“أرفض تسليم الحرب في أفغانستان، إلى رئيس خامس للولايات المتحدة الأمريكية”. بهذه الكلمات عبر الرئيس الأمريكي جو بايدن ضمنيا عن رفضه تحمل مسؤولية حرب انطلقت منذ ما يقرب من 20 عاما.
وقعت أمريكا في المستنقع الأفغاني. حتى قبل أن تغزوها عام 2001.
ففي 1979، قام الاتحاد السوفييتي- الذي كان يخوض الحرب الباردة مع الولايات المتحدة- بغزو أفغانستان. وبعد تحمل خسارة دعمها السوفيتيين في فيتنام. قررت أمريكا تسليح وتمويل المليشيات الأفغانية “المجاهدين” سرّاً لقتال السوفيتيين.
أيّد الرئيس الأمريكي حينها رونالد ريجان برنامج دعم المجاهدين الأفغان. وفي 1988، بدأ السوفيتيون الانسحاب. ما اعتبره ريجان وقتها انتصارا لبلاده، قائلا: “بعد قرابة 9 سنوات طوال من الحرب، سيطرت شجاعة وعزم الشعب الأفغاني ومقاتلي الحرية الأفغان. واليوم، نهاية الاحتلال في الأفق”.
مع خروج السوفيتيين عام 1989. تضاءل اهتمام أمريكا بأفغانستان. وتمزقت البلاد سريعًا بين الحكومة الشيوعية الضعيفة ومجموعة من قادة الحرب.
في خضم هذه العاصفة، تركت الولايات المتحدة شبكة مسلحة بشكل جيد ومندفعة من الجهاديين الدوليين. بينهم أسامة بن لادن. وتحالفت طالبان مع القاعدة، وسيطروا على أفغانستان. لتبدأ المواجهة الأمريكية مع صنيعة يديها.
منذ عام 2001. واجه كل رئيس وصل إلى البيت الأبيض، مهمة محاولة تطوير الأوضاع في أفغانستان. وأدار كل منهم محاولات لتحسين القيادة السياسية للبلاد. فشلت جميعها في هزيمة طالبان. ولم تسفر سوى عن سقوط عشرات الآلاف من الضحايا الأمريكيين والأفغان.
أخطاء 20 عاما
وزير الدفاع الأمريكي الأسبق، تشاك هاجل تحدث عن الأخطاء التي ارتكبتها الولايات المتحدة الأمريكية خلال الـ20 عاما الماضية منذ دخولها أفغانستان.
وفي مقابلة لهاجل مع cnn، قال: علينا العودة لـ20 عاما ماضية. هذه المدة التي قضتها الولايات المتحدة هناك (أفغانستان) كان هناك العديد من الأخطاء. أحد هذه الأخطاء المستمرة هو أن كل رئيس أمريكي قال إننا سنرحل. وإن الأمر متروك للشعب الافغاني ليتخذه حول الدولة التي يرغبون فيها، وكيف يريدون إدارة دولتهم.
وتابع: تاريخ أفغانستان لم نفهمه على الإطلاق. وأفغانستان لم تحكم بتاتا من خلال حكومة مركزية. البريطانيون توصلوا لذلك والسوفيتيون. لم نفهم الثقافة أو الدين أو القبلية. وها نحن الآن بعد 20 عاما من تدخل القوى الغربية في هذه الدولة.. لقد تم ضخ الكثير من الأموال فيها، تريليوني دولار
وصف هاجل، الحكومة الأفغانية بأنها الأكثر فسادا في العالم. منتقدا محاولات تكوين جيش أفغاني على غرار الجيش الأمريكي.
بايدن برر قراره بسحب جميع القوات الأمريكية باعتباره خيارًا ضروريًا للحرب التي أصبح هدفها غير واضح. مضيفًا أنه تم إطلاق القرار من خلال اتفاق مع طالبان عقده الرئيس دونالد ترامب.
وقال الأسبوع الماضي. إن الفوضى التي أعقبت إجلاء الأمريكيين والأفغان الذين ساعدوا المجهود الحربي كانت نتيجة متوقعة ولا مفر منها في الغالب.
