-الخوف من الديمقراطية وارد، فعيوبها كثيرة ومشاكلها عديدة، يمكن حصرها وتفهمها واستيعابها. لكن المشكلة ليست في الخوف منها، فلسنا أول من يخاف منها، وكذلك ليست المشكلة في عيوبها، فلسنا أول من يواجه عيوبها.
– إنما المشكلة تكمن أساسا في استخدام الخوف من الديمقراطية، وكذلك استخدام عيوب الديمقراطية، أداتين فعالتين، لتبرير التنكر لها وإدانتها والانقلاب عليها وتحميلها مسؤولية ما ارتكبت ومالم تركب، ثم الذهاب بعد ذلك في الطريق الآخر وفي الاتجاه المعاكس حيث تزيين الديكتاتورية وتجميل الاستبداد وتبرير حكم الفرد وتمرير هيمنة الأقلية وتسويغ الحكم بالحديد والنار.
– الخوف من الديمقراطية ومن عيوبها يبرر الاحتياط لها والتدرج فيها وتنميتها على مراحل والتدرج في تطبيقها وأخذ الاحتياطات الكافية التي تحول دون انزلاقها إلى مراتع الفوضى والتشظي والانقسام التي تضعف قوة الدولة وتنال من تماسك المجتمع وتضر بأمن الأفراد وتؤثر بالسلب على مجمل المصالح الوطنية.
– الخوف من الديمقراطية لا يبرر اعتماد الديكتاتورية مشروعا سياسيا باعتبارها الضامن لهيبة الدولة وسبيلها الوحيد للحفاظ على تماسك الأمة ووحدتها وسلامة ترابها الوطني وحماية الاستقرار الداخلي وصيانة المصالح الوطنية في الإقليم والعالم.
– قادة الثورة الأمريكية الذين خاضوا -بنجاح- حرب الاستقلال الوطني عن الاستعمار البريطاني في الربع الأخير من القرن الثامن عشر كانت لهم مخاوفهم من الديمقراطية، فقد كانت عندهم، مثلما هي عند كثيرين غيرهم، أقصر الطرق إلى الفوضى ثم الانقسام ثم ضعف السلطة ثم سقوط هيبة القانون ثم الإضرار بأمن الاشخاص وممتلكاتهم.
كان الخوف من الديمقراطية، مثله مثل الخوف من الديكتاتورية، حاضرا بقوة في أذهانهم وأفكارهم، وهم يؤسسون ثاني ديمقراطية ليبرالية في التاريخ كله بعد ديمقراطية أثينا في القرن الخامس قبل الميلاد، كذلك وهم يؤسسون أول وأنجح ديمقراطية ليبرالية في التاريخ الحديث إذ سبقت الثورة الفرنسية والجمهورية الفرنسية بعدة سنوات، كانوا على وعي أنهم يؤسسون جمهورية وليس ديمقراطية، جمهورية تضمن عدم تركيز السلطة في يد فرد واحد ولا في يد أقلية من الموالين للحاكم الفرد، وإنما يتم توزيعها -بتوازن- بين رئيس له السلطة التنفيذية، ومجلس نواب له سلطة التشريع والرقابة، وقضاء غير منتخب لكن له الكلمة العليا في أي نزاع بين السلطتين التشريعية والتنفيذية.
هذا الخوف من الديمقراطية التي كانت عندهم تعني الفوضى وارتفاع صوت الدهماء والرعاع -بمثلما حدث في الثورة الإنجليزية الأولى في أربعينيات القرن السابع عشر- وكذلك الخوف من الاستبداد الذي كان حتى ذلك الحين هو الأصل في الملكيات الأوروبية باستثناء الملكية الإنجليزية، هذان النوعان من الخوف ترى أثرهما واضحا في التوازن الدقيق الذي تجلى في المناقشات التي سبقت صياغة الدستور، ثم في الدستور، ثم في شرعة الحقوق التي أعقبت الدستور بعامين، ثم في بناء نظام مؤسسات الحكم، وقد استغرقت هذه العملية ما يقرب من مائة وخمسين عاما، فالمواد الليبرالية الديمقراطية الأمريكية مكتملة منذ اللحظة الأولى، إنما ولدت ناقصة ثم أخذت تكتمل بالتدريج وعلى مراحل زمنية ممتدة بحسبما يستطيع الشعب الاستيعاب وبقدر ما تستطيع الدولة التحمل، ولهذا وذاك نمت التجربة وتطورت بما وصل بها إلى ذروة النضج والاكتمال.
لو اعتبرنا ديمقراطية أثينا هي التجربة الأولى، ثم الديمقراطية الأمريكية هي التجربة الثانية، بالمعنى الحديث للديمقراطية، فإن التشابه بينهما كبير: فكلتاهما -الأثينية ثم الأمريكية – جعلت حق التصويت حكرا على الذكور البالغين ذوي الأملاك فقط، ومن ثم حرمان النساء سواء كن فقراء أو أغنياء، كما تم حرمان الرجال الفقراء، وبالطبع تم حرمان العبيد.
