“كلام مقاومة والجدل ممكن يأذيكا.. راب عنيف حر ما مجرد مزيكا” هذه العبارة ليست مجرد مقطع من أغنية. ولكنها بمثابة رسالة تعريف بهذا اللون، ورد واضح حول ما أثير حول هوية الأفكار التي يتم طرحها من خلال أغاني الراب.
أفرزت أغاني الراب السوداني حالة من الجدل الواسع في الأوساط الثقافية، فالبعض اعتبرها كاشفة عن ملامح الشارع السوداني الثائر وناقل لأزماته وطموحاته وتمرده. بينما رأى آخرون أنه هادم للهوية واعتبروه “هوجة” شبابية صاخبة تحتاج إلى المواجهة قبل تخريبها للذوق العام.
رصد مصر 360 من خلال التقرير التالي تطور ظهور “الراب” في السودان وكيف امتزج مع ملامح شبابها و”اتسودن” وفق تعبيرهم، باستعراض نماذج للآراء الشبابية من الداخل السوداني حوله، ورصد أهم الانتقادات التي توجه لهذا النوع من الفن.
أحدها الراب.. مستجدات المناخ الثوري
حفز المناخ الثوري نشاط الكثير من المظاهر المستحدثة على الشارع السوداني وكان منها ظهور الرسم الجرافيتي لأول مرة الذي استخدم لتوثيق الحالة العامة في الشارع الثائر. وإشاعة حالة من التحرر سواء في التعبير أو الملابس، فقد ظهرت بعض الأداءات الغريبة على المجتمع ولكنها مفهومة تماما ومتسقة مع تلك الأجواء الحماسية الملهمة.
والراب السوداني واحد من المظاهر التي نمت وتطورت واستحوذت على جانب كبير من الساحة المجتمعية. خاصة مع خروج بعض من أغنياته التي تمكنت من تطويع الأفكار والمطالب والرفض للعهد البائد بما لاقى استحسان الجمهور الثائر آنذاك.
واعتبر الكثيرون أن انتشار موسيقى الراب التي ارتبطت بالمغني المعروف “أيمن ماو” وحتى اليوم. ظاهرة غربية بل ووصفوه بـ “النمط السلبي” الذي يحتاج لمواجهة، فيما رآه آخرون رمزا للثورة وصوتا لها ونافذة مكنت الشباب من توصيل أوجاعهم وأزماتهم وحالة رفضهم في ثوب سلس وبسيط ومعبر.
حالة مؤقتة وقرينة “الجاز”
موسيقى الراب بشكل عام جاءت لتتفاعل مع الواقع الشبابي المتأثر إلى حد بعيد بالتقنيات الإلكترونية والذوق السائد ذو الإيقاع السريع وهو نتاج التمييز العنصري في أمريكا وتعبير عن حال قاطني الأحياء الأمريكية الفقيرة ومنها انتقل إلى السودان. وأصبح مع مرور الوقت الأقرب إلى وجدان الشباب الثائر في العالم العربي لسهولة وصول كلماته للمستمعين من جهة. وقدرته على تطويع نصوص الأفكار والمطالب والحالة الصاخبة التي تسود المناخ الرافض الثائر على الصعيد الآخر.
وشبهه الكثيرون بـ “الجاز” التي تأثر بموسيقاه الشارع السوداني وأخرج أسلوب هجين قريب إلى حد كبير من السائد في أميركا. وتم تأديته من خلال مجموعة من الفرق الموسيقية ومنها “العقارب” لتناسب المتلقي بالداخل السوداني. ولكنه لم يحظى بنفس التأثير الحالي للراب لنمطية المستمعين ونفور بعضهم منه.
وأخفق مقدمو الراب السوداني في إيجاد صيغة واحدة تجمعهم كما حدث في أغلب الألوان الموسيقية ومنها على سبيل المثال “فرق الموسيقى السودانية الحديثة والجاز”. إلا أن هناك من يعلق الآمال على جمعية “الهيب هوب” الثقافية مستقبلاً.
البداية والتطور
بدأ التعرف على الراب في الداخل السوداني مع مطلع التسعينيات ولكنه وجد مقاومة واسعة من المجتمع. الذي رأى فيه خطورة على هويته وموروثه الغنائي.
