يترك صعود طالبان تداعيات متباينة على المنطقة، بعضها يعكس تخوفًا من تنامي التنظيمات الراديكالية، واتساع مخاطرها. والجانب الآخر يستشرف انعكاسات إيجابية على الموقف الجمعي لدول المنطقة المناهضة لمشروع الإسلام السياسي.
وتمتلك بعض دول المنطقة أرضية مشتركة يمكنها البناء عليها لتشكيل موقف جماعي، في مواجهة تعاون محتمل بين جماعات إسلامية وكذلك إيران. يتمثل ذلك في اتفاقية أبراهام المستهدفة في جزء منها النفوذ الإيراني بالمنطقة، رغم ما يحيطها من تململ رافض للتطبيع.
يرجع ذلك إلى أن “أبراهام” تمثل أحد الأسباب التي قد تدفع الجماعات الراديكالية لتهديد أمن الدول الأطراف. وهو ما يجعل الاتفاقية نفسها ركيزة لإعادة صياغة السياسات الأمنية في المنطقة.
لكن هذا الدافع تحديدًا يمكن أن يكون سببًا في إضعاف ما يُصطلح على تسميته بـ”حلف أبراهام”. باعتبار أن صياغة سياسيات أمنية عربية مشتركة ليس بالضرورة في إطار أبراهام، التي تجلب تململاً شعبيًا، تسمح للجماعات المتطرفة باستغلاله سياسيًا لصالحها.
إيران والجماعات الراديكالية السنية وإسرائيل يمثلون أرقامًا في معادلة الصراعات بالمنطقة. لذلك فإنّ صعود طالبان يمثل فرصة للطرفين الأوليين. بينما تبقى اتفاقية أبراهام معادل لصياغة سياسات أمنية مشتركة مناهضة لهذا المشروع، حتى وإن كانت أحد أسباب تعاون محتمل بين طهران والجماعات المتشددة، لمواجهة “تحالف أبراهام”.
هكذا، فإن وصول طالبان إلى السلطة في أفغانستان يشير إلى متغيرات جديدة على الساحة الإقليمية والدولية. من شأنها أن تعيد رسم خريطة موازيين القوة في منطقة الشرق الأوسط، لاسيما أنّ ذلك جاء بالتزامن مع خروج الولايات المتحدة من أفغانستان بموجب الاتفاقية التي عقدتها مع أعضاء الحركة في فبراير 2020، وكذلك إعادة صياغة الاستراتيجية الأمريكية في المنطقة، ومن ثم تبعتها باتفاقية أبراهام في سبتمبر من نفس العام، والتي مثلت اتفاقًا تاريخيًا من أجل إحلال السلام بين الدول العربية وإسرائيل.
اتفاقية أبراهام والعمق الاستراتيجي
في منتصف القرن الماضي، قامت الولايات المتحدة الأمريكية- فور انتهاء الحرب العالمية الثانية واستعداد القوات الأمريكية الانسحاب من أوروبا-، بتأسيس حلف “الناتو” كسياج عسكري وأمني للدول الأوروبية، ومحاولة لكبح جماح التمدد السوفيتي في المنطقة، بحيث لا تترك فراغًا أمنيًا واستراتيجيًا يمكن ملؤه من جانب القوات الروسية، ومن جانب آخر الحفاظ على نفوذها ومكتسباتها في المنطقة.
وأثناء فترة حكم الرئيس الأمريكي السابق “دونالد ترامب” أعادت الولايات المتحدة صياغة أولوياتها. وأعلنت نيتها عن وقف الاستنزاف المادي والعسكري للقوات الأمريكية. ومن ثم سحبها من مناطق النزاع التي لا نهاية لها، من حيث أفريقيا لا سيما الصومال، والعراق، وكذلك أفغانستان.
وحتى تتمكن من ترك مناطق الصراع، اتجهت واشنطن إلى تصفير الأزمات من خلال اتفاقيات السلام، وعلى رأسها “اتفاقية أبراهام”. وبينما تعتبر إيران الخصم الأكبر للولايات المتحدة وحلفائها في الشرق الأوسط، رافق الانسحاب الأمريكي من مناطق النزاع توطيد التعاون الاستراتيجي بين الحلفاء بالمنطقة.
لذلك، فإن هذه الاتفاقية تحمل أهمية استراتيجية وتاريخية، باعتبارها الاتفاقية الثالثة التي تعقد بين دول عربية وإسرائيل منذ اتفاقية السلام بين مصر وإسرائيل في 1979. وتنص على تعزيز العلاقات بين إسرائيل والإمارات العربية المتحدة ومملكة البحرين في الجوانب الأمنية والدبلوماسية والتجارية والعلمية، وتحييد الخلافات. كما اتسع نطاقها لتشمل المغرب والسودان.