لقد استغرقت الديمقراطية الأمريكية قريبا من قرن ونصف حتى تخرج من العباءة اليونانية القديمة وتنسج عباءتها الخاصة وملامحها الخاصة.
ففي بدايتها كان مجلس النواب فقط بالانتخاب المباشر من المواطنين، بينما كان مجلس الشيوخ منتخبا من عدد محدود جدا من ممثلي الولايات، وكذلك كان رئيس الجمهورية، وبالتدريج تم إلغاء شرط الملكية على التصويت، ثم تم إلغاء الرق، ثم أصبح انتخاب الشيوخ والرئيس بالتصويت المباشر، ثم حصلت المرأة على التصويت، ثم حصل المواطنون السود من أصول أفريقية على حقوقهم في الستينات من القرن العشرين.
أي تطبيق للديمقراطية، دون تدرج، ودون تمهل، ودون توازن، ودون تفهم دقيق لتوازنات المجتمع وتفاعلاته الداخلية، ودون صدق في التوجه وإخلاص في العزم، دون ذلك كله يكون التطبيق الديمقراطي قفزا في مجهول وسيرا على غير طريق معلوم مرسوم.
– عندنا في مصر، بعد يناير ٢٠١١م، ثم بعد يونيو ٢٠١٣م، كنّا على موعد مع الديمقراطية، كانت كل المؤشرات الموضوعية تدل على ذلك: طبقة وسطى عريضة لها مطامح وعندها قلق، أجيال جديدة صاعدة عندها نزوع للمشاركة، درجة كبيرة من التعليم في عموم البلاد، ازدياد مؤشرات التحضر حتى في أقاصي الريف والقري النائية، ثورة اتصالات ومعلومات جعلت الرأي العام أكثر حضورا، لكن حدثت إساء في إدارة الفرصة التاريخية السانحة أربع مرات:
١ – مرة قبل يناير، وقد انتهت بثورة خلعت النظام في صورة غير مسبوقة في تاريخ مصر الحديثة، فلأول مرة ينزل الحاكم عن عرشه ثم يدخل السجن ثم تجري محاكمته.
٢ – ثم حدثت مرة ثانية أثناء إدارة المشير طنطاوي لشؤون البلاد وقد انتهت بوصول الإخوان لحكم مصر في أول مرة كذلك في تاريخ مصر الحديثة.
٣ – ثم حدثت مرة ثالثة تحت حكم الإخوان وقد انتهت بثورة ثانية لم يفصل بينها وبين سابقتها غير عامين وهذه أيضا غير مسبوقة في تاريخ مصر الحديثة حيث يفصل بين كل ثورتين أكثر من ثلاثين عاما من الزمن.
٤ – ثم حدثت مرة رابعة في حكم دولة ما بعد ٣٠ يونيو ٢٠١٤ م.
– في المرات الأربع كانت الديمقراطية سانحة، لكن الخوف منها، مع سوء الإدارة، مع غياب البنية التحتية للديمقراطية، مع وفرة تراث الديكتاتورية، ومع صلابة وقوة البنية التحتية للاستبداد، كل ذلك أعاق الفرصة نحو الديمقراطية، وكل ذلك زاد من فرص الديكتاتورية والاستبداد.
– في السنوات التي أعقبت ٣٠ يونيو ٢٠١٣م كان الخوف من الديمقراطية أكبر ما يكون إذا قورن بالخوف منها في المراحل السابقة عليها، علما أن الخوف لم يكن صادرا فقط عن الحكام الجدد وإنما كان ومازال يشاركهم فيه قطاعات غير محدودة من الشعب.
– لكن الجديد فيما يخص علاقة دولة ٣٠ يونيو بالخوف من الديمقراطية هو عدة أمور:
أولها: أن دولة ٣٠ يونيو اعتبرت الخوف من الديمقراطية ليس مجرد هاجس عابر أو صامت أو مكنون في داخلها، وإنما اعتبرت الديمقراطية عدوا استراتيجيا واضحا صريحا يمثل الخطر رقم واحد على وجود الدولة المصرية من أساسه، مثلما يمثل الخطر رقم واحد على استقرار المجتمع المصري من جذوره، مثلما يمثل الخطر رقم واحد هوية الأمة المصرية وانسجام مكوناتها وتماسكها وسلامة ترابها ووحدتها الكلية.
ثانيها: أن دولة ٣٠ يونيو لم تشأ إرهاق نفسها في الاحتياط لعيوب الديمقراطية وسد المنافذ عليها، كما لم تشأ إجهاد نفسها في تجربة ديمقراطية وليدة غير مضمونة النمو ولا النضج ولا العواقب، خاصة أن دولة ٣٠ يونيو جاءت في ظرف تاريخي كانت فيه الديمقراطية محل شك وتساؤل حتى في الديمقراطيات العريقة ذاتها.