مشاهد الرحيل المتسرع من كابول واستيلاء طالبان على البلاد. أثبتت تواضعًا عميقًا لقوة عالمية عظمى أنفقت مليارات الدولارات وفقدت الآلاف من الأرواح في جهودها.
جورج دبليو بوش
بعد هجمات 11 سبتمبر 2001 الإرهابية التي دبرتها القاعدة منطلقة من أفغانستان. تعهد الرئيس جورج دبليو بوش بالقضاء على الإرهاب العالمي. ودعا طالبان التي تسيطر على معظم أفغانستان إلى تسليم قادة القاعدة المختبئين في البلاد. بمن فيهم أسامة بن لادن.
رفضت طالبان هذه الدعوة. وسمح الكونجرس للقوات الأمريكية بملاحقة المسؤولين عن أحداث الحادي عشر من سبتمبر في 18 سبتمبر 2001. على الرغم من أن المشرعين لم يصوتوا صراحة على إعلان الحرب على أفغانستان.
واعترف بوش في تصريحات أمام جلسة مشتركة للكونجرس بعد ذلك بيومين. بأن الصراع القادم سيكون بمثابة “حملة مطولة لا مثيل لها في أي وقت مضى”.
في 7 أكتوبر 2001. أطلق الجيش الأمريكي رسميًا عملية الحرية الدائمة بدعم من المملكة المتحدة. اشتملت المرحلة الأولى من الحرب في الغالب على غارات جوية على أهداف تابعة للقاعدة وطالبان. لكن بحلول نوفمبر، كان هناك 1300 جندي أمريكي في البلاد.
الحرب على الإرهاب
مشهد لن ينساه العالم. وقف فيه جورج دبليو بوش أمام المصورين في البيت الأبيض في واشنطن العاصمة في 7 أكتوبر 2001. بعد إعلانه أن الولايات المتحدة شنت هجمات على أفغانستان كجبهة جديدة في حربها على الإرهاب.
واتسعت الحرب بشكل مطرد خلال الأشهر التالية. حيث أطاحت القوات الأمريكية والأفغانية بحكومة طالبان وطاردت بن لادن الذي كان يختبئ في مجمع كهوف تورا بورا جنوب شرق كابول. تسلل بن لادن في النهاية عبر الحدود إلى باكستان.
وشهدت سنوات حكم بوش إرسال آلاف الجنود الأمريكيين إلى أفغانستان لملاحقة متمردي طالبان. بحلول مايو 2003 . قال البنتاجون إن القتال الرئيسي في أفغانستان انتهى. وتحول التركيز بالنسبة للولايات المتحدة وشركائها الدوليين نحو إعادة بناء البلاد وإقامة نظام سياسي ديمقراطي على النمط الغربي.
تلاشت العديد من قيود طالبان. وسُمح لآلاف الفتيات والنساء بالذهاب إلى المدرسة والحصول على وظائف. لكن الحكومة الأفغانية التي لا تزال مليئة بالفساد أحبطت المسؤولين الأمريكيين. وبدأت طالبان في الظهور من جديد.
في الوقت نفسه، كان التركيز يتحول في واشنطن نحو حرب أخرى. هذه المرة في العراق. التي استنزفت الموارد العسكرية والاهتمام.
بحلول الوقت الذي أعيد فيه انتخاب بوش في عام 2004. وصل عدد القوات في أفغانستان إلى حوالي 20 ألف جندي. حتى مع توجيه الاهتمام بشكل كامل إلى ما كان يحدث في العراق.
شهدت السنوات التالية. زيادات مطردة في القوات الأمريكية المنتشرة في أفغانستان. حيث استعادت طالبان سيطرتها على المناطق الريفية في الجنوب.
عندما ترك بوش منصبه عام 2009. كان هناك أكثر من 30 ألف جندي أمريكي يتمركزون هناك – وكانت طالبان تشن تمرداً شاملاً.
باراك اوباما
ورث الرئيس باراك أوباما عند دخوله البيت الأبيض عام 2009، أوضاعا متردية في أفغانستان..
أوصى أوباما كبار الجنرالات بزيادة القوات لإضعاف حركة طالبان. التي كانت تشن هجمات متزايدة على القواعد العسكرية.
بعد نقاش داخل البيت الأبيض. أعلن نائب الرئيس آنذاك جو بايدن معارضته لزيادة القوات.
