في ضوء مبادئ استراتيجية الأمن القومي التي أرستها العقيدة الروسية في الأعوام الأخيرة، ظهرت منطقة البحر الأحمر كواحدة من أولويات السياسة الخارجية الروسية نظرا لما تحمله المنطقة من أهمية استراتيجية، ما جعلها أحد ساحات التنافس الجيوسياسي بين القوى الدولية المختلفة، حيث سعت الأقطاب الدولية لاسيما الولايات المتحدة الامريكية وروسيا والصين لإبراز نفوذهما في هذا الميدان بمختلف الوسائل السياسية والاقتصادية والعسكرية.
وجاءت استراتيجية الأمن القومي الروسي لعام 2021 مؤكدة على أهمية التحركات الأمنية لحفظ الأمن الإقليمي، حيث نصت على “أهمية القوة العسكرية تتزايد كأداة لتحقيق الأهداف الجيوسياسية، ما يعزز الأخطار والتهديدات العسكرية التي يتعرض لها الاتحاد الروسي”، وبالتالي “لروسيا الحق في اتخاذ إجراءات متناظرة وغير متناظرة رداً على الإجراءات غير الودية من جانب الدول الأجنبية”.
من خلال هذه المنطلقات، تحاول روسيا تعزيز دورها في أفريقيا بوجه عام، وعلى ساحل البحر الأحمر بوجه خاص تحقيقا لأهدافها الحيوية. وفور صدور هذه الاستراتيجية، عقدت روسيا اتفاقيتين عسكريتين مع كلا من أثيوبيا ونيجيريا على التوالي، حيث تحتفظ أثيوبيا بتأثير كبير في منطقة شرق أفريقيا والقرن الأفريقي، وكذلك نيجيريا في منطقة غرب أفريقيا.
مصالح روسيا في البحر الأحمر
تحاول روسيا تسخير جهودها من أجل الاستفادة من كافة الإمكانات التي تتيحها منطقة البحر الأحمر مدفوعة بجملة من المصالح:
مزاحمة القوى الكبرى
أصبح البحر الأحمر ميدان نشط للتنافس العسكري بين الدول الكبرى، التي سعت نحو مد حضورها العسكري في المنطقة من خلال التوسع في امتلاك القواعد العسكرية. على سبيل المثال: في جيبوتي، تنشط الولايات المتحدة في معسكر ليمنونير الذي يضم حوالي 4000 جندي أمريكي باعتباره مرتكز رئيس للقوات الأمريكية في أفريقيا، كذلك تضم القاعدة الفرنسية مجموعة من الطائرات الهيلوكوبتر وميراج القتالية. وبدوافع اقتصادية انتقلت الصين للمنافسة على مضيق باب المندب، حيث أنشأت قاعدة دعم لوجستي في جيبوتي لتدعم مشاريعها في المنطقة، خاصة مشروع الحزام والطريق. وبهدف دعم عمليات مكافحة القرصنة في البحر الأحمر، أنشأت اليابان قاعدة عسكرية في عام 2011، بجانب القاعدة العسكرية الإيطالية وأخرى أسبانية.
عكست هذه التحركات خلال العقدين الماضيين الأهمية الجيوستراتيجية للدول المشاطئة للبحر الأحمر في ظل المشاريع الاقتصادية والتوسعات الأخيرة من جانب القوى الاقتصادية المختلفة، كذلك مثلت ساحة للتنافس الإقليمي بين دول الخليج وإيران وتركيا، إذ حرصت الأخيرة على تطوير ميناء سواكن في السودان، مما مثل دافعا قويا أمام روسيا للانتقال بأدواتها إلى منطقة البحر الأحمر باعتبارها ساحة تنافس ذات ثقل استراتيجي يسهم في رسم الخريطة السياسية العالمية.
ساحة جديدة للمناورة على غرار سوريا وليبيا
تحاول روسيا إثبات حضورها في مختلف الصراعات الدائرة في منطقة الشرق الأوسط وأفريقيا، على سبيل المثال دورها في سوريا، كداعم لنظام بشار الأسد ووسيط ممثل عنه مع مختلف الجهات المحلية والدولية بما جعلها شريك لا غنى عنه لكافة الأطراف، وفي ليبيا من خلال نشر قوات الأمن التابعة لشركة فاغنر الروسية المساندة للجنرال خليفة حفتر في الشرق أو دعم سيف الإسلام القذافي باعتباره ورقة حل متناسبة مع رؤيتها.
