تصريح الرئيس عبد الفتاح السيسي الذي أدلى به خلال إطلاق الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان قبل أيام عن أن «ثورة 25 يناير 2011 كانت إعلان شهادة وفاة للدولة المصرية». حمل تأويلين متناقضين، أصحاب التأويل الأول ذهبوا إلى أن الرئيس قصد أن الثورة كانت بمثابة وفاة لدولة الرئيس الراحل حسني مبارك. الذي استمر حكمه نحو 30 عاما شاخت فيها الدولة وتكلست مؤسساتها وعجز نظامها عن الوفاء بالتزاماته أمام مواطنيه فخرجوا عليه وقرروا إنهاء حكمه. ودعوا إلى إعادة بناء دولة جديدة على أسس الحرية والعدالة والمساواة، دولة قادرة على إصلاح ما فسد.
أما التأويل الثاني فيرى أصحابه أن السيسي كغيره من الرؤساء القادمين من الجيوش إلى قصور الحكم، بحكم طبيعتهم المنضبطة يكرهون الثورات والاحتجاجات بشكل عام. ويعتقد هذا الفريق أن الرئيس قصد بحديثه أن الثورة هي التي أماتت الدولة المصرية وقوضت مؤسساتها، وفتحت باب الفوضى والإرهاب على مصراعيه.
أصحاب التأويل الأول يستشهدون بأن تصريح السيسي عن «وفاة الدولة» جاء في سياق كلامه عن تردي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية قبل ثورة يناير «شهادة وفاة دولة نتيجة كلام كتير للكلام اللي بنتكلم فيه.. دولة كانت ممكن تقوم على 20-30 مليون لكنها بقت 80- 90 مليون دون أن ينمو أو يتطور فيها شيء. بما فيها الثقافة والصحة والتعليم بالعكس كان فيه تحدي أكبر، عنصر بقاله 90 سنة بينخر في وعي وعقل الإنسان المصري».
بحث هذ الفريق في أرشيف حوارات وتصريحات السيسي ليثبتوا صحة استنتاجهم، فالرجل كان يرى أن نظام مبارك «منه لله هو اللي خرب البلد. وسابها منهارة وكان لازم يمشي من 15 سنة أو أكثر، قبل أن نسقط في هذا الخراب والانهيار في كل مؤسسات مصر»، بحسب ما صرح السيسي لعدد من الأدباء والكتاب في ديسمبر 2014. وأشاروا إلى أن مبارك الذي أطاحت به يناير هو السبب في «تكلس مؤسسات الدولة وانسداد شرايينها فى السنوات الأخيرة من عهده».
في 2014، وبعد الإعلان عن ترشحه للانتخابات وعندما سُئل السيسي عما تمثله ثورة يناير فأشار إلى أنها «العبور الثاني نحو الحرية والديمقراطية». وفي لقاء تلفزيوني آخر قال إنها «انطلاقة لتغيير حقيقي قادم ستشهده مصر»، واتبع ذلك بأنها «انحرفت عن مسارها» وجاءت ثورة 30 يونيو 2013 لـ«تصويب هذا الانحراف».
أما أصحاب التأويل الثاني الذين يروا أن السيسي حمل ثورة يناير مسؤولية «وفاة الدولة»، فاستدعوا هم أيضا من تصريحاته وأحاديثه خلال السنوات الأخيرة ما يدعم تفسيرهم. ويعتقد هذا الفريق أن انحياز الرئيس المعلن للثورة وثنائه عليها وتمجيده لها انتهى بعد أن نجح في إحكام قبضته على مفاصل السلطة. بعدها تحولت يناير إلى مُتهمة مُلاحقة لا تُذكر في أي موضع دون أن تتبعها مفردات الفتنة والخراب والفشل.
«كنت لسه بتكلم قبل ما ندخل على القاعة هنا، بقولهم الإجراءات اللي اتعملت والجهود اللي اتعملت للإيقاع بين الشرطة والجيش في 2011، وبين الجيش وبين الشعب في 2011، وبين الشرطة والشعب في 2011.. الهدف من ده دايمًا اللي عايز يقضي على دولة مش ممكن هيقدر يقضي عليها أبدًا، إلا إذا كان يقسّمها. ويخلي أهلها ومؤسساتها تصطدم مع بعضها البعض»، قال السيسي بمناسبة عيد الشرطة عشية الذكرى السادسة للثورة.
وفي 2017، وخلال مؤتمر الشباب الثالث تحدث السيسي عن ثورة يناير قائلا: «لما الناس اتحركت في 2011 كان جزء من التوصيف مش حقيقي.. والتوصيف لمشكلة مصر خلال الـ30 سنة إللي فاتوا ماكانش حقيقي.. كان خداع.. كان وعي زايف ليكم».
