تاريخيًا، كانت الكثير من الوقائع السياسية حدثًا مؤسِّسًا للتغيير في التوجهات العالمية والنظريات السياسية والأوضاع الاجتماعية. ما قبلها ليس كما بعدها. لكل فعل رد فعل، وكل واقعة (حكم) تشكلها عوامل وسياقات عدة؛ فيطفو ما كان مخبوءً إلى السطح وحينها يتبين جذر المسألة.
وعلى نفس المنوال، يعد ما حدث في أفغانستان مؤسِّسًا لما بعده، وتعبيرًا عن التغيرات المتلاحقة في عالم ما بعد الجائحة. من تسريع لمحركات التغيير وبلورة سياسات جديدة تعيد تعريف العلاقة مع الذات والآخرين فتعيد صياغة التوجهات.
انسحبت الولايات المتحدة من أرض الأفغان بلا تخطيط متوازن فبدا المشهد فوضويًا. عادت طالبان إلى الحكم فعادت الأسئلة الكبيرة لتُطرح، وأمسك الجميع ورقة وقلما ليحسب التأثير وتداعيات التغيير. وهذا التقرير محاولة لتأمل المسارات وقراءة الأسباب والأبعاد بشقوقها المحلية والإقليمية والعالمية.
طالبان: الخطاب والإدارة والبنية
مع وصول طالبان للحكم برز خطابها الهادئ الباحث عن توافق. حسب التصريحات المعلنة ونمط حكمهم السابق يبدو أن هناك تغيرًا كبيرًا. على سبيل المثال السماح للشيعة الهزارة بإقامة شعائرهم وحضور ممثلي الحركة في مجالسهم، والحديث عن حرية أكبر للمرأة. والسيطرة على الشمال حيث الثقل الأوزبكي والطاجيكي والتركماني، وهي مناطق لم تخضع لهم في فترة الحكم الأولى.
كان لافتاً أنّ سقوط هذه المناطق جاء سهلاً عبر متعاونين من هذه العرقيات، بعضهم منتمٍ للحركة، ولكن عددهم قليل. أما الآخرين فتعاونوا نتيجة فساد القيادات المحلية وعدم إدراك الحكومة الأفغانية جدية الانسحاب الأمريكي، بجانب الموارد المالية التي امتلكتها الحركة.
لكن هل تترجم التصريحات الإيجابية إلى واقع على الأرض؟ هذا محل شك لأنه، وبحسب الباحث في الشأن الأوراسي أحمد دهشان، طالبان ليست جسدا واحدا وهناك فارق بين القيادات والقواعد.
القومية البشتونية
يقول دهشان لـ “مصر 360” إنّ طالبان تعبير عن صلب القومية البشتونية التي حكمت تاريخيًا أفغانستان. وكانت في صراع دائم مع القوميات الأخرى. “الطاجيك مثلا لديهم حلم الأرض الكبرى الممتدة من كابول إلى طشقند، والأوزبك لديهم تصوراتهم القومية الخاصة. الآن الهيئة السياسية التي تشكل قوة ضاربة للبشتون هي طالبان، لذا من المهم فهم الحركة في هذا الإطار وعدم اختزالها في الجانب الديني فقط. فقدرتها على التمدد بهذه السرعة لم يكن ليحدث لو لم تكن بشتونية، بل ربما كونها بشتونية هو ما يمنحها قدرة أكبر من كونها دينية”.
يقول المثل البشتوني الشهير: سلام البشتون في الحرب. بمعنى أنه حتى في حالة السلام كانت الحرب دائما ما تنشب بين العشائر المختلفة داخلها. هنا السؤال الذي يجب أن يُطرح -والحديث على لسان دهشان- ما مدى قدرة القيادة العليا في طالبان على التعامل مع التيارات الداخلية والدينية والعشائرية وتحويل أقوالها إلى أفعال، وضبط مقاتليها وهو أمر ليس بالهيّن؟.