وفي ظل التحركات الأخيرة في ليبيا وقرارات مجلس الأمن بسحب القوات الأجنبية خارج ليبيا، تسعى روسيا إلى إيجاد ساحة بديلة لنشر قواتها وإبراز نفوذها والمشاركة كلاعب رئيس على طاولة المفاوضات.
وفي هذا الشأن، تحاول روسيا بخطوات حثيثة تثبيت حضورها في أفريقيا خلال الآونة الأخيرة -بما يساعد على تواجد تدريجي على البحر الأحمر- ففي عام 2018، نشرت شركة فاغنر في أفريقيا الوسطى جنودها لتأمين أنشطة التعدين واستخراج الذهب والماس لشركة “لوباي إنفست” الروسية، حيث يتواجد على أرضها ما يزيد عن ألف مقاتل، كما شاركت في موزمبيق منذ عام 2019 في تأمين أنشطة الغاز في إقليم كابو ديلجادو في الشمال.
استعادة إرث الاتحاد السوفيتي
حتلت أفريقيا مكانة كبيرة في وثيقة السياسة الخارجية الروسية عام 2016، فلطالما اتسمت السياسة الروسية في عهد الرئيس فلاديمير بوتين بمحاولة العودة إلى إرث الإمبراطورية السوفيتية، من خلال تأكيد وجودها في الشرق الأوسط والقرن الأفريقي. ونصت الوثيقة على توسيع العلاقات الروسية مع دول قارة أفريقيا في مختلف المجالات، فضلاً عن المساهمة في تسوية الصراعات والأزمات الإقليمية -دورها في حل النزاع في جنوب السودان- بهدف تعظيم دورها على الساحة الدولية.
وأثناء التنافس بين المعسكرين الشرقي والغربي خلال الحرب الباردة، توسع الاتحاد السوفيتي في إنشاء القواعد العسكرية، ومثلت دول البحر الأحمر إحدى ساحات هيمنته، ففي السبعينيات، سيطرت القوات الروسية على قاعدة عسكرية في أرض الصومال، وكذلك أرخبيل دهلك على البحر الاحمر الذي مثل قاعدة إمداد بحرية لدعم عملياتها في المحيط الهندي، وأيضا قاعدة العند الجوية في اليمن؛ لتغطية عمليات الاستطلاع البحري في المحيط الهندي أثناء الحرب الباردة. وقد أدى سقوط الاتحاد السوفيتي إلى تقليص كبير للوجود الروسي في أفريقيا والشرق الأوسط، وإغلاق مختلف القواعد العسكرية الروسية، وهو ما تحاول استعادته.
الأهمية الاستراتيجية للبحر الأحمر
لا يقتصر البحر الأحمر على كونه ممر دولي، ولكن توسعت أهميته نظرا لكونه أحد مقومات التجارة الدولية وأمن الاقتصاد العالمي، حيث يمر به 10٪ من التجارة العالمية و9٪ من شحنات النفط يوميا، كما أنه الرابط بين دول الخليج منتجي النفط والأسواق الأوروبية، ما يجعله رابع أكثر الممرات المائية في العالم ازدحاما.
ومن ثم تصاعدت الأهمية الاقتصادية للبحر الأحمر، إذ طبقا لتقديرات الأمم المتحدة، من المتوقع أن يرتفع حجم التجارة العابرة للبحر الأحمر من 880 مليار دولار إلى قرابة 5 تريليونات دولار بحلول عام 2050. وبجانب دوره في الملاحة الدولية، كثفت اكتشافات الطاقة حديثا في حوض البحر الأحمر من الأهمية الاستراتيجية للمنطقة، التي حظت باهتمام الشركات العالمية العاملة في التنقيب مثل شركة شيفرون الأمريكية وشركة شل الهولندية.
الالتفاف حول عقوبات الناتو
عقب قيام روسيا بضم شبه جزيرة القرم، والذي استتبعه إدانة دولية، واتخاذ الاتحاد الأوروبي قرارا بفرض مجموعة من العقوبات عليها وبالتالي تضييق الخناق على تحركاتها، قررت روسيا التحرك خارج نطاق حلف الناتو وبحثت عن تحالفات جديدة؛ لإعادة بناء صورتها كقوة عالمية، وتحجيم أثر النفوذ الغربي عليها، وتطويق دول الاتحاد الأوروبي لها. لذلك انتهزت فرصة خروج بعض القوات الأجنبية في أفريقيا، وسعت لملء الفراغ الأمني ولعب دور سياسي لإبراز نفوذها كقوة عظمى ومن ضمنها منطقة البحر الأحمر التي أصبحت ساحة جديدة للتنافس الدولي.