أصحاب التأويل الثاني وصلوا إلى محطة تحميل ثورة يناير مسؤولية ما آلت إليه الأمور في أزمة سد النهضة الإثيوبي «لو ماكنش 2011 كان هيبقى فيه اتفاق قوي وسهل يراعي مصلحة الطرفين.. لكن لما البلد كشفت ضهرها -وأنا آسف- وعرَّت كتفها.. فأي حاجة تتعمل بقى»، قال السيسي في الذكرى الـ46 لحرب أكتوبر، ملقيا باللوم على ثورة يناير في تمكن إثيوبيا من بناء سد النهضة دون مراعاة مصلحة مصر وأمنها المائي.
التحذير من استدعاء الثورة أو تكرارها طغى على أحاديث السيسي بعد تجديد ولايته في 2018 وتعديل الدستور في 2019، ومع ظهور المقاول الممثل محمد علي على مسرح الأحداث. قال الرئيس خلال مؤتمر الشباب الذي انعقد في سبتمبر 2019: «هقولكم على حاجة ليكم يا مصريين جميعًا، هقولكم على غلطة واحدة وتمن دفعناه وهندفعه، وهو 2011.. لم تكن أبدًا تُبنى سدود على نهر النيل إلا في 2011».
وتابع في نفس المؤتمر: «الكلام ده في موضوع واحد، عايز منه كتير، طب عندكوا السياحة في مصر مكنتش تتضرب أبدا 3 أو 4 سنين ورا بعض ويتم فقد 70 أو 80 مليار دولار إلا باللي حصل». محذرا من تكرار ما جرى مرة أخرى «أنا بقولكم كلام في منتهى الخطورة، بس بقوله لأن اللي أخطر منه إنكم تكرروه تاني».
بعيدا عن التأولين وأصحابهم، وبصرف النظر عن محاولات إثبات حب السيسي لثورة يناير أو كرهه لها، ثنائها عليها أو تحميلها مسئولية كل فشل وإخفاق، ستظل تلك الثورة المحفورة في ضمير المصريين من محددات شرعية أي نظام حكم جاء بعدها. ليس فقط لأن الدستور اعتبرها «ثورة فريدة بين الثورات الكبرى في تاريخ الإنسانية، وأنها استعادت للوطن إرادته المستقلة». بل لأنها المنجز الأهم للشعب المصري في التاريخ الحديث، فأبناء هذا الشعب على مختلف فئاته تمكنوا وللمرة الأولى من التخلص من نظام حكم يملك كل أدوات القوة والقمع لكنه فقد أسباب شرعيته ومشروعيته.
خرج أبناء الجمعية العمومية للشعب المصري يطالبون بالحرية والديمقراطية والمساواة والعدالة بعد 3 عقود من الفساد السياسي والغياب شبه الكامل للحريات العامة والأساسية. والاكتفاء بديمقراطية ديكورية وغياب العدالة الاجتماعية وبروز الفوارق الشاسعة بين الطبقات وتخلي نظام مبارك نهائيا عن مسؤولياته السياسية والاجتماعية تجاه المواطنين. وانتشار الرشوة والمحسوبية، واحتكار فئة محدودة من المحاسيب للثروة والسلطة.
انفجرت الميادين بالغاضبين نتيجة لـ«القمع الأمني الذي استخدمه نظام مبارك في تمرير مشاريعه وإسكات الأفواه المعارضة له، والتضليل الإعلامي الذي مارسته أذرعه الإعلامية وتفريغ الحقائق من مضمونها». بحسب ما ذكر تقرير لجنة تقصي الحقائق حول أحداث الثورة والذي أعدته لجنة برئاسة المستشار عادل قورة رئيس محكمة النقض الأسبق.
تقرير اللجنة سرد العديد من الأسباب التي دفعت الناس إلى التعبير عن غضبها ورفضها لاستمرار نظام مبارك، من تلك الأسباب ارتفاع الأسعار وسوء الأحوال المعيشية وتنامي الفجوة بين الأغنياء والفقراء. فضلا عن تجديد حالة الطوارئ والانتهاكات المتصاعدة لحقوق الإنسان والتوسع في صلاحيات أجهزة الأمن وحملات اعتقال السياسيين والمعارضين، وضعف الاحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني وتراجع دور النقابات واتحادات العمال. «مما أحدث حالة من الفراغ، فتحولت مصر بفعل ذلك إلى نظام الحزب الواحد والرجل الواحد والصوت الواحد».
التقرير أشار أيضا إلى أن جرائم تزوير الانتخابات وإهدار الأحكام القضائية وسيطرة حزب السلطة على برلمان 2010 كان من أبرز أسباب الاحتقان. يُضاف إلى ذلك «انسداد القنوات الشرعية للتعبير عن الرأي، الأمر الذي يعنى ببساطة أن أي غضب على أوضاع مصر لا مجال أمامه إلا أن تخرج الناس إلى الشارع للتعبير عن غضبها لآن جميع آليات التعبير السياسي الفاعلة الأخرى لم تعد مجدية».