يطرح ما يحدث في ولاية بانجشير من حشد معارض بقيادة أحمد شاه مسعود الطاجيكي، عدة أسئلة. هل ستقدر طالبان على اجتذاب عرقيتي الطاجيك والأوزبك -أكبر عرقيتين بعد البشتون- إلى صفها بما يُضعف التحالف المضاد. وهل إيران مثلا لن تتدخل مستقبلا في شؤون أفغانستان وتترك الشيعة الهزارة لطالبان لتتعامل معهم على طريقتها؟
تعجّل كبير
يشير الباحث في التاريخ والعلاقات الدولية “افتراض أن طالبان ظهرت بثوب جديد يعبر عن المضمون فيه تعجل كبير. نعم قد تكون جادة في ذلك ولكنها في الواقع لا تملك كل القدرة على السيطرة على الأتباع على الأرض مع التناقضات القومية والعرقية. مما سيفجر الصراع حتميًا بعد نهاية نشوة النصر”.
ويوضح إبراهيم باحيس محلل الشأن الأفغاني في مجموعة الأزمات الدولية “ربما تلجأ الحركة لبعض التسويات. ولكنها لن تفعل ذلك حين يتعلق الأمر بالخطوط الحمراء لأيدولوجيتها (…) خطاب الحركة الحالي قد يكون على المدى القصير لاكتساب الشرعية الدولية، ومن ثم ستعود لفرض القيود. أو ربما تنجح بعض القيادات في إقناع الآخرين بأن هذه هي الطريقة المثالية لإدارة الأمور”.
اقرأ أيضًا|
- فرص الدور التركي المحتمل في أفغانستان
- “شبل بانشير”.. محاولات إحياء تحالف الشمال لمواجهة طالبان
- تأثير صعود طالبان على اتفاقية أبراهام
وفقا للدهشان، فإن طالبان بحاجة إلى منظومة حكم متماسكة، “ربما تكون أشبه بنظام ولاية الفقيه. مع مجلس حكم يجمع كل هذه الأطراف ويمنحها مكتسبات حقيقية. اعتقادي الشخصي أنه لو لم يكن هناك تفاهم كبير بينها وبين الولايات المتحدة، وتفاهم مع العرقيات الأخرى فحتمية الصراع موجودة بشكل كبير جدًا”.
وينقل تقرير لمجلة “فورين بوليسي” عن بعض المصادر، المقربة والمعارضة لطالبان، أن مجلسًا مكونًا من 12 فردا سيحكم البلاد قريبا. وقد كانت هناك محاولات لضم أحمد مسعود للمجلس، ولكنها تبدو غير مرجحة بالوقت الحالي، في ظل رفض الأخير.
ثوب جديد أم تكتيك لحظي؟
تظهر الحركة، كمن يتخلى عن نهجه الراديكالي ويتبنى نهجًا اعتداليًا، هذا سياسيًا. ماذا عن العقائدي، هل تقوم بمراجعة حقيقية لأفكارها؟ يجيب دهشان “المراجعة الحقيقية تعني اعتذارًا. لكنها لم تعتذر حتى الآن عما فعلته في الطاجيك والأوزبك والهزارة والقلة الباقية من السيخ والهندوس والبوذيين. لم تقدم نقدًا داخليًا عن تجربتها في الحكم، ولم تقدم مراجعة فكرية، أي أنها لم تقدم ما يدل على خطئها”.
يحمل أسلوب الحركة وجهتين إذن: الأولى أنه مجرد تكتيك للتعامل مع الوضع الحالي. والثانية أنها تغيرت بالفعل نظرًا للتوازنات الداخلية ولخشيتها من التفكك والنزاعات، ولذلك فهي تعبر عنه بسياسات على الأرض.