وارتبط ظهور الراب على الساحة باختلالات عام 2011 على مختلف الأصعدة وانفصال جنوب السودان. فأصبح أداة معبرة عن الوضع القائم، وتمت مواجهته بعنف شديد خاصة بعد تسليطه الضوء على أداء النظام الحاكم بل والمطالبة في بعض الأحيان بسقوطه.
https://www.youtube.com/watch?v=iCNQ8hUUaV0
وساهمت منصات البث ووسائل التواصل الاجتماعي ومنها: “فيسبوك ويوتيوب” بشكل كبير في فتح المجال أمام هذا النمط فباتت قبلة الشباب الراغب في تأدية الأغاني بنمط مختلف عن السائد. إلا أن الأغاني في هذه المرحلة جمعت بين اللغة العامية السودانية والانجليزية بأداء محلي ورغم اختلال هوية الأداء. لكن أغلب ما تم تقديمه كان يرتبط بقضايا السياسة والاقتصاد في الداخل وعارض واضح للأزمات والاختلالات القائمة.
وفي عام 2013 كان “الراب” واحد من الأدوات الملهمة التي تم استخدامها في الاحتجاجات التي اجتاحت البلاد والتي كانت الشرارة الأولى للثورة السودانية.
مواجهة الأجهزة الأمنية
وأثناء حكم البشير اضطر صانعو الراب لمواجهة الأجهزة الأمنية خاصة إذا كانت هناك انتقادات واضحة للنظام القائم. فيما تعرض بعضهم للحبس والمحاسبة على ما يقدمونه من أفكار ناقمة على السلطة. ونتيجة القوانين الصارمة لم يكن أمامهم أماكن متاحة للغناء واللقاءات الجماهيرية الواسعة.
وفي عام 2019 بدأ مطربو الراب من الشباب أداء أغنياتهم في الساحات العامة والحفلات الحاشدة وحملت كلماتهم الكثير من الأفكار المتداولة في الأوساط الثقافية والمدنية الثائرة. كما أنها أيضاً عملت على تطويع الأفكار الجوهرية المطروحة وتم تقديم أغلب المشاعر الإنسانية العاطفي منها والثائر في قوالب أصبحت مألوفة على المستمع.
وخلال السنوات السابقة على هذه الثورة لم يجد “الراب” طريقه للظهور في القنوات التليفزيونية أو يحظى بالاهتمام الإعلامي نظرا لاعتباره دخيل على هذا المجتمع. ولكنه وجد مساحته الكبيرة في الأوساط الشبابية بعد ذلك خاصة بعد ارتيادهم المنصات الالكترونية والتي يأتي على رأسها “تيك توك”.
الراب الحائر وعصابات “النيقرز”
ربط قطاع كبير من السودانيين بين أغاني “الراب” وعصابات “النيقرز” وحملت طريقة تأديته في وجدان قطاع من المستمعين. الشكل الذي ظهرت فيه تلك العصابات التي تم استخدامها من النظام البائد لإثارة الرعب والفزع في نفوس الثائرين وإحداث الفوضى الممنهجة
بينما أكد صانعو الراب السوداني أنه لا علاقة له بمن يحاولون الظهور في ثوبه، واعتبروه رمز لحرية التعبير وأنه لا يتعارض مع عادات وتقاليد الشارع السوداني. بل هو التعبير الأكثر صدقاً في حمل مضامين الحياة والأزمات والمواقف والأفكار.
ومن أغاني الراب الشهيرة تأتي: “سودان بدون كيزان لـ AG، وجنجويد رباطة لأيمن ماو، وكلام الشارع، وتسقط بس، ومتهم، وخليك صاحي”. وهناك عدد من الشباب برزوا في هذا اللون الغنائي ومنهم: “خالد زنقولا، وزيو، وأبو النيز، ونووي” ومن الفتيات كلاً من: “مروة، ورنا بدر الدين”.
الراب في عيون السودانيين
يرى المواطن السوداني، قاسم أمين، أن الراب يحمل وجهين أحدهم عالمي والآخر معبر عما يعيشه الشباب السوداني. وهو لون موجود تمكن من نقل الأحاديث التقليدية إلى مسارح الأداء الغنائي. لافتاً إلى أنه كان قاصراً في البداية على بعض التسجيلات الصوتية ثم قرر الشباب تحويله للفيديو وإضفاء الطابع السوداني عليه. فبين كل 10 شباب هناك 2 يستمعون للراب بشكل ثابت ودائم.