ومن الأسباب التي ساعدت على إشعال نار السخط ضد نظام مبارك «فساد الإعلام الذي رغم كل تلك الإخفاقات ظل يروج لديمقراطية النظام الحاكم، وانحيازه إلى الفقراء ومحدودي الدخل، وتحول إلى بوق للنظام».
ولفتت اللجنة النظر إلى أن القراءة الخاطئة للرأي العام وعدم الاستجابة له في الوقت الملائم كانت من أهم أسباب ثورة 25 يناير. «من هنا تبرز أهمية الرأي العام في إرشاد القيادة السياسية إلى مطالب الجماهير المشروعة»، مشيرة إلى أن إهمال الحكومات المصرية المتعاقبة للرأي العام وقراءة وقياس منحنياته واتخاذه هاديا ومرشدا لها في وضع سياساتها العامة. فضلا عن إصرارها على عدم إتاحة المعلومات للجمهور، أدى إلى «عزوف المواطنين عن المشاركة السياسية، وتعرض الدولة لحركات سياسية مفاجئة كالتي حدثت في 25 يناير».
وتحدث التقرير عن بلوغ الاحتقان ذروته، إثر محاولات الرئيس الراحل الذي جمع كل صلاحيات وسلطات الدولة في شخصه على مدار 3 عقود، إتمام مشروع توريث الحكم لنجله من خلال انتخابات شكلية كتلك التي دأبت عليها مصر في الحقب الفائتة.
وفي نهاية التقرير وضعت اللجنة «روشتة» لتدارك خطايا النظام السابق التي مهدت لثورة يناير، ودعت إلى ضرورة الشروع في بناء دولة مدنية ديمقراطية حديثة قائمة على العدل والمساواة والحرية. مطالبة برفع يد الأمن عن مؤسسات الدولة المختلفة، وإعادة النظر في القوانين المكبلة للحريات، واحترام إرادة الجماهير في اختياراتها السياسية. وأن تجرى الانتخابات العامة في أجواء من النزاهة والتنافسية والشفافية، بما يضمن تداول حقيقي للسلطة وبناء مؤسسات حكم قوية.
كما أوصت اللجنة بأن تدعم الدولة الحق في حرية الرأي والتعبير، واستقلال الصحافة والإعلام، والسلطة القضائية وباقي مؤسسات الدولة التشريعية والرقابية. واتخاذ إجراءات تضمن تطبيق العدالة الاجتماعية وتحد من الفساد والرشوة والمحسوبية، والنهوض بالنظام الصحي وبالتعليم والبحث العلمي. وتحديث الأجهزة الأمنية بما يضمن كفاءتها واحترافها واحترامها للقانون ولحقوق المواطنين.. ألخ.
بعد مرور 10 سنوات على سقوط مبارك و7 سنوات على سقوط حكم الإخوان، لم تختلف الأوضاع كثيرا على ما كانت عليه قبل الثورة، ولايزال هدف يناير الرئيسي بتأسيس دولة مدنية ديمقراطية حديثة معلق في الهواء. ويسعى البعض إلى إهالة التراب عليه وإقناع الناس بأن الوقت ليس وقته فأجندة الأولويات مزدحمة بما هو أهم.
بعد كل تلك السنوات لانزال نبحث عن استحداث نصوص ووضع استراتيجيات لحقوق الإنسان وحرياته الأساسية، فيما تشير الممارسات والإجراءات أننا نمشي في طريق معاكس للطريق الذي رسمته الثورة وأكده دستور 2014. لايزال في السجون أصحاب رأي ولايزال الإعلام تحت قبضة السلطة ولاتزال الانتخابات تدار وتهندس لصالح أحزاب النظام.
مصر ليست في حاجة إلى نصوص بقدر ما هي في حاجة إلى إرادة فعل حتى لا يتكرر ما جرى في يناير مرة أخرى، مصر تحتاج إلى أن تؤمن السلطة بأن مشروعية بقائها مرهون برضا الشعب. وأن ارتفاع منسوب الغضب الشعبي يفقدها تلك المشروعية، ما نحتاجه أن يتم ترجمة الرضا والغضب عبر صناديق اقتراع في انتخابات حرة نزيهة شفافة، نحتاج إلى حوار عام مع المخالفين والمعارضين.. إلى إخلاء سبيل المحبوسين احتياطيا على ذمة قضايا رأي.. إلى إعادة النظر في التشريعات والممارسات المقيدة.. إلى إعلام حر يقدم للحاكم والمحكوم الخبر والرأي والتحليل.
مصر تحتاج بعد كل هذه السنوات إلى إيمان كل الأطراف بضرورة الشروع في بناء دولة مدنية ديمقراطية حديثة. حفاظا على البلد ومؤسساتها وعلى ما تم إنجازه في ملفات لا يمكن لأحد أن ينكرها.