يلفت الباحث المقيم في روسيا إلى أنه عند وصول طالبان إلى الحكم في 1996 فعلت ما تفعله الآن. إذ أمّنت الناس وأوقفت زراعة المخدرات، وقالت إن البلد مفتوح للجميع وإنهم يريدون التعاون مع كل العالم. وقد منع الملا محمد عمر العادة الأفغانية القبيحة لزواج الأرملة من شقيق زوجها. “كان هناك فرح وتهليل من قبل الأفغان ببداية عهد جديد ونهاية أفغانستان المنقسمة. لكن فعليًا لم تنفذ طالبان ما قالته والبعض رجح حدوث ذلك لعدم تجاوب المجتمع الدولي معها والاعتراف بشرعيتها”.
عبد الحليم غزالي، مدير تحرير الأهرام والخبير في الشأن الأفغاني، فيعتقد أنه يصعب خروج طالبان من جحرها الجامد التاريخي، بتعبيره. ويتمثل ذلك في رفضهم الديمقراطية وإقرارهم بأنهم سيطبقون الشريعة. ويشير: “مشهد طي العلم الأفغاني في القصر الرئاسي، ورفع علم الإمارة الإسلامية يحمل رمزية كبيرة”.
بداية وليست النهاية
ويتابع حديثه لـ”مصر360“: “حاليًا لا توجد أطراف محلية مناوئة لطالبان بشكل حقيقي، وفي الظرف الحالي لن يستطيع أحد مواجهتهم. لكن رغم ذلك لم تنل الحركة الشرعية الراغبة فيها حتى الآن. وقد تكون تلك ورقة المساومة الطويلة التي سيستخدمها الأمريكان والأوروبيون. وصول طالبان ليس النهاية بل هو بداية أخرى للصراع الداخلي والإقليمي والدولي”.
هنا يشير محلل مجموعة الأزمات الدولية “قيادات طالبان خرجت إلى الأضواء. لم يعودوا في تمرد، وعليهم إدارة الحكومة. وسنرى إن كانت ستحدث انقسامات أم لا فقد تنبع من تصارع القيادات على الموارد والمناصب. الشيء الآخر أن طالبان حافظت على تماسكها لقدرتها على منح قيادتها على الأرض حرية اتخاذ القرار والتصرف. والآن مع وصولها للحكم سيكون عليها التعامل مع المسائل الحكومية من خلال سياسة موحدة قد تفتح باب الخلافات”.
التنظيمات الجهادية: العلاقة والتأثير
تتصدر علاقة طالبان بالتنظيمات الجهادية قائمة النقاشات، حول مدى تأثير وصولها للحكم على تلك الحركات المتشددة. وقد كان أحد بنود اتفاق السلام بين الولايات المتحدة والحركة ينص على عدم السماح بانطلاق هجمات إرهابية من أراضيها.
غزالي وهو مؤلف كتاب “طالبان: العمائم والمدافع والأفيون” وهو حصيلة رحلة ميدانية إلى أفغانستان عام 2000. يميل للقول بأن الحركة ليست على تماس مع الحركات الجهادية في العالم العربي. إذ لا يوجد إرث أيديولوجي وتاريخي، ولا يوجد أكثر من التعاطف المشاعري.
ويوضح: “أسامة بن لادن اعتبروه بطلاً؛ لأنه خلال القتال مع السوفييت حشد التمويل وعشرات الآلاف من المقاتلين العرب. وتبنيهم له كان جزءًا من رد الجميل، وهذه مشاعر قبلية أكثر منها دينية. عندما سألت أحد قيادات طالبان حينها لماذا لم تسلموا بن لادن قال إنهم إن فعلوا ذلك فسينقلب مقاتلوهم عليهم، وفي هذا إشارة إلى اختلاف القيادة عن المجموعات. طالبان ليست منظمة بالشكل الذي يتخيله البعض، وقد يؤدي ذلك إلى تناحرات داخلية بين أجنحتها مثلما حدث في عهد الملا اختر منصور”.