ومن خلال الاتفاقية التي تمثل مناخًا جديدًا في الشرق الأوسط، ركزت الولايات المتحدة على توحيد جبهة الحلفاء. من بينهم إسرائيل والدول العربية المتعاونة في مواجهة الخطر الإقليمي المتمثل في إيران والجماعات الراديكالية.
وفي سياق إنهاء الحرب الأمريكية في أفغانستان، الأطول بالنسبة للقوات الأمريكية حيث استغرقت 20 عاما. عقدت واشنطن اتفاقية سلام مع حركة طالبان، تتضمن “عدم السماح لأي من أعضائها أو الأفراد أو الجماعات الأخرى، بما في ذلك القاعدة باستخدام أراضي أفغانستان لتهديد أمن الولايات المتحدة وحلفائها”.
طالبان والجماعات المتطرفة
لكن قبل أن ينتهي الوقت المخصص لانسحاب القوات الأمريكية، كانت السلطة قد وقعت في أيدي طالبان. وبعدها بدت مؤشرات على كسر محتمل من جانب الحركة لبنود الاتفاق، خاصة ما يتعلق بالسماح لتنظيم القاعدة بتوسيع نفوذه.
الرئيس الأمريكي جو بادين لم يستبعد، في خطاب قبل ساعات، عودة قوية للتنظيمات المتطرفة خاصة داعش والقاعدة، وهو يبدو مستندًا إلى رسائل متبادلة لأنصار تلك الجماعات، والتي رأت في صعودة طالبان “انتصارًا للمسلمين”.
ليس معروفًا إن كانت طالبان ستكرر الخطأ نفسه الذي ارتكبته قبل 20 عامًا، وتجازف بعلاقة مع القاعدة. لكن التنظيم الذي أسسه بن لادن بدا اليوم مختلفًا، بسبب اللامركزية التي بات عليها، وانتشاره بعمق خارج أفغانستان. بيد أن ذلك لا يمنع أن تبقى “علاقة سرية” بين طالبان والجماعات الراديكالية.
“تجربة ملهمة”
من المهم أيضًا الإشارة إلى أن تجربة طالبان يمكن أن تبقى “ملهمة” لجماعات متشددة، قد ترى في نجاح الحركة الأفغانية نموذجًا يحتذى به في دول عربية. وهنا ستبقى المنطقة العربية والشرق الأوسط أمام تحدٍ أمني لمجابهة موجة عنف محتملة.
لذلك، فإنّ صعود طالبان قد يسهم في إحياء مشروعات متطرفة في المنطقة العربية، سواء من خلال اندفاع جماعات قائمة نحو العنف كأسلوب تغيير سياسي، أو تصدير أفغانستان مشروعات معلّبة إلى المنطقة، سواء بالفكر أو الاستراتيجيات الحركية. وهذا يمكن أن يمثل رقمًا في معادلة تقوية “حلف أبراهام” أو شوكة في خصره.
سقوط كابول واتفاقية أبراهام
إزاء ما سبق، فإنّ الغموض لا يزال يكتنف شكل المناخ السياسي والاجتماعي في أفغانستان بشكل خاص والشرق الأوسط بشكل عام. لكن يمكن إدراك عدد من التداعيات المترتبة على تلك الأحداث الأخيرة:
إعادة رسم السياسات الأمنية من الداخل
كشفت التحركات الأمريكية على مدار العامين الأخرين– تحديدًا- عن أنها تتصرف بما يتسق مع مصالحها الذاتية. مثلما صرح الرئيس الأمريكي جو بايدن بأن أمريكا حققت أهدافها في مواجهة التهديدات الإرهابية. وأن دول المنطقة عليها الاعتماد على قدرتها العسكرية في حماية نفسها.
ذلك الإعلان يعمق الشعور لدى الدول العربية بعدم الاعتماد على أمريكا؛ إذ إن وجودها في أفغانستان طوال فترة العشرين عامًا لم يقوض حركة طالبان، أو وقف التمدد الإرهابي أو بناء الدولة. وما لبثت أن أعلنت خروجها حتى استجمعت الحركة قواتها، وأسقطت السلطة في كابول.
لذلك فإنّ ثمة توترات بشأن مستقبل الأوضاع في المنطقة، واحتمالية تفاقم الخطر الإرهابي. خاصة في ظل نظام متعاون مع تنظيم القاعدة، ما سيسمح بشن هجمات على الدول الخصوم.
بالإضافة إلى ذلك، ثمة تقاعس من جانب الإدارة الأمريكية في استخدام القوة لحماية مصالح الدول الحلفاء. على سبيل المثال، لم يتجاوز الرد الأمريكي على الهجوم الإرهابي من جانب الحوثيين على منشآت أرامكو في المملكة العربية السعودية بيانًا حملت فيه إيران المسئولية. وكذلك اكتفت إدارة بايدن بإدانة إيران على هجومها الأخير على السفينة الإسرائيلية في بحر عمان.