مصالح اقتصادية
سعت القوى الدولية إلى التوسع والسيطرة في البحر الأحمر، مما خلق منافسة شرسة للاستحواذ على تلك الموانئ، فمثلا تمتلك الصين 23,5٪ من حصة السيطرة على المناطق الحرة والموانئ الخاصة بجيبوتي، ولهذا اتجهت روسيا إلى عقد اتفاقيات اقتصادية مع الدول المشاطئة للبحر الأحمر.
وبمساعٍ اقتصادية، زادت روسيا من حجم التبادل التجاري مع دول أفريقيا حتى بلغ حوالي 20 مليار دولار في عام 2020، كما أنها تستهدف أفريقيا كسوق أسلحة باعتبار أن الدول الأفريقية تقع على رأس قائمة مستوردي الأسلحة من روسيا، بحيث شكلت 18٪ من إجمالي صادرات الأسلحة الروسية بين عامي 2016 و2020 وفقا لتقرير معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام، فضلا عن جهودها في الاستثمار في النفط والغاز والتعاون في ملف الطاقة النووية.
أدوات النفوذ الروسي في البحر الأحمر
القمم الدبلوماسية
حاولت روسيا توثيق علاقاتها بالدول الأفريقية من خلال مجموعة من الزيارات والقمم، على رأسها “قمة سوتشي” في عام 2019 التي أرست قواعد انطلاق العلاقات بين الطرفين في مختلف المجالات، والاستفادة من الموارد والإمكانات المتبادلة، وخلق عمق استراتيجي لها في المنطقة.
وعلى مدار الأعوام الأخيرة، شرع الدب الروسي في إعادة رسم خريطته التجارية، وتوجيه جهوده إلى التعاون الاقتصادي مع أفريقيا، وظهر ذلك التعاون من خلال حوار الأعمال أثناء منتدى سان بطرسبرغ الاقتصادي الدولي في دورة انعقاده 2017- 2018م، وأيضًا اجتماعات البنك الإفريقي للاستيراد والتصدير السنوية، ثم المائدة المستديرة للطاقة الروسية الأفريقية في يونيو 2018.
وتأكيدا على مساعي روسيا في البحر الأحمر، قام وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف بجولة خليجية في عام 2019، اجتمع خلالها بكبار القادة في عواصم قطر والسعودية والكويت والإمارات أسفرت عن مجموعة من التفاهمات الاقتصادية والعسكرية.
القاعدة العسكرية في السودان
برزت خطة إقامة قاعدة عسكرية على البحر الأحمر بشكل واضح خلال السنوات الأخيرة، وكانت روسيا تستهدف أن تجد موطئ قدم في جيبوتي، ومن ثم عقدت مع السودان اتفاقية تسمح بإنشاء أول قاعدة بحرية روسية في أفريقيا في السودان لمدة 25 عامًا على الأقل في ميناء بورتسودان. ويمنح الاتفاق روسيا حق التمركز لـ 300 فرد عسكري ومدني بجانب عدد من السفن، بما في ذلك السفن التي تعمل بالطاقة النووية.
ومثلت هذه الاتفاقية نقطة انطلاق للتواجد الروسي في أفريقيا لاسيما لعب دور مركزي على ساحل البحر الأحمر، خاصة في ظل تنامي العلاقات الروسية السودانية، إذ تعد السودان ثالث أكبر سوق للأسلحة بالنسبة لروسيا. كما يتضمن تفاهمات عسكرية مشتركة بين الطرفين، مما استدعى وصفه لدى البعض باستنساخ للدور الروسي في سوريا، حيث كانت القاعدة العسكرية الروسية “طرطوس” مركز دعم لوجيستي في البداية قبل أن تتحول إلى قاعدة عسكرية بحرية كاملة مزودة بأنظمة دفاعية شاملة مثل منظومة الدفاع الجوي “إس – 300”.
الاتفاقيات العسكرية والتجارية
سعت روسيا لربط علاقاتها مع دول البحر الأحمر من خلال مجموعة من الاتفاقيات في مجال التعاون العسكري والاستثمارات وعلى مستوى قطاع الطاقة، إذ وقعت مع السعودية برنامج تعاون حضاري في مجال الإسكان وتطوير المدن عام 2020، وكذلك اتفاقية عسكرية في 2021 في خضم منتدى “الجيش 2021” العسكري التقني في روسيا.