اقرأ أيضًا|
- عبد الغني برادر: مهندس سياسة طالبان ورئيس أفغانستان المحتمل
- هيبة الله زاده: سيرة “شبح” أعاد رسم خارطة أفغانستان
- كابول في قبضة طالبان.. كيف فشلت الاستراتيجية الأمريكية في أفغانستان؟
وفي حديثه مع “مصر 360” يقول مدير تحرير الأهرام: “طالبان تمثل نموذجًا فريدًا قائمًا على العلم الديني الحنفي بالمدارس الديوبندية. وقد شاهدت هذه المدارس خلال رحلتي، وهي مدارس منقطعة عن الحاضر وحتى الماضي القريب، والفقه الذي تستمد منه الحركة تعاليمها يعود إلى مئات السنين. ربما بالآونة الأخيرة شهدت محاولات لتطويرها فهي مدارس مستقلة لا تتبع الحكومة. لكن بالقطع طالبان الحالية ليس كالتي كانت، فإلى حد كبير أدركوا متغيرات العصر”.
مدارس ديوبند
نشأت الديوبندية تاريخيا في ظل ضعف سلطنة المغول الإسلامية المسيطرة على شبه القارة الهندية، وصعود الصفوية الشيعية، والحركات الهندوسية والسيخية وضغوط الاستعمار البريطاني. ومع الاحتلال البريطاني وإغلاق مدارس المسلمين القديمة برزت مدارس ديوبند كبديل. ومن ثم تمددت في باكستان بعد التقسيم، في ظل ظرف تاريخي ارتبط بالخوف من التمدد الشيوعي.
وبحسب دهشان، فإنَّ “مشروع طالبان ليس كونيًا وإنما محليًا، في قلبها بشتوني والأيدولوجيا الخارجية إسلامية تنتمي لطبيعة المجتمع. مشروعها على أقصى تقدير إقليمي خراساني”.
وينبه إلى أن “تبني طالبان للجماعات الجهادية ارتبط بظرف تاريخي لم يعترف فيه العالم بها وكانت محاصرة. وهنا ظهر بن لادن الذي يمتلك المليارات وتنظيمات جهادية تنفق عليها بعض الدول بسخاء، فكانت أقرب لعلاقة تبادل مصالح. الآن طالبان ليست بحاجة لهذا، فالتنظيمات الجهادية لا تملك أموالا كما في الماضي، ولم تعد أفغانستان حاضنتها الوحيدة”.
يدعونا ذلك للتساؤل: هل يحمل وصول الحركة تأثيرًا على الشأن المصري؟ يقول دهشان: “كل ما يعنيه نوعًا من الأمل لجماعات الإسلام السياسي من خلال الدعاية وضرب النموذج. لا يوجد ما تقدمه طالبان للحركات الإرهابية في مصر. الجهاديون الآن في سيناء وليبيا وأفريقيا، وهم على مقربة منا وليسوا في حاجة إلى أفغانستان البعيدة”.
الولايات المتحدة: انزواء أم احتواء؟
يجادل البعض أنه لا مجال للحديث عن “هزيمة” أميركية في أفغانستان، بل عن فشل في تحقيق الهدف الثانوي وهو بناء دولة حديثة. بعدما تحقق الهدف الأساسي في ضمان عدم تحول أفغانستان لنقطة انطلاق للهجوم على أميركا وحلفائها.
رفع الرئيس الأمريكي جو بايدن شعار “سياسة خارجية تتلاءم مع الطبقة الوسطى”. راعت السياسة الخارجية الأمريكية بشكل دائم مصالح النخب والمجمع الصناعي العسكري ولوبي النفط والغاز. أما الآن فيتبع بايدن نهجًا يناسب مصالح الطبقة الوسطى المتمثلة في عدم إرسال أبنائها في صراعات خارجية طويلة اختيارية. وتشير إحدى التحليلات إلى أن تلك الحروب الاختيارية ساهمت في صعود “الشعبوية غير الليبرالية” التي أدت لانتخاب دونالد ترامب.