وأكد قاسم، في تصريحات خاصة لمصر 360، أن حكومة النظام البائد تعمدت هدم النواحي المعرفية وأغلقت أبوابها في وجه الشعب ومنها السينما والكتب والمسارح. ومع عام 2013 وقتل أكثر من 200 شهيد انتعش هذا اللون الذي أصبح الصوت الثائر في عام 2019.
ويرى الشاب السوداني، قاسم أمين أن “أم الفنون” إلى جانب إسهامها السياسي المعروف تمكنت من جعل المواطنون يبتكرون طرقاً لم يكن الشارع. بل والكثير من دول العالم يعرف بها في التعبير عن أفكارهم ومنها رسم صورة جدارية بلغت نحو 6 كيلو متر. والإنتاج الثقافي والفني المبتكر على كل مستوياته ومنها الراب.
الراب وإثارة الشغب
وأكد قاسم أن النظام البائد كان وراء بعض التشكيلات العصابية المعروفة بـ”النيقرز” التي عملت على إثارة الشغب بداية من عام 2013 لتشويه صورة الحراك الشعبي. وفي تلك الأجواء صعدت أغاني الراب فحدث ربط في ذهن الكثيرون بينهما، وظلت تلك الفكرة لصيقة بجمهور الراب لسنوات طويلة. حتى جاء عام 2019 وتغيرت تلك الفكرة في الأوساط الشبابية خاصة مع وجود فنانين تمكنوا من تلبية المطالب الثورية في أغانيه بلغة السودان العامية المعبرة عن مشاكله والأقرب إلى وجدان شبابه.
بينما يرى عضو حزب المؤتمر السوداني عاصم عمر أن أغاني الراب لها مميزاتها وسلبياتها. إلا أن تأثيرها الإيجابي أكبر وارتبطت بالثورة بعد قدوم “مستر ماو” من أمريكا واطلاقه لعدد من الأغاني المعبرة عن المشهد. مضيفاً أنه رغم استخدام العصابات لهذا اللون من الأغاني ولكن هذا لا يدينها ولا يقلل منها.
https://www.youtube.com/watch?v=m1Vy540ZBWk
وأضاف عاصم عمر، أن أغاني الراب تستهوي القطاع الشبابي فهم الأقرب له، ومن بين أبرز الرابرز (مها جعفر، ومستر ماو وزنقولا). مضيفاً أنهم واجهوا هجوم ورفض لكن هذا أمر طبيعي فقد سبق وواجه “الجاز” نفس المصير، وبعد اضطهاد طويل صمد إلى أن أصبح صانعوه يكرمون ولديهم موروثهم.
ووصف عاصم الراب بأنه عبارة عن “تمرد” فالشعب ظل مقهور محروم من أبسط الأدوات التكنولوجية والمعرفية ويعاني من ويلات انقطاع الكهرباء والإنترنت. وخرج الشباب على غرار ما حدث في أمريكا معبراً عن مطالبه واحتياجاته وحياته بالطريقة الغنائية الأقرب له.
وأكد عاصم عمر أن الراب “اتسودن” وأصبح معبراً عن المشاكل الاجتماعية والواقع المرتبط بـ “الحكي” في ثوب بسيط قريب من حوارات الشباب وتعبيراتهم اليومية. متوقعاً أن يتطور شكله ويتطرق للحديث عن الطفولة وقضايا العنف الأسري، ولفت إلى أنه رغم ضعف الإمكانيات المتوفرة في يد المواطن، إلا أن التيك توك السوداني أغلبه “راب”.
الراب نبض الثورة والشباب
قال مطرب الراب السوداني، مصطفى قسم الباري المعروف بـ”زيو” إنه بدأ في غناء الراب منذ عام 2009 وأن الراب والرابرز مضطهدين بشكل دائم. باعتبار أن ما يقدموه دخيل على الثقافة السودانية وهو أمر لا أساس له من الصحة فهناك جروبات لكل مغني. وهناك أحيانا تبادل سباب لكن لا توجد على الاطلاق عصابات أو يمكن اقترانها بهذا النوع من الفن الذي ينقل نبض الشارع وواقع الشباب السوداني.
