“أرسله معنا غدًا يرتع ويلعب وإنا له لحافظون”.. بتلك الآية القرآنية حاول صاحب دور حضانة اجتذاب الأهالي إلى منشآته المكونة من طابق واحد على اعتبار أنها توفر للطفل اللعب بمكان فسيح والطعام والحماية. دون أدنى فهم للسياق الأشمل للآية التي ارتبطت بخداع أخوة النبي يوسف لوالدهم للتخلص من شقيقهم.
تمثل دار الحضانة، التي تم تداول صورها على مواقع التواصل الاجتماعي وكلفت وزارة التضامن جميع أجهزتها بالبحث عنها. نموذجًا لمشكلة مزمنة في مصر باستغلال الدين لأسباب تجارية أو اجتماعية. وتحميل النص الديني معان بعيدة تماما عن سياقها الحقيقي.
تضع عشرات من محال العصائر الشعبية لافتة “وسقيناهم شرابا طهورًا”، ولا تخلو عربات الفول من الآية “مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها”. ووسائل النقل الجماعي تخاطب الركاب بـ”اركب معنا ولا تكن من الكافرين”، أو حتى أصحاب محال بيع الخضروات. التي لا تتعدى بعضها مترين مربع وتعلق لافتات “ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله”.
لكن الجديد كان في تحرك وزارة التضامن الاجتماعي التي أصدرت توجيهات فورية لأصحاب الحضانات. بعدم وضع آيات من القرآن الكريم أو عبارات من الإنجيل المقدس، لما قد تحتويه من أخطاء إملائية أو لغوية واجتزائها من سياقها فيتحرف معناها. ما قد يعرض القارئ للفهم الخاطئ أو المختلط.
ويقصر قطاع كبير من دور الحضانة خاصة في الأقاليم مهمته الأولى والأخيرة في تعليم التعاليم الدينية في المقام الأول. وتظهر صفحاتها على مواقع التواصل الاجتماع، تركيزًا على الدين في اختيار اسم المكان الذي لا يخلو من “الطفل المسلم” أو استخدام لفظة قبطي. وبعضها يرفع لافتة عريضة مفاداها بأن انقطاع الطفل عن التعليم الديني لمجرد الدراسة والدروس ترسيخ لفهم أنه يمنعهم التفوق الدراسي وأنه لا نجاح إلا بالدين.
في محافظة الغربية توجد سلسلة مدارس “الجيل المسلم” التي تأسست عام 1979 كأحد أنشطة الجمعية التربوية الإسلامية بالقاهرة. التابعة لجماعة الإخوان المسلمين، بهدف “تنظيم الدعوة وتنمية الفكر التربوي الإسلامي ومدارسة أساليبه ومشكلاته. وتدرس نفس مناهج الوزارة، وبطبيعة الحال التعليم فيها يبدو من الوهلة الأولى قاصرًا على الأطفال المسلمين فقط.
إيحاء خاطئ
ووفقًا لوزارة التضامن، فإن إدراج جوانب دينية على الشكل الخارجي للخدمة المقدمة قد يوحى بأنها مقصورة فقط على أهل دين بعينه. رغم أن الوطن الحق أن الوطن للجميع، واستندت لفتوى من دار الإفتاء المصرية. بأن وضع الآيات بهذه الطريقة لا يجوز لأنه استخدام لها فيما لم ترد فيه.
تقول وزارة التضامن إن غرس القيم الدينية والأخلاقية أثناء مرحلة الطفولة وتنشئة الأجيال عليها مطلوب لترسيخ المبادئ الفاضلة. وتعليم السلوكيات الإيجابية لدى المجتمع، ولذلك تأتي هذه القيم ليست كنصوص ربما تجتزئ من سياقها. وإنما كرسالة تربوية نستمر في تعليمها وتأكيدها.
ومثلت دور الحضانات في المحافظات صداعًا في رأس وزارة التضامن بعد تقارير مستمرة حول خضوع بعضها لمتطرفين يبثون أفكارًا متطرفة ومتشددة. أو غير متخصصين في التعامل مع الطفل في المراحل المبكرة. أو تحويلها من قبل أصحابها في محافظات الصعيد إلى مجرد كتاتيب لتعليم الأطفال القرآن فقط دون أي مجالات أخرى.