يريد الشعب الأمريكي الأموال التي تنفق على قندهار أن تنفق على نيويورك وواشنطن وفيرجينيا. يشرح دهشان “الرؤية الآن أنهم نجحوا في القضاء على القاعدة وأعطوا درسًا لطالبان لعدم تبني تلك الجماعات مع تعهدات في الاتفاقية الموقعة بينهما. أما إن فشلت طالبان في الحكم ودخلت في صراع أهلي فحينها سيتحمل العبء الأكبر جيرانها. ووقتها ربما تُستدعى أمريكا للتدخل وستفرض شروطها. في الحالتين هي مستفيدة، وداخليا تعتقد الإدارة الأمريكية أنها ستفوز بأصوات الناخبين غير المهتمين بتنظيرات النخب السياسية”.
التعددية القطبية
لكن هل الانسحاب الأمريكي رسالة بأن المستقبل يحمل عالمًا متعدد الأقطاب لا تهيمن عليه قوة واحدة؟ “العالم كان ومازال لا يمكن حكمه من قوة واحدة. لم يحدث ذلك تاريخيًا سوى في لحظات محددة نتيجة ارتباك معين وقتي وظرفي سرعان ما ينتهي. فما بالنا بعالم اليوم الأكثر تعقيدًا واتصالاً وأزماتٍ ودولٍ”، يفند الباحث المصري المختص بالشأن الأوراسي.
ويتبع موضحًا لـ”مصر 360“: “نستطيع القول إننا كنا أمام لحظة الآحادية القطبية مع صدمة سقوط الاتحاد السوفييتي غير المتوقعة حتى للأمريكان أنفسهم رغم عملهم عليها. هذه اللحظة بدأت مع عام 1991 وانتهت 2001، بعدها بدأت تنهض قوى جديدة، فالصين برزت وروسيا استعادت بعضًا من عافيتها. وظهرت مراكز في آسيا وتشكّل نظام تعددي، لكنه لم يصل بعد إلى مرحلة تعدد الأقطاب. العالم الآن لم يعد آحادي القطبية بإدارة أمريكية منفردة إذ لم تعد تمتلك القرار والإرادة لتنفيذ كل ما تريده. وفي المقابل، فإن الآخرين ليست لديهم القدرة على إنشاء نظام بديل أو مواز للولايات المتحدة”.
الحسابات الإقليمية
تبدو كل من قطر وباكستان على رأس المستفيدين من وصول طالبان للحكم. فالأولى عززت موقعها كقوة وساطة محترفة وموثوقة والثانية تبدو سعيدة بالقضاء على النفوذ الهندي المناوئ. وهنا تظهر تركيا التي ستستفيد من علاقتها مع الثنائي في الوصول لتفاهمات مع طالبان والحصول على دعم من الناتو. الصين وروسيا أيضا توصلا لتفاهمات، أما إيران فرغم التفاهم الظاهر إلا أنها ربما تواجه عدة تحديات.
الخريطة الإقليمية المتشابكة حول طالبان قد تقوّض من حكمها مستقبلا، فرغم التفاهمات الحالية سعيا للقبول الدولي. إلا أنه “من غير المرجح أن تستمر طالبان في تلقي الدعم المستمر من القوى الإقليمية الأربع (باكستان وإيران وروسيا والصين). بالنظر إلى ديناميكيات المنافسة الإقليمية، ففي مرحلة ما سيرى واحد أو أكثر من جيرانها سببًا لمعارضة نظام طالبان”. وفقا لما ذكرته مجلة “فورين أفيرز”.
يقول دهشان: “أفغانستان محيطها كله ليس أكثر سعادة منها ولا يملكون ما يقدمونه بما فيهم روسيا. والصين الوحيدة القادرة على دعمها، وحتى يفعلوا ذلك لابد من أفغانستان مستقرة بما لا يعني بالضرورة التوافق مع الولايات المتحدة. وإنما عدم وجود حالة عداء مباشر معها، فحتى قدرة الصين على الاستثمار مرتبط بعلاقة طالبان بأمريكا. ونجاح الحركة في إدارة العلاقة معها”.
