“بين الحياة والموت” ترقد (شيرين.م.ع) على فراش بغرفة العناية المركزة في مستشفى حكومي. تلتقط أنفاسها بواسطة جهاز التنفس الصناعي وتعاني من كسور بالحوض ونزيف بمجرى البول وكسور بالعمود الفقري، واشتباه بنزيف في البطن وكسر بالقدم اليسرى. ولا يعرف الأطباء مصيرها فالعناية الإلهية وحدها كفيلة بإنقاذ حياتها.
سقطت شيرين من الطابق الخامس، ضحية لأسرة تعمل لديها في الخدمة المنزلية، بعد اتهامها بسرقة مبلغ 35 ألف جنيه. وكانت آخر كلمات نطقت بها فور سقوطها: “خلوا بالكم من بنتي.. ضربوني وسرقوني” حسب أقوال حارس العقار الذي كان متواجدا لحظة سقوطها.
وقال الغفير في التحقيقات إنه سمع صوت صرخات واستغاثه لكنه لم يميز الصوت وفجأة سمع صوت اصطدام شيء صلب بالأرض.
تعمل شيرين البالغة من العمر، 20 عاما، لدى أسرة ميسورة الحال بحي البساتين منذ ثلاثة أشهر، كعاملة منزلية. وفق تصريحات عمها “بديع.ع” لمصر360، موضحا أن الحادث وقع في التاسعة والنصف صباحا، وقام الجيران بطلب الإسعاف للمجني عليها والشرطة نظرا لوجود شبهة جنائية بعد سماع استغاثة.
حالة حرجة
واعترف الجناة في محضر الشرطة، بأنهم هددوها بقيام السائق باغتصابها بعد الاعتداء عليها بالضرب. مما دفعها لإلقاء نفسها من الشرفة. في الوقت الذي صرح محمد محمد طلعت طبيب الطوارئ بأن حالة شيرين لن تسمح باستجوابها، فهي في حالة حرجة.
وقال المحامي علي عطية، إن المتهمين أقروا أمام جهات التحقيق باشتراكهم في واقعة التعدي على المجني عليها شيرين وتعذيبها. بعد ادعائهم سرقة المجني عليها مبلغا ماليا من المنزل منذ فترة وعدم تحرير محضر رغم ذلك.
وتقدم المحامي علي عاطف عطية وكيلا عن م. ع، بالاستئناف على قرار جهات التحقيق بإخلاء سبيل متهمتين في واقعة تعذيب ابنة موكله شيرين وإلقائها من الطابق الخامس. والمتهم فيها توفيق.ح.ح، وبهاء.ع، وأميرة.ز، وسلمى. ت، حيث خططوا لتنفيذ الجريمة.
وأوضح عطية أن المتهمين اشتركوا في الخطة التي أعدها المتهم الأول لجلب المجني عليها، للعمل لديه في المنزل. لكن قاموا بالتعدي عليها بالتعذيب، ونظرا لحالتها الصحية المتدهورة. وبنسبة كبيرة قد تفارق الحياة، فإن المتهمين مطمئنون لعدم سماع المجني عليها حتى الآن.
وقال (م.ع) والد المجني عليها إن محامي الجناة طلب منهم التنازل عن القضية والمصالحة في مقابل 3 ملايين جنيه. موضحا أنه لم يوافق على هذا مطلقا لأنه لن يتنازل عن حق ابنته القانوني ونيل الجناة عقابهم.
حقائق وأرقام
ووفق تقديرات منظمة العمل الدولية يصل عدد عمال المنازل إلى 53 مليون شخص على مستوى العالم. تشكل النساء منهم 83%، وفي الشرق الأوسط وشمال أفريقيا يوجد 2.1 مليون عامل منزلي.
تفتح أحداث هذه القضية البشعة ملف عاملات المنازل في مصر –وعددهن غير محدد بأرقام رسمية- اللاتي لا يتمتعن بأي مظلة تشريعية تحميهن وتضمن لهن حقوقهن. حيث استُبعدن من قانون العمل المصري رقم 12 لسنة 2003، والذي تنصّ مادته الرابعة على أنه “لا تسري أحكام هذا القانون على العاملين بأجهزة الدولة. بما في ذلك وحدات الإدارة المحلية والهيئات العامة، وعمال الخدمة المنزلية ومن في حكمهم، أوفراد أسرة صاحب العمل الذين يعولهم فعلاً، ما لم يرد نص على خلاف ذلك”.
