أعلم جيدا أن القوة الشرائية تكون في المعاملات الاقتصادية، وعلى الأخص يُطلق هذا المصطلح على المعاملات النقدية، وذلك لتحديد قيمة النقود في الأسواق، من حيث مدى مقدرتها على تحقيق أكبر قدر من الشراء، وكلما زاد ذلك زادت قوتها الاقتصادية. إلا أنني لم أجد أفضل من هذا التشبيه لبداية الحديث عن ما جرى بالأمس في قسم المنتزه من تعدي أحد ضباط القسم ومرافقيه من القوة النظامية على أحد الأساتذة المحامين أثناء قيامه بمهام عمله داخل القسم، وذلك على إثر شجار لفظي، أو بالأحرى إهانة من الضابط للمحامي، والتي لم يقف لها المحامي ساكتا محاولا وقف التعدي أو الإهانة، إلا أنه فوجئ بتعدي الضابط عليه بكعب طبنجته الميري، والاستعانة بمعاونيه من الأمناء والجنود، الذين قاموا بما لا يمكن وصفه من تعد على المحامي، وهو ما أدى به إلى نزيف في المخ، بخلاف ما به من آثار أخرى للمعركة.
وقد اخترت هذا العنوان كتعبير عن مدى احترام رجال القانون والعاملين على تنفيذه لما يوجبه القانون من أحكام، ولن أطنطن لغوا بما جاء بالدستور من حصانة لفظية للمحامين أثناء قيامهم بأعمالهم، وأن ذلك هو الأساس الذي يجب أن يسود العلاقة بين المحامين وبين الضباط في أقسام البوليس، ولكن ما يدفع للدهشة هو سرعة تصاعد الأمر من الضابط الذي لم يرض بأن يبادله المحامي الحديث، أو يكون له ند أو أن تكون هناك وقفة للتعامل غير القانوني، فعاجله ضربا بطبنجته، ثم بفاصل متنوع من التعدي كاد أن يودي بحياة المحامي، إذ لم يكن الأمر يستحق هذا التطور السريع والتصاعد غير المفهوم، لكون أساس الواقعة بحسب ما تداوله المحامون بالإسكندرية هو خلاف قانوني على شقة سكنية تخص إحدى أقارب المحامي، أو حتى ولو كانت إحدى موكلاته، وحضر الطرف الثاني من الواقعة، ثم تصاعد النقاش بين الضابط والمحامي على احتجاز الشاكية على إثر تقدم الطرف الثاني ببلاغ ضدها في ذات التوقيت.
فهل في هذه الواقعة على الرغم من تكرارها يوميا في معظم أقسام الشرطة ما كان يستوجب أن يقوم الضابط بالتعدي على المحامي، وما السبب الذي يجعله يغامر بفعل ذلك التعدي، حتى ولو كان مع آحاد الناس.
أعلم جيدا أن الأمر تصاعد بشكل يتناسب مع حجم التعدي، إلى أن وصل إلى مكتب وزير الداخلية، بعد مروره على مكتب مدير الأمن. وعلى الصعيد الآخر وصل إلى مكتب نقيب محامي مصر، أيضا بعد أن وصل إلى نقيب محامي الإسكندرية، وأعلم أيضا أن النيابة العامة تقوم بدورها القانوني منذ الأمس مصاحبة لعلمها بالواقعة ممثلة في المحامي العام للإسكندرية، ومن يترأسهم من رؤساء النيابة، وعلى الرغم من كون اليوم إجازة رسمية، إلا أن التحقيقات مستمرة، وتم التحفظ على الضابط المتهم، ويتم التحقيق مع نائب الأمور الذي كان متواجدا وقت وقوع الجريمة.
