تستطيع الآن أن تنظر إلى ثورة ٢٥ يناير ٢٠١١ م بعد عشر سنوات من وقوعها، وسوف ينظر إليها من يعيش بعد عشرين سنة من وقوعها، أو حتى بعد مائة عام من وقوعها، فمن أي محطة زمنية يتم النظر إليها سوف يرى الناظر أنها كانت ومازالت وسوف تظل أكبر حدث مصري في القرن الـ ٢١، هي حدث مقيم وليس عابرا، هي حدث قائم وليس زائلاً، هي حدث حي وليس ميتاً، هي حاضر وهي مستقبل في الوقت ذاته، هي فاتحة هذا القرن ومفتاحه ومفتتحه ومبتدؤه، وهي كذلك روحه وأساسه وجداره وحائطه، وهي أفقه وسقفه وسماؤه، وهي – في كل الأحوال – قوة الإلهام وطاقة الدفع ومصدر الحركة وصانعة البوصلة التي تحدد المسارات سواء لمن كان معها أو لمن كان عليها.
يمكن، دون تجاوز لحدود الغيب والمستور في علم الله، استشراف أن القرن الـ ٢١ هو قرن ٢٥ يناير ٢٠١١م، فهي نقطة انطلاقه مثلما كانت ثورة ١٩١٩م نقطة انطلاق القرن الـ ٢٠ .
تنبع قيمة ٢٥ يناير في التاريخ من جوهر فكرتها الأساسية، وهي الفكرة التي شغلت المصريين طوال تاريخهم القريب والبعيد، هذه الفكرة الكبرى تقوم على سؤالين أحدهما أكثر ضخامةً من الآخر:
– السؤال الأول: ملكية مصر لمن؟.
– السؤال الثاني : حكم مصر لمن ؟
– مصر لمن؟! للحاكم ومن حوله؟! السلطان العثماني ومن حوله من ترك وشركس؟! لبقايا المماليك من بكوات ومشايخ بلد؟! للإنجليز ومن يواليهم من خديوي وسلطان وملك من سلالة محمد علي؟! للرؤساء القادمين من صفوف الجيش يحكمونها باستفتاءات مزورة وانتخابات مضروبة ثم بمرور الزمن وبتعديل الدساتير يتحولون من مجرد حكام إلى حكام وملاك بوضع اليد وبحكم الأمر الواقع؟! .
فضيلة ٢٥ يناير أنها طرحت السؤال الأكبر: ملكية هذا البلد لمن؟ من ملاك هذا البلد؟ من أصحاب الحق فيه؟، وهي بهذا المعنى أسكنت نفسها في قلب التاريخ، فلا هو ينساها، ولا قوة على وجه الأرض تستطيع انتزاعها منه.
لقد أرادت ٢٥ يناير أن تقول، وأفلحت في أن تقول، بلسان مصري فصيح مبين؛ المليون كيلو متر مربع برها وبحرها وجوها لكل المصريين سواء بسواء.
بهذا المعنى، فإن نزول المصريين، من كل الطبقات، ومن كل الأنحاء، ومن كل الأجيال، إلى كل الميادين، في ثقة وامتلاء وجدية واحترام وإصرار ويقين، إنما كان معناه: انعقاد الجمعية العمومية لكل اتحاد ملاك مصر، لأول مرة في التاريخ البعيد والقريب يجتمع ملاك البلد، ليقرروا أنهم ملاك البلد، وأنهم على وعي بذلك، وعلى علم بذلك، ولديهم الاستعداد لتحمل مسؤوليات المالك، وللتمتع بمكانة المالك الأصيل صاحب الحق ونافذ الكلمة. فهم ليسوا عابري سبيل، وليسوا مواطنين بحق الانتفاع، وليسوا مستأجرين، وليسوا رعايا، وإنما هم ملاك هذا البلد وأسياد في هذا البلد، أسياد أنفسهم، وأسياد في أنفسهم.