وعاملات المنازل ومن في حكمهم، هم العمال الذين يقدمون خدمات خاصة في المنازل ويخصصون لأعمال تتصل بشخص صاحب العمل أو بأشخاص ذويه، كالطباخين والمربيات والمرضعات.
وحرصا على حقوق هذه الفئة اقترحت الدكتورة مايا مرسي، رئيسة المجلس القومي للمرأة عام 2018. ضرورة إصدار تشريع يحمي حقوق العمالة المنزلية، والمشروع لا زال قيد الدراسة.
تاريخ من الحرمان
وتقول منى عزت الباحثة النسوية إن استثناء عاملات المنازل من مظلة القوانين ليس أمراً مستحدثاً. فقد نصّ قانون عقد العمل الفردي رقم 41 لسنة 1944، ومن بعده المرسوم بالقانون رقم 317 لسنة 1952 على نفس الاستثناء. موضحة أن المذكرة الإيضاحية للمرسوم بررت ذلك بقولها إن “عمل الخدم ذو صلة بمخدوميهم ما يمكنهم من الاطلاع على أسرارهم وشؤونهم الخاصة الأمر الذي يتطلب وضع قانون خاص بهم”.
وتضيف عزت “مازال مسلسل ظلم عاملات المنازل مستمرا وبرغم مرور أكثر من نصف قرن على المرسوم المشار إليه. لم يصدر المشرع حتى الآن أي قانون ينظم شؤون هذه الفئة من العمال”.
وخلف حرمان عاملات المنازل من حقوقهن يقف الباشوات قبل قيام ثورة يوليو 1952. وكما أوضحت عزت كانوا يستقدمون العمالة المنزلية من الريف ويخشون الرقابة على بيوتهم أو دخولها. وللأسف استجاب عبد الرزاق السنهوري باشا، الذي شغل منصب رئيس مجلس الدولة من عام 1949 حتى 1954. لرغبة الباشوات خوفاً من إيجاد آلية للرقابة عليهم وهم أرباب العمل، ورصد الانتهاكات التي تتعرض لها العاملات.
خروج عاملات المنازل من تحت مظلة قانون العمل أدى إلى حرمان عاملات المنازل من حقوق كثيرة. أهمها الحق في التقاعد بسن الستين، الأجر العادل، التعاقد الذي تتحدد فيه ساعات ومهام العمل وتوفير شروط السلامة والصحة المهنية من خلال التفتيش على المنازل.
حقوق ضائعة
إضافة لذلك، تتحمل العاملة إصابات العمل على اختلافها، وهذا يكلفها أكثر مما تتقاضى. وينطبق ذلك الحال على المصابات بفيروس كورونا، وعدد كبير منهن فقد عمله، أو يعمل تحت خطر التقاط العدوى.
استطاعت 300 عاملة منزلية عام 2012 تنظيم أنفسهن بمساعدة “الجمعية المصرية للنهوض بالمشاركة المجتمعية”. فأسسن أول نقابة مستقلة لعاملات المنازل بمصر، لكنها لم تستمر لوقت طويل لصعوبة التنظيم.
وعملت مؤسسات المجتمع المدني الناشطة في مجال حقوق المرأة على الدفاع عن حقوق عاملات المنازل لأكثر من 10 سنوات. ونفذت الجمعية المصرية للحقوق الاقتصادية والاجتماعية مشروع “حقي وحقك” بين العامين 2012 و2015. استهدف تحسين الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والنفسية لعاملات المنازل، ودرّبت 500 عاملة من القاهرة الكبرى في مهن متخصصة، مثل رعاية الأطفال ورعاية المسنين والطبخ، لتمكينهن من الحصول على فرص عمل أفضل.
“للأسف مرت 10 سنوات دون تغيير”، قالت زينب خير، عضو الجمعية المصرية للحقوق الاقتصادية والاجتماعية. بعد عمل استمر 10 سنوات لوضعها على طاولة المسؤولين، لكن مازال القانون بلا تعديل يضمن حقوقهن فازدادت معناتهن وأحوالهن سوءاً، في غياب واضح لأبسط حقوقهن الإنسانية.
وتوضح خير أن عاملات المنازل يسهل استغلالهن بشكل كبير، سواء من أصحاب العمل أو من مكاتب التخديم التي تعمل بشكل غير قانوني. “لذا نعمل على الضغط من أجل تعديل تشريعي لإلغاء استثناء عاملات المنازل من قانون العمل”.