الاقتصاد والعقوبات
ينقلنا ذلك إلى التحليل الذي قدمه أنتوني كوردسمان، المستشار السابق لوزارتي الخارجية والدفاع الأمريكية خلال الحربين الأفغانية والعراقية، لمركز الدراسات الاستراتيجية والدولية. ويناقش فيه كيفية تعامل الولايات المتحدة مع نظام طالبان في ظل “نفوذها المحدود”. وطالب بالابتعاد عن نهج فرض العقوبات الاقتصادية الذي لم يثبت فعاليته مع الآخرين.
بل يشير إلى أن الأوضاع الاقتصادية المتهالكة (75% من ميزانيتها تعتمد على مساعدات خارجية ونصف الشعب من الفقراء). والصعوبات التي تواجهها طالبان ستجعلها تعلم سريعًا حاجتها للتجارة والاستثمار الخارجي، ودرجة معقولة من الاعتراف الدولي، ومساعدات كبيرة لمسايرة التحديات. “قد يمنح جهد الولايات المتحدة لدعم خطة المعونة نفوذًا كبيرًا لها، لا سيما إذا قدمت مثل هذه المساعدة في سياق دولي، دون أن تحاول فرض قيّمها. سيكون هذا مشروطا باستعداد طالبان لتقديم تنازلات في بعض المجالات”.
في المقابل، سيتعين على أمريكا أيضًا تقديم بعض التنازلات “المحرجة”. فوفقا لكوردسمان “دور المرأة هو مجرد واحد من هذه القضايا. من المرجح أن يكون مستقبل جميع الشباب وجميع الأفغان تقريبًا ممن لديهم تعليم علماني حديث صعبًا بغض النظر عن الجنس. ومع ذلك، تحتاج الولايات المتحدة إلى الواقعية وقبول بعض هذه التنازلات. كما تحتاج لإيجاد أفضل طريقة لممارسة درجة معينة من النفوذ بطرق تحمي الشعب الأفغاني وتقود طالبان إلى التطور”.
رسائل سلبية للحلفاء وتعزيز التطبيع
يُظهِر الانسحاب الأمريكي للحلفاء والشركاء الإقليميين أنها شريك وقوة عظمى غير موثوق بها وتتخلى بسهولة عن حلفائها. وفي هذا الاتجاه دفعٌ صوب تعزيز العلاقات العربية الإسرائيلية. لذا يبدو مهمًا فهم الهندسة السياسية والأمنية للاتفاقات الإبراهيمية.
ويقدم دهشان رؤية تحليلية “الاتفاقات الإبراهيمية ليست من أجل الاقتصاد أو إيران أو السلام. وإنما تحمل تصورا أشمل تتبناه الإمارات وتعتقد فيه أن الانسحاب الأمريكي الحتمي من المنطقة يوجب الاعتماد على النفس في منظومة أمنية اقتصادية اجتماعية وجيوسياسية حتى تحمي نفسها. هذه المنطقة فيها إسرائيل، فإما أن تتجاهل الواقع فتجد مستقبلا أكثر من إسرائيل -كتعبير عن بؤر حاكمة مثل تركيا وإيران-. أو أن تتعامل مع الواقع المتمثل في مكانها الجغرافي الذي يُفشل أي منظومة أمن”.
ويواصل: “في الوقت نفسه هذا البلد متطور ولديه علاقات جيدة مع الشرق والغرب، فروسيا والصين والولايات المتحدة يتفقون على ضرورة وجوده. إذن دعنا -نحن كدول مطبعة- نتعاون معهم في المخاطر المشتركة في مواجهة تركيا وإيران والفراغ الأمريكي ونستفيد اقتصاديا وتكنولوجيا. وبناء على ما سبق ترى الإمارات أن عليها أن تخطو هذه الخطوة التي لا يستطيع عليها الآخرون نتيجة الصراع التاريخي كما في مصر مثلا أو التوازنات الداخلية كما في السعودية”.