وبهذا المعني – كذلك – أهلت ثم أطلت ٢٥ يناير كلحظة نور وضوء مشرقة وفارقة لتبدد ظلام لحظة بليدة غبية عقيمة وقف فيها الزمن عن الحركة حتي كمكم وتعطن وفاحت ريحة الكسل من أعطافه، في تلك اللحظة الظلماء من مطلع العقد الثاني من القرن الـ ٢١ كان على مصر أن تختار وعلى المصريين أن يختاروا بين:
– التمديد للحاكم أو التوريث لنجل الحاكم.
ففي تلك اللحظة من التاريخ كان واضحاً وجلياً أن ملكية المليون كيلو متر مربع برها وبحرها وجوها صارت للحاكم وتوشك أن تؤول لنجل الحاكم.
وفي تلك اللحظة كذلك، كانت نخبة الحكم منقسمة بين فريقين: فريق قديم مسن متهالك ضربته الشيخوخة وفي حوزتهم أدوات القوة في الدولة لكنهم لم يكونوا مستعدين للدفاع عن حاكم يفكر في توريثهم لنجله، ثم فريق حديث شاب طامح وطامع يلتفون حول نجل الحاكم لكنهم مثله لا يملكون من أدوات القوة الا القشور في الحزب والحكومة.
هنا نزلت ٢٥ يناير صاعقة من صواعق القدر ونازلة من نوازل التاريخ الكبرى، فوضعت نهاية لهذه اللحظة البائسة، فاختفى الحاكم ومن حوله من الحرس القديم، مثلما اختفى النجل ومن حوله من الحرس الجديد، انغلق باب ضيق ثقيل غليظ كان يجعل ملكية مصر لأقلية محدودة محظوظة بالقرب من الحاكم ونجله، وانفتح علي الأفق باب واسع، باب لا نهائي، باب بلا حلق ولا ضبة ولا مفتاح، باب يسع لدخول كل المصريين دون استثناء، باب يقرر حق كل مصري أن يكون سيداً في وطنه، لا تابعاً، ولا خادماً، ولا مقصياً علي الهوامش، ولا مرمياً علي الأرصفة، ولا منسياً في الزخانيق.
هذا هو السؤال الأول الذي طرحته ٢٥ يناير، وبه استحقت موقعها في التاريخ الحديث، منذ جعلت اتفاقية لندن ١٨٤٠ ملكية مصر في يد محمد علي وسلالته، ثم كافح المصريون عبر الثورات العرابية، وثورة ١٩١٩م، وثورة ٢٣ يوليو ١٩٥٢ م، ثم ثورة يناير ٢٠١١ م، ليكون عموم المصريين هم ملاك البلد، وقد نجحت كل ثورة قليلاً، وأخفقت كثيراً، و٢٥ يناير ليست استثناء من هذا الباب، ومازال الطريق مفتوحاً لكفاح متواصل، ربما يمتد قروناً من الزمن.
– السؤال الثاني الذي طرحته ٢٥ يناير، مثلما طرحته كل ما قبلها من الثورات، هو: الحكم لمن؟! هل الحكم لمن غلب؟ هل الحكم للمصادفة؟ هل الحكم للقوة؟ هل الحكم لأقلية تنجح في ترويض الأغلبية بخليط من الخداع ثم لوي الذراع ثم كسر الذراع إذا لزم؟
لقد جاءت ٢٥ يناير ٢٠١١م، مثلها مثل ثورة ٢٣ يوليو ١٩٥٢ م، على نظام حكم كان قد فقد مبرر بقائه حتي في نظر نفسه، يستوي في ذلك نظام جمهوري ينتسب إلى ثورة ٢٣ يوليو، أو نظام ملكي يستمد مشروعيته من ثورة ١٩١٩م.
في كلتا الحالتين: لم يكن لدى رأس النظام استعداد للدفاع عن موقعه، ولم يكن من رجاله من يتطوع للدفاع عنه، ولم يكن له من قواعد شعبية مستعدة أن تتطوع لمثل هذا الأمر، كما في الحالتين أيضاً لم يكن الحلفاء الدوليون الكبار مستعدين لبذل أدني مساعدة لحماية حليف قديم يسقط عن عرشه في وضح النهار.