وأعلنت وزيرة التضامن نيفين القباج، أخيرًا، عن إنشاء حضانات في كافة القرى ضمن مبادرة “حياة كريمة ” قائلة: “مش هنسيب ولا قرية مفيهاش حضانة “. وكل قرية سيكون بها 2 حضانة ضمن المبادرة، يتم فيها تأهيل الطلاب للمرحلة الابتدائية. وتحت إشراف معلمين متخصصين في الطفولة لديهم قدرة على استيعاب متطلبات الطفل بالمراحل العمرية الصغيرة.
لا ينطبق الأمر على المؤسسات التعليمية فقط بل امتد للمؤسسات العلاجية أيضًا التي لا توظف الدين في مبانيها الخارجية. ولكن على حوائطها فبعض المستشفيات القديمة للإرساليات الأجنبية مملوءة بمقاطع الإنجيل حول الشفاء، وإحداها في طنطا تضع تصورات دينية صرفة حول السيد المسيح وتعلقها على حوائط العيادات الخارجية. والأمر ذاته يتكرر مع العديد من المستشفيات، التي تحمل صبغة أصحابها الدينية التي لا تخل من آيات قرآنية مجتزأة أحيانا من سياقها.
يقول البعض إن الأمر مرتبط بالسياق المجتمعي أكثر من الديني أو التجاري، فالمصريون متدينون بطبعهم وكثير منهم يميلون التدين الشكلي وليس السلوكي. على غرار حمل أشد العتاة إجرامًا مسبحة يد أو دعاء اللص قبل ممارسة جريمته بأن “يستره الله وألا يتم القبض عليه”.
تدوين ديني
ربما تكون تلك التصورات وراء الاعتماد على الكتابات اليدوية في التدوين الديني اعتقادًا بأنها أكثر جلبا للمثوبة. فالبعض يتبرع بالكتابة على جدران الشوارع والمؤسسات التعليمية شعارات دينية، اعتقادا بأن قراءتها من قبل المارة يزيد غلته من الأعمال الصالحة. ويحمل التدوين قدًرا من طبيعة المصريين الذين يدونون على مما يقع تحت أيديهم من عملات أو على مقاعد الحافلات والحوائط وتذاكر القطارات. لأسباب متفاوتة بين الديني والسياسي والاجتماعي.
يقول شحاتة محمد شحاتة، مدير المركز العربي للنزاهة والشفافية، إن توجيهات التضامن الاجتماعي يجب أن تكون محركا لباقي المؤسسات. بمنع كتابة آيات دينية على الواجهات أو الحوائط. فالدين محله القلوب، كما أن ذلك السلوك يعطي إيحاءً يتنافى مع فكرة المواطنة.
يضيف شحاتة أن التعليم يجب أن يكون حقًا لكل مواطن وهدفه بناء الشخصية المصرية، والحفاظ على الهوية الوطنية، وتأصيل المنهج العلمي في التفكير. وتنمية المواهب وتشجيع الابتكار، وترسيخ القيم الحضارية والروحية، وإرساء مفاهيم المواطنة والتسامح وعدم التمييز.
لكن الدكتور سيد عويس، عميد علماء الاجتماع في الوطن العربي، يرى في كتابه “هتاف الصامتين” الذي تناول بالتحليل والتدقيق لأم كتابا المصريين على وسائل المواصلات. أن كتابات المصريين ومنها ذات البعد الديني أحد وسائل التعبير عند الصامتين من أعضاء المجتمع المصري المعاصر. ووسيلة تعبير عن البشر من آلامهم وأفراحهم واستسلامهم والقيم التي يقدسونها وبعض أنماط تفكيرهم.
اعتبر الكتاب أن تلك الكتابات تعكس المناخ الاجتماعي الثقافي والجوانب غير المادية في المجتمع ومن أهمها المشاعر والأحاسيس والآمال والمعتقدات. ففي الحديث عن الله يكتبون عبارات عن القدر والغيب والأزمات ويطلبن الرعاية والسلامة والنجاة من الخوف. ومن شر أعمال الناس واللطف في القضاء والدعاء للأمن والسلامة. وكانت الآيات الأكثر استخداما في ذلك المجال “قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا”.
تؤكد دراسة عويس أن المصريين إذا طلبوا من الله السلامة كتبوا على مركباتهم آيات من القرآن أو الأحاديث الشريفة. وإذا أرادوا التعبير عن استسلامهم لإرادته أكدوا ذلك في دعواتهم وابتهالاتهم وقراءة القرآن أو الكتاب المقدس. وهم إذ يتقربون الا الله يتقربون أيضًا إلى النبي والسيدة العذراء وأهل البيت ويتوسلون ويلتمسون الخلاص منهم، وإذا أرادوا البركة والحماية يطلبون بركة دعاء الوالدين.