وأضاف زيو الذي يقوم الآن بالاستعداد لعدد من الحفلات الغنائية في برلين عاصمة ألمانيا، أن الراب جزء من ثقافة الـ “هيب هوب”. وهو فن حر وأغلب من يقومون بتأدية هذا اللون محبين له، لأن الأمر يتطلب منهم تحدي المجتمع بشكل شبه يومي. إلا أنهم سعداء فمطربو الراب قاموا بثورة فنية مشرفة منذ بداية الحراك الشعبي وحتى الآن.
وأكد مصطفى زيو أن ثقافة “الهيب هوب” بها أربع ألوان وبالإضافة إلى الراب يوجد الـ DJ، والجرافيتي والرقص. والراب لون حر لا يهتم بالقيود والكلمات ليست الأهم في بعض الألوان التي يتم تقديمها بثوب الراب الجديد رغم أنها كانت الأهم على الإطلاق قديماً.
وأوضح زيو في حديثه الخاص لمصر 360 أن القدامى عادة ما ترعبهم أفكار التجديد لذلك هناك هجوم على الراب. وهو أمر واجه أغلب الألوان الغنائية والاتهام بأنه لون غربي غير منطقي لأن أغلب الآلات الموسيقية بالفعل دخيلة على المجتمع المحلي.
وأضاف زيو أنه تعرض إلى هجوم كبير مرتبط بما يتم تقديمه من أغنيات وتعليقات بها قدر كبير من التنمر والتنكيل بعد الظهور في القنوات الفضائية. ومنها “ده ما فن أصلا اللي بتقدموه، الولد ده يتعاطي، مش لازم النماذج دي تظهر في التلفزيون”، وأغلبهم من الجيل القديم الذي يخاف على وجوده من الألوان الشبابية الجديدة. والتي تعبر عن نبض الشباب وتطرح أزماتهم.
الراب كحل شبابي
وأوضح الشاعر والمغني، أسمر خيري، أن التراث الغنائي السوداني المرتبط بالوطن والحالة العاطفية الوجدانية للشعب على مر التاريخ وتقلبات السياسة. بدء من مناهضة الاستعمار البريطاني مرورا بأحلام الدولة الوطنية والاستقطابات والانقلابات العسكرية هو تراث غنائي متأثر جدا بالحالة التعبيرية الرمزية. بالإضافة إلى النخبوية الفنية التي تعاطت مع تقلبات السياسة فيمكن القول إن كل انتفاضة أو انقلاب عسكري كان مصحوباً بأغانيه المعبرة عنه والداعمة لمساره.
وأضاف أسمر في تصريح خاص لمصر 360 أن المجتمع السوداني تعامل مع الغناء كأداة للتسلية. وبالتالي لم يحصل الفنانين على ما يتوقعونه من احترام فاضطر المغني السوداني للتشدد في مستوى الكلمة المغناة. وهو ما أنتج العديد من القيود التي فرضت أنماط غنائية محددة.
واعتبر أسمر خيري، أن الراب بكلماته المباشرة التي تعبر عن الحقيقة “الوقحة” صوت عبر عن جيل من الغاضبين ونقله بالصورة الأنسب له. فالغضب لا يحتمل المقدمات الموسيقية المتمهلة والرمزية الموغلة في الشاعرية، والمكتبة الغنائية مليئة بأدبيات النضال وأغنيات المنافي والسجون والثورة. ولكنها كانت تعبر في أغلبها عن مشاعر الحزن ونبل التضحية، بينما الشباب والشارع كانوا في حيز البحث عن صوت يعبر عن الحالة الحقيقية بداخلهم دون مقدمات أو التفاف.
وأكد أسمر أن ظروف ميلاد اغنية الراب جعلتها أمام تحدي عدم تقبل الأذن التقليدية أو انحياز أدوات الإعلام الموجهة من قبل نظام الجبهة الإسلامية. فأصبحت تحاكم من مجتمعها أخلاقيا، وكذلك كان عليها مواجهة أصوات مهووسة بمحاربة كل ما هو مختلف، وهذه الحالة خلقت تحديات إضافية أمام المغنيات البنات. الذين تعرضوا لمحاكمات أخلاقية نتيجة الإسقاطات الذكورية في استخدام مصطلحات وأفكار تعبر عن العنف الجنسي. وإلى حد ما دخول المغنيات النسويات إلى ميدان الراب قدر يخلق أثر، لافتاُ إلى أنها كانت خطوة داعمة للإنتاج الفني تجاه قضايا النوع بدون نزع روحه الفنية وتحويله لحالة بلاستيكية دعائية.