نجحت ثورة ٢٣ يوليو ١٩٥٢م في نقل الحكم من سلالة محمد علي والوفد وكبار الملاك ودستور ١٩٢٣م إلى ضباط الجيش، يتداولون الحكم، باستفتاءات غير ذات مصداقية، وبانتخابات غير ذات معنى، ويكتبون الدساتير ويغيرونها ويعدلونها حسب مطامح ومطامع كل رئيس، وكانت هذه الصيغة من الحكم قد تحولت إلى خرقة بالية ممزقة عشية ٢٥ يناير ٢٠١١م.
نجحت ثورة ٢٣ يوليو ١٩٥٢ م في نقل الحكم والسلطة بل وملكية مصر ذاتها من الملك والوفد وكبار الملاك إلى صيغة جديدة قوامها رؤساء للجمهورية من صفوف الجيش يحكمون – حكماً فردياً مطلقاً استبدادياً وديكتاتورياً – لكن بحكومات مدنية الشكل، وبرلمانات ديمقراطية الشكل، وأحزاب شعبية المظهر دون المضمون. نجحت – بصورة سريعة وحاسمة – ليس فقط لأن النظام القديم باستثناء الوفد كان قد تعفن تماماً، وليس فقط لأنها حظيت بترحيب وقبول شعبي كاف، ولكن لسببين أساسيين:
أولها: أن ثورة ٢٣ يوليو كانت تملك تنظيماً هو الضباط الأحرار، وكانت تملك قوة موحدة متماسكة فعالة ونافذة الإرادة هي الجيش، في مواجهة قوى مفتتة منقسمة متناحرة، كان لدى أكثرها استعداد لبيع بعضها البعض والوشاية ببعضها البعض لدى الضباط من قادة الثورة.
وثانيها: أن ثورة ٢٣ يوليو كان لديها ما يكفي – عملياً – من الاستراتيجية والتكتيك، فنجحت على مراحل متدرجة في تصفية النظام القديم، ثم نجحت في الوقت ذاته في تصفية حلفائها من المدينين مثل الإخوان والشيوعيين.
بهذا، وبذاك، انفردت ثورة ٢٣ يوليو بالحكم، ضابطاً وراء ضابط، يرى كل منهم أن وصوله للحكم يعني حقه المشروع في البقاء فيه إلى آخر يوم في حياته، ويرى كل منهم أن له الحق في الحكم الشرعي بغض النظر عن مصداقية الاستفتاءات والانتخابات، ويرى كل منهم أن له الحق في الحكم المطلق والسيطرة الكاملة علي كل السلطات والمؤسسات طالما أن ذلك ممكن ومتاح بتعديلات دستورية لا تكلف الإ بعض المال تتكفل به الخزينة العامة للبلاد.
لكن السنوات العشر الأولى من هذا القرن، من ٢٠٠٠ إلى ٢٠١١ م، كانت انقلاباً من حاكم ينتمي إلى ٢٣ يوليو وإلى الجيش على شرعية ٢٣ يوليو وعلى الجيش معاً، فلم يقف عند القدر من السياسات التي اختطها سلفه السادات، وإنما تجاوزها إلى كل ما هو نقيض العقد الاجتماعي لثورة ٢٣ يوليو، وهو العقد الممكن تلخيصه في كلمات محدودة: الحكم لضباط الجيش في مقابل مكتسبات اجتماعية واقتصادية للطبقات الوسطى والفقيرة وهي الطبقات التى طالما كانت الظهير الاجتماعي لحكم الضباط.
لقد ذهب نظام ما قبل ٢٥ يناير بعيداً في: تصفية القطاع العام، وتصفية دعم الفقراء، وتصعيد طبقة رجال الأعمال إلى الحكم، وخلق طبقة أثرياء من أنشطة طفيلية من تجارة الأراضي لتجارة الآثار لتجارة المخدرات لتجارة الدقيق لتجارة العقارات.. إلى آخره.