هذا النهج -وفقا للدول المطبعة- يرى أن السلام سيتحقق في نهاية المطاف مع الفلسطينيين؛ لأن إسرائيل ستجد نفسها إما مجبرة على أن تكون دولة واحدة تفقد طابعها القومي. أو تتحول لنظام فصل عنصري لا يريده النظام العالمي الذي لم يسمح به في جنوب إفريقيا في ظل حرب باردة. أو ستتجه إلى حل الدولتين مجبرةً؛ بسبب أن عامل الديمغرافيا في صالح العرب.
يؤكد الباحث في التاريخ والعلاقات الدولية “الانسحاب الأخير من أفغانستان سيعزز بشكل كبير من فرضية الإمارات ومنظومة التعاون الأمني التي في قلبها إسرائيل؛ خوفا من الفوضى والتغيرات السريعة. وسيسهم هذا في التقريب بين بعض الأنظمة العربية وإسرائيل حتى وإن لم يكن تطبيعا رسميا”.
مستقبل الصراع
“المأزق الحالي لطالبان في عملية التغيير التي تجريها وتساعدها عليها الولايات المتحدة أنها قصيرة الأجل ولن تعيش طويلاً. والشاهد على ذلك أن الراغبين في الرحيل وتسمح لهم الولايات المتحدة وطالبان بذلك هم من المعارضين لحكم الأخيرة. ما يعني تصفية المعارضة وكذلك الكوادر”، يقول عبد الحليم غزالي الخبير بالشأن الأفغاني لـ”مصر 360“.
وكان ذبيح الله مجاهد، المتحدث باسم طالبان، قد طالب الولايات المتحدة والدول الغربية بالكف عن تشجيع الأفغان على مغادرة بلادهم. ونصح الراغبين في الهجرة بالبقاء في بلدهم وعدم الخوف من أي ملاحقات.
ويميل غزالي إلى أن التباينات العرقية المختلفة ستفجر الصراع مستقبلاً “عندما تلعب سياسة وأنت قادم من منطقة جمود فكري ديني فمن الصعب قبول الآخر. تاريخيا الطاجيك والأوزبك في صراع دائم مع البشتون”.
ولكن الصورة ليست بتلك الضبابية، فخلال العشرين عامًا الماضية “حدث حراك وظهرت أجيال جديدة تريد انفتاحًا وديمقراطية. وأولئك هم الخطر الحقيقي على طالبان. في جلال آباد مثلا، وهي إحدى مدن البشتون، تحركت مظاهرات تندد بحكم الحركة ورفعت علم الدولة وسقط فيها قتلى. هناك أجيال جديدة قادرة على التمرد والثورة”.
يقدّر مكتب الإحصاء الأمريكي أن 41% من سكان أفغانستان تقل أعمارهم عن 14 عامًا. ولديهم تعليم أفضل لكلا الجنسين وسوف يسعون إلى مستويات معيشية أفضل بكثير. كما تضاعف عدد سكانها في المدن تقريبا بين عامي 2000 و2021.
“طالبان” باتت إذا فأرًا في مصيدة السلطة، بتعبير غزالي، وستتعرض لاختبارات حقيقية. فإن حاولت المواءمة مع الشروط الغربية ربما تفقد بعضا من شرعيتها المرتبطة بأفراد المجتمع المحافظ. ويواصل “أفغانستان للأسف لم تعرف السلام منذ العهد الملكي وقد كانت تاريخيا بؤرة صراع دائمة، وأظن أنها ستظل كذلك”.
“طالبان” في هذه اللحظة أنجزت مهمتها، ولكن هناك سبب وجيه للاعتقاد بأن 40 عامًا من الحرب الأهلية والصدمات في أفغانستان ربما لم تنته -بتعبير “فورين أفيرز”. بطريقة أو بأخرى، من المرجح أن تجد الحركة حكم أفغانستان أصعب بكثير من احتلالها.