابل الأمريكية قندهار في نوفمبر 2001، قفز الملا عبد الغني على دراجة نارية. وقاد صديقه القديم إلى بر الأمان في الجبال.
عند تلك النقطة، بدأت مسيرة مختلفة لبرادر كان فيها المحرك الفعلي على الأرض وراسم الاستراتيجيات والرجل الذي يصدر جميع التوجيهات. وتوّقع البيانات باسمه، في ظل تخفي صديقه الذي وضعت الولايات المتحدة عشرة ملايين دولار من أجل رأسه.
تصعيد حرب العصابات
“حسنا، أيها السادة. أريد شيئا واحدًا فقط: تقليل خسائرنا إلى الحد الأدنى مع زيادة التكلفة التي يتكبدها العدو. يجب ألا نحاول الاحتفاظ بأرض ضد القوة النارية المتفوقة للأمريكيين من خلال قتالهم وجها لوجه. سنعتمد على تكتيكات حرب العصابات كلما أمكن ذلك. نزرع الزهور- يقصد عبوات ناسفة محضرة على الممرات والطرق الترابية- ونركز على كمائن الوحدات الصغيرة بأسلحة آلية وقذائف آر بي جي”. ثم وجه تحذيرًا خاصًا لمستمعيه: “سيحمل كل واحد منكم المسؤولية عن حياة رجاله. احتفظوا بأسلحتكم على ظهركم واركبوا دراجاتكم النارية. أمريكا لديها قوة عسكرية أكبر، لكن لدينا إيمان والتزام أكبر”.
اقرأ أيضا – (كابول في قبضة طالبان.. كيف فشلت الاستراتيجية الأمريكية في أفغانستان؟)
كانت تلك الكلمات التي وجهها برادر إلى كبار قادة طالبان الإقليميين في اجتماع جمعهم جنوب باكستان بالقرب من الحدود الأفغانية. وقتما دخلت قوات المارينز الأمريكية ولاية هلمند عام 2009. محددًا بذلك نهجًا عسكريًا كبّد قوات التحالف الدولي الكثير من الخسائر في ذلك العام، وكان سببًا في إلقاء القبض عليه بعدها بأقل من عام.
قبلها، وفي آواخر 2007، أمر قوات طالبان بتركيز هجماتها على تعطيل تدفق الإمدادات العسكرية للولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي، والاقتراب من المدن، خاصة كابول. شعر القادة العسكريون الأمريكيون حينها بالفزع من نجاحه.
الصعود إلى هرم القيادة
في أعقاب السقوط، وعدم ظهور الملا عمر كان برادر هو من يعين ويقيل قادة وحكام طالبان. ويترأس المجلس العسكري الأعلى ومجلس الشورى الحاكم المركزي في كويتا ويصدر البيانات السياسية للمجموعة باسمه.
والأهم أنه تحكم في خزانة طالبان حيث مئات الملايين من الدولارات من أموال المخدرات ودفعات الفدية ورسوم الطرق السريعة والتبرعات. ومعظمها من الخليج، بحسب ما نقلت “نيوزويك” الأمريكية بعد مقابلة العشرات من أفراد طالبان.
اقرأ أيضًا- (كيف استعادت طالبان كابول بعد حربها مع أمريكا 20 عامًا؟)
يقول الملا شاه والي أخوند، وهو قائد فرعي لحرب العصابات من ولاية هلمند التقى برادر في مارس 2009 في كويتا: “إنه يقود كل القوى العسكرية والسياسية والدينية والمالية”. يعقب البروفيسور توماس جونسون، خبير قديم في شؤون أفغانستان ومستشار سابق لقوات التحالف: “برادر لديه مقومات القائد اللامع. يتمتع بالقدرة وجذاب ويعرف الأرض والناس أفضل بكثير مما نأمل أن نفعله. يمكن أن يثبت أنه عدو هائل لنا”.
لم يمتلك برادر مكتبا أو محل إقامة ثابت. كان يعمل لمدة 18 ساعة ونادرا ما ينام في نفس المكان مرتين. ينتقل بسيارة صغيرة تحمل علم “إمارة أفغانستان الإسلامية”، ويلتقي كبار القادة وزعماء القبائل في “مخبأ سري معلن” ثابت على مرأى من الجميع. بعدما أعلنته باكستان منطقة محظورة على القوات الأمريكية.
ما وراء التصعيد
بالتزامن مع التصعيد، أصدر برادر كتيبًا عممه على كل أفراد التنظيم، وعُدّ مدونة سلوك طالبان. ركز على كيفية “كسب قلوب وعقول القرويين”، وتجنب الإضرار بمصالحهم، وإيقاع إصابات في صفوفهم، وتقليص العمليات الانتحارية في محيطهم. كما شكّل لجنتين واحدة معنية بشكاوى المقاتلين وأخرى بشكاوى القرويين، في محاولة لاكتساب حاضنة شعبية.
ويشير بعض من مقاتلي طالبان إلى أن نائب الملا عمر امتلك أسلوب قيادة أكثر حداثة وفعالية. إذ وصف باستمرار بأنه أكثر انفتاحًا وأكثر تشاورًا وأكثر توجهًا نحو الإجماع وأكثر صبرًا من عمر. كما أنه أقل توترًا وأكثر استماعًا لوجهات نظر مختلفة بدلاً من التصرف بناء على الإشاعات أو المشاعر أو الأيديولوجية الصارمة.
“برادر لا يصدر أوامر دون فهم المشكلة والتحقيق فيها”، يوضح قائد من مقاطعة زابول التقى به حينذاك: “إنه صبور ويستمع إليك حتى النهاية. لا يغضب ولا يفقد أعصابه”.