– ثورة ٢٥ يناير ٢٠١١م نجحت وفشلت، نجحت في إسقاط منظومة الحكم، لكنها فشلت في:
أولا: فشلت في أن يكون لها تنظيم محدود محكم محترم يقودها، فقد وهبتها المقادير شباباً مخلصين، مثلما منحتها الملايين من الجماهير، لكن المقادير ذاتها ضنت عليها برجال من الوزن الثقيل يصلحون للارتقاء إلى عظمة مثل هذه اللحظة من لحظات التاريخ، فانتكست حيث نهضت، وتعثرت حيث كان الطريق أمامها مفتوحاً بلا كمائن ولا مطبات ولا حواجز من أي نوع.
ثانياً: فشلت في أن يكون لها مجموعة من الأفكار الرئيسية كبرنامج عمل وتفكير يلتقي عليه جمهورها الذين يمثلون طبقات وأجيالاً وأنحاءً مختلفة بين ريف وحضر.
لقد كان نجاح ثورة ٢٥ يناير في إسقاط النظام القديم أكبر من قدرتها علي الاستيعاب، وبالقدر ذاته كان فشلها في تقديم ولو تنظيم ولو فكرة هو كذلك فوق القدرة على الاستيعاب، ناهيك أن تكلفها بطرح نظام حكم بديل فهذا ضرب من المحال ونوع من الخيال.
لقد نجحت ثورة ٢٥ يناير ٢٠١١ م على مرحلتين، وكذلك فشلت على مرحلتين، وانتهت مادياً وبصورة مبكرة جداً على مرحلتين:
– المرحلة الأولى لانتصار ٢٥ يناير كانت يوم انسحبت الشرطة من الميادين عقب صلاة الجمعة ٢٨ يناير ٢٠١١ م. ففي لحظة الانسحاب سقط النظام سقوطا ً فعلياً، سقط دون أن يدرك ذلك كثيرون، لكن لو علمت أن الشرطة كانت هي الذراع المدني الفعلي للنظام، لتأكد لك أن انسحابها يعني أن الحاكم بشحمه ولحمه يقف عارياً من كل سند في مواجهة الملايين التي تژأر ضده في كافة الميادين من الإسكندرية إلى أسوان. لم تقف مع الحاكم غير الشرطة فقط، وكانت المهمة فوق طاقتها، فتركت مواقعها، دون أن تدري أنها عندما تنسحب من الشارع يكون الكرسي قد انسحب من تحت الحاكم وبات وجوده في قصور الرئاسة مسألة وقت وليس مهمة حكم.
– لكن، علينا إدراك، أن هذا الانتصار قد تحول إلى نصف انتصار، بمجرد أن انتشرت قوات الجيش في الشوارع، وتخليها الواضح عن النظام، وترحيبها الضمني بثورة الجماهير، وتستطيع القول باطمئنان، أن الجيش بعد صلاة المغرب ٢٨ يناير ٢٠١١م اقتسم مع الثورة نصف الانتصار الذي أنجزته بمفردها عقب صلاة الجمعة في اليوم ذاته.
باختصار شديد؛ انسحاب الشرطة كان معناه العملي والفعلي والحقيقي هو سقوط النظام، وهذا ما أنجزته يناير عند منتصف النهار، وهذا الانجاز اقتسمه معها الجيش عند آخر النهار.
المرحلة الثانية والحاسمة من الانتصار الذي أنجزته ثورة ٢٥ يناير كان البيان الذي ألقاه نائب رئيس الجمهورية يعلن تنحي رئيس الجمهورية عن منصبه في سابقة لم تحدث منذ تأسست الجمهورية في ١٩٥٣.
لكن، في هذه المرحلة، لم يتقاسم الجيش مع الثورة نصف الانتصار الذي أنجزته، في هذه المرة حصد الجيش – وحده ومنفرداً – الانتصار كله دفعة واحدة، فقد اقترن تنحي الرئيس عن منصبه مع نقل السلطة بكاملها إلى المجلس الأعلى للقوات المسلحة، وهكذا تكون ثورة ٢٥ يناير قد نجحت في إسقاط حكم ينتمي إلى ثورة ٢٣ يوليو، وفي الوقت ذاته فتحت الطريق إلى حكم جديد ينتمي إلى ثورة ٢٣ يوليو.