وفعّلت روسيا العلاقات الاقتصادية مع السودان في خطوات مكملة للتعاون العسكري، حيث أسفرت اللجنة الوزارية الروسية السودانية في دورتها الأخيرة في يوليو 2021 عن تفاهمات بشأن الاستثمار في مجالات النفط والغاز والمعادن، بالإضافة إلى مباحثات بشأن إعفاء السودان من جزء من الديون الروسية.
وفي إطار خطوة موسعة لضم أغلب الدول الأفريقية في سلسلة من التحالفات المشتركة، وقعت اتفاقا عسكريا مع نيجيريا في آواخر أغسطس 2021 لتزويد القوات النيجيرية بالمعدات العسكرية والتدريب والتكنولوجيا، بجانب الاتفاق العسكري مع الحكومة الأثيوبية، الذي خرج في ختام منتدى التعاون العسكري الإثيوبي الروسي في دورته الـ11، والذي تضمن تفعيل التعاون العسكري بينهما في التكنولوجيا وتبادل الخبرات في مجال العلوم العسكرية والتقنية.
شركة فاغنر
كذلك حاولت لعب دور فاعل في الصراعات الدائرة ودعم الحكومات الحليفة، إذ أرسلت مدربين عسكريين وأفراد أمن من شركة فاغنر -التي تحاول إحياء دور شركة بلاك ووتر الأمريكية- وأكد ذلك بيان صادر عن الخارجية الروسية في يوليو، قائلا: “تم إرسال مجموعة من المدربين الروس إلى جمهورية إفريقيا الوسطى بناءً على طلب قادتها وبمعرفة لجنة العقوبات التابعة لمجلس الأمن التابع للأمم المتحدة بشأن جمهورية إفريقيا الوسطى التي تم إنشاؤها بموجب القرار 2127”.
وبذلك تسعى روسيا لترسيخ دورها في أفريقيا من خلال الدعم البشري والمادي والتقني والعسكري تحقيقا لطموحاتها في المنطقة كقوة عظمى.
هل تنجح استراتيجية روسيا في البحر الأحمر؟
يشكل التوغل الروسي في أفريقيا على المستوى السياسي والعسكري والاقتصادي تهديدا كبيرا على أمن المنطقة، إذ أن ذلك التقارب جعلها ساحة لتقاسم السيادة والمنافع بين القوى الكبرى بجانب التبعية الاقتصادية. كما أن المساعدات تتضمن مبدأ المشروطية السياسية مما ينتهك سيادة واستقلال الدول وحقها في الانتفاع بمواردها، بجانب تدخلها لدفع أجندتها في دعم بعض الحكومات على حساب أخرى.
والملاحظ في الفترة الأخيرة أن أفريقيا تعرضت لضغوط أمريكية، تحت مسمى ورقتي الديمقراطية وحقوق الإنسان، ما دفع بعض الحكومات لتعزيز شراكتها مع روسيا ليس باعتبارها حليفا موثوق وإنما شريك مؤقت يساعدها على تجاوز تلك الضغوط، وهو ما أبطأ المساع الروسية.
وكدليل واضح على ذلك، يمكن النظر إلى الاتفاقية الروسية مع السودان لإقامة منشأة بحرية بالقرب من ميناء بورتسودان، والتي جاءت في ظل تدهور علاقات الولايات المتحدة مع المكوّن العسكري للحكومة الانتقالية في السودان، وعدم رفعها العقوبات المفروضة منذ عهد عمر البشير. ولكن وبعدما تحسنت العلاقات الأمريكية، وبضغط منها، تراجعت السودان عن الاتفاقية الروسية وقررت مراجعة بنودها، ما يهدد بفقد الروس لقاعدتهم الوحيدة في المنطقة، وثاني منشأة خارج حدودها بعد ميناء طرطوس.
كذلك لا يمتلك الدب الروسي الإمكانات الاقتصادية مثلا للصين، والتي مكنتها من فرض نفوذ متسارع في القارة السمراء، فبعيدا عن الدبلوماسية والدعم العسكري واتفاقات الطاقة، تظل روسيا بعيدة عن مواكبة الصينيين أو الأمريكيين فيما يتعلق بالمساعدات الاقتصادية.
يمكن القول إن الاستراتيجية الروسية في البحر الأحمر وأفريقيا ليست ممهدة ويجابهها الكثير من المعوقات كضعف القدرات الاقتصادية والتقنية غير العسكرية والاصطدام القوي بالمصالح الغربية، وإن ظلت قادرة على حفظ موطئ قدم من خلال استثمارتها في الطاقة و شراكاتها العسكرية في مناطق التوتر والنزاعات الداخلية.