بدأ أوباما بنشر عشرات الآلاف من القوات في أفغانستان. في الوقت نفسه التزم بجدول زمني للانسحاب يبدأ عام 2011. لكنه ربط قرار الانسحاب بمعايير يقيس من خلالها التقدم في محاربة طالبان والقاعدة.
وقال أوباما في خطاب متلفز. إن القوات الأمريكية الإضافية ستساعد في تهيئة الظروف للولايات المتحدة لنقل المسؤولية إلى الأفغان.
بحلول أغسطس 2010. وصل عدد القوات الأمريكية في أفغانستان إلى مائة ألف جندي. وقامت المخابرات الأمريكية في نهاية المطاف بتعقب بن لادن. الذي قُتل خلال غارة في مايو 2011.
بعد ذلك بوقت قصير أعلن أوباما أنه سيبدأ في إعادة القوات الأمريكية إلى الوطن بهدف تسليم المسؤولية إلى الأفغان بحلول عام 2014.
على مدى السنوات التالية. انخفضت مستويات القوات بشكل مطرد. حيث انخرطت الولايات المتحدة في دبلوماسية مشحونة مع قادة أفغانستان.
محاولات يائسة
مع بداية ولايته الثانية. كان أوباما تبنى وجهة نظر تجاه الملف الأفغاني. واعتراف بأن محاولات غرس ديمقراطية على النمط الغربي ميؤوس منها في الغالب. وأن القضاء على الإرهابيين وإبقاء طالبان تحت السيطرة يدخل ضمن واجبات الولايات المتحدة.
أعلن أوباما نهاية العمليات القتالية الرئيسية في 31 ديسمبر 2014. مع تحول مهمة الولايات المتحدة إلى التدريب ومساعدة قوات الأمن الأفغانية. في خطوة تمهد لانسحاب كامل بحلول الوقت الذي يترك فيه أوباما منصبه.
ولكن بعد عام. و مع اقتراب فترة ولايته من نهايتها. قرر أوباما أن الوضع الأمني الهش في البلاد يعني أن الانسحاب الكامل الذي كان يأمل فيه غير ممكن. وترك منصبه في ظل وجود أقل من 10 آلاف جندي في أفغانستان. وقال إن الأمر متروك لخليفته ليقرر ما سيفعله بعد ذلك.
دونالد ترمب
تعهد دونالد ترامب المرشح. بإعادة القوات الأمريكية إلى الوطن من أفغانستان. لكن الوفاء بوعده كان صعبًا مع استمرار حركة طالبان في الصعود وظهور فرع لتنظيم الدولة الإسلامية.
انقسم فريقه على أسس أيديولوجية. بين مستشاريه العسكريين الذين دافعوا عن استمرار الوجود والقوميين الأكثر صلابة الذين عارضوا التدخلات الأجنبية.
في النهاية. اعترف ترامب في خطاب ألقاه في أغسطس 2017 أنه على الرغم من أن نيته كانت سحب كافة القوات الأمريكية. إلا أن الظروف جعلت ذلك مستحيلًا. وترك مستقبل الوجود الأمريكي هناك مفتوحاً. رافضاً وضع جدول زمني للانسحاب. وأصر بدلاً من ذلك على أن “الظروف على الأرض” ستملي اتخاذ أي قرار.
وبعد ذلك بعام. كلف ترامب زلماي خليل زاد الدبلوماسي الأمريكي الأفغاني المخضرم. بقيادة المفاوضات مع طالبان بهدف إنهاء الحرب.
وجرى استبعاد حكومة أفغانستان من المفاوضات. ما أدى إلى دق إسفين بين الولايات المتحدة والرئيس أشرف غني.
تم التوصل إلى اتفاق في فبراير 2020 حدد المسار لانسحاب أمريكي كامل مقابل وعود من طالبان بشأن تقليل العنف وقطع العلاقات مع الجماعات الإرهابية. دون وجود ضمانات لتنفيذ تلك الوعود..
مشاهد الفوضى التي رصدتها عدسات المصورين في المطار أو الشوارع. ليست وليدة الانسحاب ولكنها وليدة 20 عاما من الفشل الأمريكي في الملف الأفغاني.