نتيجة لبقائه الطويل في السلطة، وماكينة الدعاية الجبارة التي نظّمها منذ صعوده للسلطة، لم تعد روسيا بوتين بعيدة عن الاتحاد السوفيتي الذي عاش في كنفه طويلاً. فقد أحكم “القيصر”، كما اعتاد مواطنيه تلقيبه، قبضته الكاسحة على البلاد، سواء كان رئيسًا، أو رئيس وزراء، أو حتى كرئيس حزب يملك الأغلبية الدائمة في مقاعد مجلس النواب.
ورغم ما تتداوله وسائل الإعلام الروسية حول نزاهة وشفافية الانتخابات، سواء البرلمانية أو الرئاسية، إلا أن الجميع يعلم أن جميع مواضع السلطة في البلاد صارت مثل دمية ماتريوشكا الموجودة على مكتب الرئيس. وهي دمية شهيرة في الثقافة الروسية على شكل امرأة ريفية ترتدي سرفان وحجاب، وتأخذ الشكل البيضاوي المسطح.
تنقسم ماتريوشكا إلى جزئيين قابلين للانفصال عن بعضهما، وتحوي بداخلها دمي أخري بنفس الشكل ولكن أصغر حجما، تبدأ من ثلاثة أحجام ويزداد العدد. هكذا الوضع لمن يخوض في السياسة الروسية، الجميع يتشابه في الخضوع مهما اختلف حجمه.
إحساس منخفض بالمخاطر
في شتاء 1968 كان الفتى فلاديمير فلاديميرفيتش بوتين يسير في شوارع ستالينجراد قارصة البرودة. لم يكن قد أتم عامه السادس عشر، لكنه كان بالفعل قد حدد وجهته في الحياة، عندما طرق ذات صباح بوابة مبنى الاستخبارات المرعب KGB طالبًا الانضمام لصفوفه. وقتها، سخر منه مُستقبِله ونظر إلى جسده اليافع في ازدراء.
قال الرجل، الذي كان واحدًا من موظفي الاستقبال في المبنى: “عليك أولًا أن تتوافر فيك مميزات، من أهمها الممارسة المكثفة للرياضة، والتفوق في الدراسة، والحصول على مؤهل جامعي، وأن تكون لديك نظرة عيون معبرة. عندها نحن من سيأتي إليك”.
كانت عباراته القليلة بمثابة دستور حافظ عليه الفتى، حتى عندما صار فيما بعد رئيسًا لإمبراطورية مقضي عليها فأحياها. قضى أعوامًا من التدريب الجسدي بجوار الدراسة، حتى تخرج من كلية الحقوق وانخرط في صفوف المخابرات السوفيتية التي تعلم فيها الكثير. لكن أهم ما احتفظ به إلى اليوم هو نفس النظرة التي تُخيف من يجلس أمامه.
بعد ثلاثة عقود كان بوتين أحد الضباط الذين وقفوا بلا حيلة في مواجهة الجماهير الغاضبة التي أوشكت على الفتك بكل ما هو سوفيتي في أعقاب هدم سور برلين في 9 نوفمبر 1989، بعدما حاول زملاؤه الاتصال بالمقر الرئيس في موسكو لتلقي التعليمات عن كيفية التعامل مع الحشود. وحماية مخزون مرعب من الأسرار والمعلومات الحساسة من الذين اقتحموا مبنى الاستخبارات الألمانية “شتازي” ثم انتقلوا إليهم؛ لكن موسكو في تلك الليلة لم ترد.
الوحيد الذي تصدى للجماهير كان الضابط ذو النظرة المخيفة الذي قال: “أريد منكم التراجع عن اقتحام هذا المبنى. أنا هنا بالداخل ومعي فريق مسلح على استعداد أن يطلق النار. لا أريد أن يقع ذلك”.
بعد لحظات من الصمت تفرق الجمع؛ لكن ما قاله الكولونيل للجماهير حفظ في سجلات المخابرات السوفيتية، ثم ذيَّل بتقييم مختصر هو “لديه القدرة على مواجهة الطوارئ مع إحساس منخفض بالمخاطر”. هذا الوصف هو ما اعتمد عليه رؤساء بوتين في تصعيده للمواقف الحرجة. وهو ما دفع بوريس يلتسن، أول رؤساء روسيا الاتحادية، إلى الثقة به وإعطاؤه مفاتيح الكرملين قبل أن يُغادره.