في الواقع، ورغم تصعيده للهجمات العسكرية والانتحارية ضد قوات التحالف- التي راح ضحيتها الكثير من المدنيين- إلا أن ذلك كان ردًا على فشل التفاوض. إذ قاد تيارًا داخل الحركة رغب في التفاوض مع الولايات المتحدة والحكومة الأفغانية، وهو ما أحدث اختلافات داخل بنية الحركة. التي صعد فيها تيار آخر متشدد رفض المفاوضة بقيادة الملا داد الله، وقد عرفت علاقتهما خصومة كبيرة. إذ “منذ التسعينيات كان برادر يكره وحشية داد الله المتهورة، بينما احتقر داد الله حذر برادر واستاء من علاقته الوثيقة مع الملا عمر”، بحسب “نيوزويك”.
أحدث ذلك انشقاقات عميقة داخل الحركة؛ هدد تماسكها لأعوام طويلة.
التواصل مع الحكومة
وتكشف التقارير عن جهود برادر للتفاوض في عدة مناسبات سمح فيها لوفد من حركته بالتواصل مع الرئيس الأفغاني آنذاك حامد كرزاي وعرض السلام. كم تم التواصل مع قيوم كرزاي، الأخ الأكبر للرئيس الأفغاني، ولكن جميعها لم يكلل بالنجاح.
وأشارت “بي بي سي” إلى أن حامد كرزاي كان على تواصل مع برادر قبل القبض عليه (عام 2010 في كراتشي الباكستانية) بأشهر قليلة. وأن القبض عليه كان بمثابة إحباط لمفاوضات ممكنة بين الحركة والحكومة الأفغانية.
بدا أن الولايات المتحدة كانت مصممة على تحقيق نصر عسكري وأن باكستان تريد ضمان السيطرة على أي عملية سياسية. وكشف كرزاي لوكالة أسوشيتيد برس عن طلبه مرتين من الأمريكيين والباكستانيين إطلاق سراح برادر، ولكنه قوبل بالرفض.
في النهاية، أدى عزل برادر إلى تمكين القادة الأكثر راديكالية داخل طالبان الذين كانوا أقل انفتاحًا على الدبلوماسية.
الخروج والتفاوض
مع شعار الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب “أمريكا أولاً”، والنهج الذي اتبعه في سحب قواته من الشرق الأوسط وأفغانستان. وُجِدت الرغبة في التوصل لاتفاق انسحاب مع حركة طالبان.
وحين يذكر التفاوض مع الحركة لابد أن يُذكر عبد الغني برادر. وبناءً على ضغط من زلماي خليل زاد، المبعوث الأمريكي في أفغانستان، أفرجت باكستان عن برادر بعد ثماني سنوات من اعتقاله. ونُقل إلى قطر ليصبح رئيسا لفريق طالبان المفاوض ثم تم تعيينه رئيسًا للمكتب السياسي.
قاد برادر المفاوضات مع إدارة ترامب، وأجرى محادثات وجهًا لوجه مع وزير الخارجية آنذاك مايك بومبيو. وهو ما أسفر في فبراير 2020 عن اتفاق تاريخي ينص على انسحاب جميع الجنود الأجانب من الأراضي الأفغانية. مقابل التزام طالبان بعدم قتال الولايات المتحدة، والتعهد بعدم التعاون مع تنظيمي القاعدة والدولة الإسلامية ولاية خراسان “داعش”. لإيقاف أيّ أعمال إرهابية قد تنطلق من أراضيها.
الانسحاب الأمريكي غير المشروط كان بمثابة ضوء أخضر للحركة للتصعيد العسكري ضد القوات الحكومية لتحرز تقدما سريعا قوّى موقفها. في ظل تخلي أمريكا عن الدعم الجوي للقوات الحكومية وتركها بلا غطاء، ومعاناة تلك القوات أصلا من الفساد الإداري والمالي. ما جعلها مفككة في مجابهة خصم متماسك.
في هذه الأثناء، التقى عبد الغني العديد من الشخصيات الأجنبية والدولية لكسب المزيد من الاعتراف العالمي. وفي الشهر الماضي، ترأس وفدًا إلى الصين حيث التقى وزير الخارجية وانج يي. رحلة أتت ثمارها فقد كانت بكين أول دولة أعربت عن رغبتها في إقامة “علاقات ودية” مع طالبان. إلى جانب تفاهمات أخرى مع إيران وروسيا التي قالت لاحقا إنها لن تغلق سفارتها في كابول.
العودة للحكم
تناقص عدد الكيلومترات تجاه العاصمة تدريجيًا حتى وصلت طالبان إلى كابول ودخلتها بلا قتال. فيما فر رئيس البلاد أشرف غني تاركًا أبواب القصر الرئاسي مفتوحة على مصراعيها، لتعود الحركة الإسلامية إلى الحكم. ومعها عاد برادر إلى قندهار ليتصدر المشهد ويبث رسائل طمأنينة إلى المجتمع المحلي والدولي.
استهل برادر عودته باجتماعات مع شيوخ القبائل المحليين ومسؤولين سابقين في الحكومة من أجل تشكيل “نظام شامل”. بحسب ما أفاد مراسل الجزيرة في كابول نقلا عن مصادر في قندهار. ولكن حتى الآن لا نعلم إن كان برادر سيصبح على رأس القيادة السياسية للبلاد، أم أنه سيفسح الطريق لغيره. ما نعلمه أنه سيتصدر المشهد طويلا خلال الفترة المقبلة.