إلا أن ما يدفعني للكتابة هو عنوان هذا المقال، بمعنى مدى احترام العاملين بالقانون والعاملين المطلوب منهم العمل على إنفاذه كوسيلة لتحقيق العدل والحق والإنصاف بخرقه بكل هذا العنف، وما القوة التي ارتكن إليها وهدته على القيام بتلك الفعلة التي تشين جبين العدالة بكل فروع القائمين عليها، فهل خيلت له نفسه أنه بسلطته يعلو على الآخرين؟ أو بالمعنى المباشر أنه فوق القانون؟ أو أن القواعد القانونية كما ذكر أمل دنقل بقوله “أن القوانين تُسن من أجل أن تخرق”. ومن زاوية جانبية ألم يدر بتفكيره أن هذه الفعلة لن يتم اكتشافها، أو أنه قد اعتاد على ذلك، وأن تلك السلطة تمنح العاملين بموجبها صلاحيات تعلو على المواطنين الفقراء؟
كل هذه الأسئلة وغيرها تدور في رأسي، وتدفعني بالتالي إلى وضع السؤال الرئيسي: ما هي قيمة القانون بين العاملين على تنفيذه؟
فإن كانت تلك بضاعتهم، فمال الحال على الدوام؟ وما هي الأفعال التي لم يتم اكتشافها وتمت وانقضت تحت مسميات كثيرة؟ وهل نحن في حاجة إلى تغيير القواعد القانونية، والعمل على إرساء قواعد جديدة تحافظ للناس على إنسانيتهم حال تعاملهم بموجب القانون؟ أم أن الأمر لا يعدو مخالفات تمت وتتم من بعض العاملين على إنفاذ القانون؟
لكننا لدينا من القواعد القانونية ما يكفي ويفيض حال تطبيقه بحيادية على الجميع، وذلك ما يتفق ووصف القانون ذاته، إذن يتبقى الموظفون العاملون على إنفاذه، فهم المسؤولون عنه وعن تطبيقه وإعماله على الكافة، وهم الواجهة التي تعبر عن مدى احترامنا للقانون، وهو ما يعبر عنه بسيادة القانون، والتي من الأوجب أن تكون الدولة بموظفيها هم المثال الحي أو القدوة في تفعيل ذلك المبدأ، حيث أنهم بتصرفاتهم تلك يعبرون عن حال القانون وحال سيادته وعن قوته وقيمته بينهم وبين المتعاملين معهم، أو أولئك الذين يسعون على الحصول على حماية القانون من عسف الغير، فم بالهم حال أن يكون الشخص المطلوب منه حمايتهم هو الذي يبدأ بخرق القانون، ويبدأ ذلك معهم أنفسهم.
هناك ضرر مجتمعي كبير يضر بالعلاقة بين الناس وبين ممثلي السلطة، لا ينتج عنه سوى خرق لكل معاني الثقة في أن يكونوا هم حارسيهم، وهم سندهم ضد أي خرق.
وإن كان الأمر ليس بجديد على الساحة الشرطية المصرية، إذ ما بين الحين والحين يجد حادث أليم مثل ما نتحدث عنه الآن، وتعاود الأقلام والأفواه تكرار مقولة أنها حادثة فردية لا تعبر عن نمط سلوكي عام في الجهاز الشرطي، ولكني مع كل حالة أتسأل أليس لتلك الحالات الفردية من نهاية، أليس للقانون قيمة بين العاملين به؟ ألسنا دولة قانون ولدينا دستور يدعو إلى سيادة أحكام القانون وعلو مبادئه.
أرى أن الأمر لا يجب السكوت عليه من الدولة ذاتها، إذ يجب على القيادات العليا التصدي بجد لتلك الأفعال المتكررة ما يظهر منها وما لا نعلم عنه شيئا ويمر دون ردع، وإذ أنني أرى أن هناك توجها في التشريعات العقابية في الفترة الأخيرة نحو التشدد في العقوبات كأسلوب للردع العام، وإن كنت ممن يطالبون بتغيير تلك النظرة العقابية، إلا أنني أدعو الجميع للوقوف على تداعيات هذه الظاهرة المخيفة والخطيرة على أروقة الدولة وعلاقتها بالمواطنين، وخصوصا في مدى تعبيرها عن احترام القانون والعمل على إنفاذه.