درس لا يُنسى
بقي بوتين في السلطة حتى الآن مدة أطول من تلك التي مكث فيها ليونيد بريجنيف، إلى درجة أن جيلاً كاملاً ترعرع دون أن يعرف زعيماً غيره. وتعلم ليلة سقوط سور برلين درسًا لا يُنسى ساعده في الداخل والخارج، وهو بناء جهاز دعائي قوي يُمكنه توجيه الجماهير، كذلك تعلم جيدًا عدم الاستناد لما يظهره الآخرون من مشاعر ود وترحيب، فقد رأى بعينه الغرب يحتفي بجورباتشوف ويلتسين، ثم تخلص منهما بعد مدة قصيرة. كذلك فهم أن أمريكا فازت في الحرب الباردة بالدعاية.
خلال بناء إمبراطوريته الجديدة، وفي الوقت الذي كانت أمريكا تبدأ حروبها في أفغانستان والعراق، حشد الرئيس الروسي شعبه عبر القنوات الإعلامية التي تنافس في توغلها وانتشارها وسائل الإعلام النازية، فظهرت شبكة RT “روسيا اليوم” في عام 2005، باللغات الإنجليزية والعربية والإسبانية والألمانية والفرنسية، والتي سجلت عام 2015 ما يقرب من 700 مليون مشاهدة في أكثر من مائة دولة. كذلك أضاف في عام 2012 موقع “سبوتنيك” الإخباري. ما دفع رئيس لجنة الشؤون الخارجية بمجلس النواب الأمريكي للشكوى من ضعف التأثير الدعائي لبلاده أمام الإعلام الروسي المتوغل في أوروبا والشرق الأوسط وأمريكا اللاتينية.
القبضة الدعائية
بما يزيد عن التوقعات، كان موقع روسيا اليوم هو أول من أعلن النتائج الأولية لانتخابات مجلس النواب الروسي “الدوما”، بعد فرز نحو 68% من الأصوات. حيث تقدم حزب “روسيا الموحدة” الحاكم وحصوله على نسبة 49% من الأصوات، ولازال يقترب من الحصول على أكثر من 300 مقعدًا، بينما احتل “الحزب الشيوعي لروسيا الاتحادية” المرتبة الثانية بنسبة أصوات بلغت 20.44%.
وثالثًا، حصل “الحزب الليبرالي الديمقراطي الروسي” على 7.75% من الأصوات، وفي المرتبة الرابعة يأتي حزب “روسيا العادلة-من أجل الحق” الذي حصل على 7.45%، وفي المرتبة الخامسة حزب “الناس الجدد” بنسبة أصوات بلغت حتى الآن 5.60%..
ويتطلب الوصول إلى مجلس الدوما أن تتجاوز الأحزاب المشاركة في الانتخابات عتبة 5% من أصوات الناخبين. ومن المتوقع، حسب تأكيدات اللجنة المركزية للانتخابات في روسيا، أن يتم الإعلان عن النتائج الرسمية النهائية للانتخابات يوم الجمعة المقبلة.
في ساحة الشرق الأوسط
في تحليل سابق إثر الانتخابات الرئاسية الأخيرة في موسكو، والتي ضمنت لبوتين ولاية جديدة وربما أخيرة، أوضحت آنا بورشفسكايا زميلة “آيرا وينر” في معهد واشنطن، أن المكانة العسكرية الروسية تتعاظم في المنطقة إلى ما يتخطى حدود سوريا والعراق، لا سيما في مجال الدفاع الجوي “فاستعراض القوة وصفقات بيع الأسلحة سيبقيان أمران مهمان لموسكو بعد الانتخابات، باعتبارهما مصدرا ربح مادي ووسيلة للتأثير”.