هذا يضيف أهمية لإعادة رسم السياسات الأمنية من الداخل العربي. ومن ثم يستدعي استنفار القوات الأمنية استعدادًا للأخطار المحتملة. كما أنه من المرجح أن تتكاتف الدول الموقعة على اتفاقيات السلام مع إسرائيل في تشكيل هياكل أمنية مشتركة لمواجهة التهديدات المحتملة. وتوجيه ضربات استباقية فيما يخص خطر الجماعات الإرهابية. وكذلك التعاون في معالجة قضية اللاجئين؛ إثر موجات النزوح القادمة من أفغانستان.
لكن لا يعني ذلك أنّ “جبهة أبراهام” يمكن أن تكون متماسكة إلى أبعد حد في تلك المواجهة. باعتبار أن التعويل على السياسيات الأمنية العربية ليس بالضرورة أن يكون في إطار أبراهام. خاصة أن الاتفاقية يمكن اعتبارها أحد الأسباب- حتى وإن كانت ظاهرية- التي تستند إليها الجماعات الراديكالية لاستهداف المحيط العربي.
مشروع إيران وخطة أبراهام
أحد التصورات المتوقعة تدور في فلك وضع المشروع الإيراني في مقابل خطة أبراهام، التي تتبلور بشكل رئيس حول هدف مواجهة خطر إيران على الدول العربية وإسرائيل. إذ تستهدف الاتفاقية وضع إطار لخطر مشترك متمثل في إيران وأعوانها. وذلك من خلال مقارنة سلوك طهران المستعد دائمًا لاستخدام القوة العسكرية، في مقابل جنوح إسرائيل إلى التطبيع مع الدول العربية.
وهنا يمكن لـ”دول أبراهام” الترويج لقواسم مشتركة من حيث الخطر الإيراني- وفق تصورها-أو الاعتداد بقدرات إسرائيل التكنولوجية وتجربتها الاقتصادية، وكونها حليف الولايات المتحدة في المنطقة. وبالتالي أضافت التغيرات الدينيامكية تصورات استراتيجية لاتفاقيات أبراهام، كما عكست انتصارًا للمصالح الذاتية على الأيديولوجيا.
يفسر ذلك رد فعل إيران التي اعتمدت على العداء العربي الإسرائيلي بمثابة حصن جيوسياسي يحمي الأمن القومي الإيراني. باعتباره يحد من ترسيخ إسرائيل ودورها في المنطقة العربية، لذلك أدانت وزارة الخارجية الإيرانية الاتفاقية ووصفتها بـ”حماقة استراتيجية” و”طعنة من الإمارات في ظهر الشعب الفلسطيني”.
كما أصدر الحرس الثوري الإيراني (IRGC) بيانًا وصف فيه التطبيع بـ”الحماقة التاريخية” التي ستؤدي إلى “مستقبل خطير” لقيادة الإمارات العربية المتحدة. ووصفها الرئيس الإيراني السابق “حسن روحاني” بأنها “خيانة”، وحذر من أنه إذا سمح الإماراتيون “لإسرائيل بموطئ قدم في المنطقة، فسيتم معاملتهم بشكل مختلف”.
ساحة جديدة للتنافس
بالنظر إلى ما سبق، فإنّ صعود طالبان يمكن أن يرسم خريطة لساحة تنافس جديدة، أحد طرفاها إيران وفي الجهة المقابلة تحالف “دول أبراهام”، وذلك بالنظر إلى عدة شواهد تشير إلى تحالف محتمل وراسخ بين الحركة والجمهورية الإسلامية.
تتقاطع إيران وأفغانستان في عدد من العوامل، حيث يرتبط كل منهما بحدود مشتركة تمتد إلى حوالي 920 كم، كما تتشابك القبائل والأعراق بين إيران وأفغانستان. أيضًا اقترب حجم التبادل التجاري بين البلدين العام الماضي إلى 4 مليارات دولار. بالإضافة إلى أن أفغانستان مصدر للموارد المائية بالنسبة لإيران حيث ينبع منها نهر هلمند. إلى جانب وجود 3 معابر حدودية بين الدولتين. وهو ما يمثل دافع قوي بالنسبة لطهران لدعم علاقتها بالقيادة السياسية الجديدة.
ونجحت إيران في فتح قنوات تواصل مع أعضاء الحركة، حيث استقبل وزير الخارجية الإيراني السابق “جواد ظريف” نهاية يناير 2021 الملا عبد الغني بردار مع مجموعة من أعضاء الحركة. كما صدرت تقارير أمريكية تؤكد دعم إيران العسكري والمالي لحركة طالبان، وقيامها بتدريب قوات طالبان على أراضيها. وتستهدف من ذلك الحفاظ على مصالحها الحيوية مع جارتها الشرقية.
لكل ما سبق، فإن طالبان تعتبر ساحة للمنافسة بين الدول الخصوم في منطقة الشرق الأوسط. وأيضًا فرصة ثمينة لضبط ميزان القوة في المنطقة في مواجهة حلف أبراهام.