برحيل المرجع الشيعي، العراقي السيد محمد سعيد الحكيم، أمس، تفقد الحوزة العلمية في النجف، ركنا من أركانها المؤثرين، سواء على مستوى الدرس العلمي الحوزوي، أو على المستوى السياسي، باعتبار التداخل الكبير بين الجانبين، عند المقلدين من الطائفة الشيعية.. وبينما أعلنت الحكومة العراقية “السبت” حداد عاما، احتشدت الآلاف في العتبة الحسينية بكربلاء لوداع الحكيم، قبل أن ينقل جثمانه ليوارى الثرى في مدينة النجف.. وسط ردود أفعال واسعة، وبيانات تعاز من ملوك ورؤساء وأمراء عرب، وشخصيات دولية وديبلوماسية ودينية من مختلف أنحاء العالم.
ردود الفعل الواسعة على وفاة الحكيم. تشير إلى المكانة الكبيرة، وحجم التأثير الذي شغله جل خلال العقود الماضية، كما تذكر بمواقفه خلال عهد الرئيس الأسبق صدام حسين.
اعتقل الحكيم لنحو 8 سنوات، تعرض خلالها لتعذيب بشع وإيذاء متواصل.
ينتمي السيد محمد سعيد الطباطبائي الحكيم إلى أسرة علمية وسياسية عريقة وكبيرة. ومن أبرز وجوهها، السيد محسن الحكيم، المرجع الديني الأعلى بين عامي 1960 و1970.. وأيضا، السيد محمد مهدي الحكيم، ومحمد باقر الحكيم، وعبد العزيز الحكيم، ومحمد تقي الحكيم/ وغيرهم. وقد أعدم صدام حسين 6 من رموز آل الحكيم، واعتقل العشرات من علمائهم.
مواجهة مع صدام
وقد فرض النظام البعثي الحاكم في العراق منع السفر على المرجع الراحل، منذ عام 1968. وظل ممنوعا من السفر حتى سقوط حكم صدام حسين عام 2003، باستثاء السماح له بالحج عام عام 1974.
ويُرجع مؤرخو حوزة النجف سبب اعتقال الحكيم، إلى موقفه وأسرته من دعوة صدام حسين إلى عقد مؤتمر لـ(علماء المسلمين) في بغداد يحضره علماء من داخل العراق وخارجه سماه (المؤتمر الإسلامي الشعبي). لإظهار دعم علماء المسلمين له من جهة. وليكون ذريعة لتجنيد المزيد من العراقيين إلى جبهات القتال ضد إيران تحت مسميات الجيش الشعبي والمتطوعين، من جهة أخرى.
ومارس صدام ضغوطا كبيرة على الحوزة العلمية عموما، وأسرة الحكيم على وجه الخصوص للمشاركة في المؤتمر. لإظهار مخالفة الأُسرة لموقف السيد محمد باقر الحكيم في معارضته للنظام، وتسربّت أنباء عن عزم صدام تكليف رئاسة المؤتمر إلى أحد العلماء من آل الحكيم، فأرسل مبعوثا أمنيا خاصا لقيادات الأسرة، لإبلاغهم بإصرار رئيس الجمهورية على مشاركتهم في المؤتمر المنتظر، وأن الرفض سيعتبر معاداة وخيانة للرئيس وللدولة، إلاّ انّ السيد محمد رضا الحكيم أبلغ المبعوث رفض الأُسرة الحضور مهما كانت الظروف والضغوط.. وبعد انتهاء فعاليات المؤتمر بأيام، أصدر صدام أمرا باعتقال الأُسرة، وقد كان المرجع الراحل، ووالده آية الله محمد علي الحكيم، وكل إخوته وأولاده ضمن المعتقلين.
رحلة علمية مطولة
ترسخت المكانة الدينية والعلمية للمرجع الراحل، من خلال رحلته الطويلة مع التأليف في الفقه وأصوله. ومن أهم تلك المؤلفات، “المحكم في أصول الفقه” وهو دورة كاملة في علم الأصول، تقع في 6 مجلدات.. وله أيضا، مصباح المنهاج، وهو استدلال موسع على رسالة جده المرجع الأعلى محسن الحكيم المعنونة بـ”منهاج الصالحين”، وقد أكمل منها المرجع الراحل 15 مجلدا، كتب معظمها أثناء فترة اعتقاله، وهو بعيد عن مكتبته ومراجعه.. كما وضع حاشية موسعة على رسائل الشيخ الأنصاري، في 5 أجزاء.. وله غير ذلك عشرات الحواشي والتقريرات والفتاوى والرسائل.
بدأت الرحلة العلمية للحكيم مبكرا، على يد والده، محمد علي الحكيم، حيث أخذ عنه أوائل المقدمات، في اللغة والنحو والمنطق والبلاغة والفقه والأصول، إلى أن انتهى من مرحلة السطوح العالية، وهي مرحلة متقدمة في الدراسة الحوزوية، وبالطبع، أخذ من دروس جده المرجع محسن الحكيم.. كما تتلمذ الراحل لآية الله العظمى، العلامة حسين الحلي، وكان له أبرز الأثر في تكوينه العلمي.
ولا شك أن الدور السياسي تضافر مع المرتبة العلمية والأسرية للرجل. لترسيخ مرجعيته، واتساع أتباعه من المذهب الإمامي الاثني عشري في جميع أنحاء العالم. لاسيما في معاقل الشيعة بالعراق، وإيران، التي أعلنت حوزتها في قم حدادا عاما لوفاة الحكيم. كما أن النشاط الدعوي للرجل امتد إلى مختلف أرجاء العالم. من خلال الارتباط بالمراكز والمؤسسات الإسلامية الشيعية في أمريكا وأوروبا عن طريق الاتصال المباشر وتغذيتها بالمؤلفات. والإجابة على الأسئلة المتنوّعة التي ترد من المستفتين هناك، وكذلك إصدار بيانات توجيهية وتفعيل بعض أنشطة هذه المراكز، لدعم الجاليات الشيعية في الغرب. كما واجه بآرائه واتصالاته اعتداءات طالبان على مساجد الشيعة في أفغانستان، خلال السيطرة الأولى للحركة على معظم الأراضي الأفغانية.
ولد محمد سعيد الطبطابائي الحكيم في فبراير 1936، بمدينة النجف الأشرف جنوب العراق، ومن خلال رحلة علمية وسياسية تكرست مكانته، حتى صار أحد أكبر المراجع الدينية بحوزة النجف.. وبرحيله اليوم عن 85 عاما، تفقد الحوزة أحد أهم أركانها المتبوعين.