وأوضحت أن إمكانية الوصول إلى المرافئ الإقليمية بالمنطقة هو جانب يستحق الانتباه “فبناء موانئ جديدة أمر مكلف، لكن بوسع موسكو ضمان حقوق الإرساء لسفنها في مناطق مثل ليبيا لتجنب مثل هذه التكاليف. وقد يتدخل بوتين أيضاً في ليبيا كصاحب نفوذ فيكسب بذلك الاهتمام الدولي الذي يتوق إليه”.
ولفتت بورشفسكايا إلى نفوذ موسكو في الخليج العربي ومحاولاتها التدخل في الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي”.
صحيح أن هذه المخططات وغيرها من الخطط الإقليمية قد لا تؤول إلى نجاح، ولكن في غياب استراتيجية غربية متماسكة تجاه روسيا أو إعادة إحياء القيادة الأمريكية في المنطقة، لا يوجد ما يحد من جهود بوتين ويوقف انعدام الاستقرار الذي سيترتب عنها على المدى الطويل”.
لا قيمة للدوما خارجيًا
“حصول حزب بوتين على الأغلبية الدستورية هو أمر اعتاده الروس والرأي العام الروسي. لكن تأثير ذلك على علاقات روسيا مع الدول الأخرى، سواء الغربية أو الشرقية، أو المنطقة العربية، يكاد يكون منعدم”؛ هكذا أوضح الصحفي والأكاديمي الدكتور أشرف الصباغ، مشيرًا إلى أن مجلس الدوما لا يلعب دورا مهما أو مؤثرا في سياسات موسكو الخارجية.
يُضيف: “البرلمان بشكل عام، وبكل تكتلاته وعلى رأسها كتلة الحزب الشيوعي، لا يختلف مع توجهات وأوامر الكرملين، كما أن حزب “روسيا الموحدة” هو حزب الرئيس بوتين الذي يوافق دائما على كل توجيهاته في البرلمان وخارج البرلمان”.
وعلى عكس ما قد يبدو للبعض، يُشير الصباغ إلى أن الحزب الشيوعي الروسي لم يعد يختلف مع الكرملين ولا مع سياسات الرئيس بوتين. ويكاد يقف على يمين التيار اليميني القومي الحاكم. وأعرب خبراء كثيرون عن قناعتهم بأن نتائج انتخابات مجلس الدوما في دورته الحالية هي “انتخاب شخصي للرئيس بوتين الذي لا يوجد له منافسون أصلا في أي انتخابات من جهة، واختبار لقوة قبضة الكرملين على البلاد من جهة أخرى”، خاصة في ظل معارضة التيارات التابعة لألكسي نافالني القابع حاليا في السجون الروسية، وفي ظل العقوبات الغربية والمشاكل الاقتصادية والاجتماعية.
وتابع: “لن يؤثر صعود الحزب أو حتى عدم صعوده على سياسات وتوجهات الرئيس بوتين في علاقة روسيا بدول الشرق الأوسط، لأن القرارات يتخذها شخص واحد فقط في البلاد، وهو الرئيس بوتين”.
يلفت الخبير بالشأن الروسي لـ”مصر 360″ أن الغرب يتهم روسيا بعدم شفافية الانتخابات البرلمانية وقمع المعارضة وتهميش القوى التي لا تتفق مع سياسات الكرملين وإغلاق المجال السياسي بشكل عام وقصر المنافسة على تيارات تابعة للكرملين “لكن موسكو الرسمية ترى أن ذلك يمثل تدخلا سافرا في الشؤون الداخلية الروسية، وأن الغرب ليس من حقه إبداء رأيه في انتخابات دولة ذات سيادة مثل روسيا”.
ويلاحظ الصباغ، المقيم بموسكو منذ ما يقرب من ثلاثة عقود، أن هناك “هوة حقيقية واسعة للغاية بين وجهات النظر والتقييمات الرسمية الحكومية للانتخابات والحملات الإعلامية التي تقوم بها وسائل الإعلام الروسية، وبين الشارع الروسي نفسه”، حسب قوله.
يستطرد: “يبدو المواطن العادي في وادي آخر تماما ولديه رأيه الخاص الذي يختلف تماما عن آراء ووجهات نظر وسائل الإعلام الحكومية والبروباجندا الإعلامية التي يصدرها الكرملين والمؤسسات الحكومية إلى الخارج”.