ثالثها: أن دولة ٣٠ يونيو اختارت الطريق الجاهز والحل الأسهل وذهبت تنتج طبعة جديدة من الاستبداد والديكتاتورية، وصحيح أن مصر الحديثة بلد عريق في الاستبداد والديكتاتورية – باستثناء الديمقراطية الإنجليزية المتعثرة في الربع الثاني من القرن العشرين وبالتحديد في الثلاثين عاما من دستور ١٩٢٣ حتى ثورة ٢٣ يوليو ١٩٥٢ – لكن الفارق هنا هو أن دولة ٣٠ يونيو اعتبرت ممارستها الديكتاتورية والاستبداد حقا وطنيا لها يحقق مصلحة وطنية عليا سواء للدولة المصرية أو لعموم المصريين، وكان عندها ومايزال عندها، قدر كبير من الشجاعة الأدبية للدفاع عن حقها في ممارسة هذه الديكتاتورية كأمر طبيعي مفروغ منه ومُسلّم به ولا يحتاج إلى نقاش من أي نوع، وهذا هو التطور الجديد الذي حدث، والذي يجعل الطبعة الأخيرة من الديكتاتورية تختلف عن كل ما سبقها من طبعات شهدتها الدولة الحديثة من محمد علي إلى اليوم.
رابعا: دولة ٣٠ يونيو كانت في حاجة إلى مبرر ضخم جدا حتى تبرر به اعتمادها الاستبداد والديكتاتورية منهجا في الحكم والتفكير وتدبير عموم مصالح البلد، وقد عثرت على هذا المبرر -بسهولة جدا- في فكرة “الخطر على الدولة المصرية” وقد وفرت حالة الضباب التي ملأت الأفق سواء في السنوات الأخيرة قبل يناير أو بعدها، أو السنوات قبل يونيو أو بعدها، كلها وفرت أرضية وأجواء ضبابية مناسبة جدا لترويج فكرة “الخطر علي الدولة” بما يبرر الاستبداد والديكتاتورية كملاذ أخير وحل وحيد لاستعادة الدولة ثم تثبيتها ثم الحفاظ عليها، وقد نجح هذا المبرر في التسلل إلى أذهان الكثيرين الذين قبلوه دون أدنى شك أو مناقشة، فقد اقتنع كثيرون جدا أنه ليست الدولة فقط في خطر، فالبلد كلها في خطر، بل الإقليم كله في خطر.
خامسها: لكن الذي لم يلتفت إليه أحد، ولا يُراد أن يلتفت إليه أحد، هو:
أ – هذا الخطر لم يأت من الديمقراطية، فالديمقراطية لم تحكم يوما واحدا، الديمقراطية بمعني الانتخاب العادل الحر النزيه، الديمقراطية بمعنى الحريات والحقوق والواجبات العامة، الديمقراطية بمعني الرشد والمسؤولية والعقلانية في إدارة موارد وشؤون البلاد.
ب – صحيح أنه كان هناك خطر على الدولة، لكن الصحيح كذلك أن هذا الخطر نتج عن الدولة ذاتها وعن إدارتها وعن قيادتها وعن طريقة تفكيرها وتعاطيها مع الشأن العام، هذا الخطر ظهر في شكلين: في الثورة، وأي ثورة هي بلا شك خطر على أي دولة، لكن يسأل عنها حكام ما قبل يناير، فلم يتركوا للشعب طريقا، غير ما آلت إليه الأوضاع في يناير ٢٠١١ م. أما الخطر الثاني فهو وصول الإخوان إلى حكم مصر، وهو بلا شك خطر على أي دولة حديثة، لكن هذا خطر مثله مثل خطر الثورة، صنعته الدولة المصرية ذاتها، فهي التي أدارت الانتخابات وهي التي قبلت ترشح الإخوان وهي التي أعلنت فوزهم وهي التي أطلقت النار ابتهاجا لفوزهم، وهي التي انتصبت أمامهم وقدمت لهم التحية العسكرية. فخطر الثورة المسؤول عنه دولة ما قبل يناير، وخطر حكم الإخوان المسؤول عنه دولة ما بعد ١١ فبراير ٢٠١١م.
ج – الخطر على الدولة صنعته الدولة وحدها بالدرجة الأولى ولم يصنعه الشعب، فالشعب لم يكن غير ضحية لسوء إدارة الدولة والتلاعب بها من جهة القائمين عليها، وكذلك الخطر على الدولة لم يكن من نتاج حكم ديمقراطي فالديمقراطية لم تولد بعد ولم تحكم بعد، هذا وذاك يجعل من مفهوم الخطر على الدولة شعارا مصطنعا لا حقيقة له ولا أصل إلا من زاوية الضباب والاصطياد في الماء العكر الذي يملأ نهر السياسة المصرية منذ مطلع القرن الحالي.
باختصار شديد: دولة ٣٠ يونيو كانت، ومازالت، تخشي الديمقراطية، وقد نسجت لذلك مفهوم “الخطر على الدولة” وتحت ظلاله بررت -بسهولة- خيار الديكتاتورية والاستبداد، وجعلت منه أساسا لحكمها وجوهرا لمشروعها السياسي الذي يلقى قبول البعض في الداخل بل وفي الخارج على السواء.
السؤال الآن: هل كان واردا أو ممكنا أن تختار دولة ٣٠ يونيو طريقا ديمقراطيا؟!
هذا موضوع المقال المقبل بإذن الله