الكاتب البريطاني الشهير في صحيفة التايمز البريطانية “روجر بويز” تخيل نفسه مسئولا عن سياسات المعونة للدول المانحة لمنطقة الشرق الأوسط ليوماً واحدا. وكتب قائلاً إن أول وأهم ما سيقوم به هو اجتماع للموظفين، صارخاً فيهم “الماء.. الماء.. في كل مكان” هذه هي المشكلة التي يجب أن تؤرقنا جميعاً.
ورغم تصدر أزمة “سد النهضة” على نهر النيل والصراع بين مصر والسودان من جهة وإثيوبيا من جهة أخرى الأنباء في العالم حول صراعات المياه. إلا أن الشرق الأوسط يعج بصراعات أكثر اشتعالاً منذ سنوات.
وبحسب تقرير “تنمية الموارد المائية” الصادر عن “الأمم المتحدة” العام الماضي. سيعاني 4 مليار إنسان على الأرض من فقر مائي شديد بحلول عام 2050.
ويشير التقرير إلى أن منطقة شمال أفريقيا والشرق الأوسط وحوض النيل من أكثر المناطق التي ستعاني من عجز في المياه. بما يهدد قدرة دولها على توفير احتياجات سكانها من الغذاء وتوليد الطاقة. خاصة في ظل التزايد المستمر في أعداد السكان وتناقص الموارد المائية.
كما حدد تقرير لـ “مركز الأبحاث المشتركة” التابع للمفوضية الأوروبية صادر عام 2018. كلا من نهر النيل ونهري دجلة والفرات، بين خمس مناطق في العالم ستكون في القريب مسرحا لصدامات مسلحة دفاعا عن الموارد المائية.
بلاد ما بين النهرين بدون مياه عام 2040
توقع تقرير صادر عن الأمم المتحدة أن تجف مياه نهري دجلة والفرات بحلول عام 2040 بسبب مشاريع السدود علي النهرين. اللذين طالما نسب إليها وصف العراق ببلاد ما بين النهرين، وكانا سببا في نشأة أولى الحضارات البشرية في التاريخ حول مجراهما.
وانخفضت إيرادات النهرين المائية التي تشكل 70% من احتياجات المياه في العراق بنسبة 50% هذا العام عما كانت عليه عام 2003 وقت الغزو الأمريكي للعراق. لتصل إلي 50 مليار متر مكعب سنويا. يضاف إليها ما يقارب 20 مليار متر مكعب من مياه الأمطار تشكل 30% من احتياجات البلاد.
ويشترك العراق في أكثر من 50 نهرا مع بلدي الجوار تركيا والعراق. أغلبها روافد صغيرة للنهرين الرئيسيين دجلة والفرات القادمين من تركيا واللذان يساهمان بأكثر من 80% من المياه القادمة للأراضي العراقية.
وبضعف النظام السياسي في العراق بعد احتلاله من قبل الأمريكيين عام 2003. فشلت الحكومات المتعاقبة في فرض أي اتفاق على جيرانها فيما يتعلق بمشاريعهما للتحكم في مياه الأنهار وتقليل حصة العراق منها.
مشروع الغاب
ومنذ أواخر الثمانينات شرعت تركيا في تنفيذ مشروع “الغاب GAP” الذي يتضمن إنشاء 22 سدا و19 محطة كهرومائية على نهري دجلة والفرات،.
وباكتمال المشروع ستتمكن تركيا من السيطرة التامة على مياه النهرين، تمهيدا لفرض مشروعها التالي المسمى “أنابيب السلام” لبيع المياه لدول المنطقة عبر إنشاء خطي أنابيب أحدهم سيمرر المياه للبنان وإسرائيل والأردن بطول 2700 كيلومتر، والآخر خط عربي ممتد إلى اليمن مع تفريعات تغذي الكويت وقطر والإمارات وعمان والمملكة العربية السعودية بالمياه بطول 3900 كيلومتر.
ورغم رفض كل الدول العربية للمشروع في السابق لكونه يضع المنطقة بأكملها تحت الهيمنة التركية. إلا أن الرهان التركي ما زال قائما على إمكانية المشروع في فرض نفسه بسبب العوامل المناخية التي تؤثر على إيرادات المنطقة المائية وبسبب ارتفاع تكلفة تحلية مياه البحر التي تعتمد عليها أغلب دول الخليج.
وبسبب المشاريع التركية والإيرانية على الأنهار المشتركة مع العراق. تحولت أراضي محافظة ديالي التي كانت تعد أخصب مناطق العراق إلى خراب بسبب شح المياه. ومهددة بالتصحر الكامل خلال أقل من عشر سنوات. كما تسبب انخفاض منسوبي دجلة والفرات في ارتفاع نسبة الملوحة في أراضي الأهوار جنوب العراق التي عانت من جفاف شديد أدي إلي نفوق الحيوانات والأسماك وهجرة أغلب سكانها إلي مناطق العراق الأخرى.
الباحث العراقي “خلدون نقره” المتخصص في علم الاجتماع يقدر بأن “أكثر من خمسة ملايين نسمة ستضطر للهجرة من مناطقها الريفية إلى المدن خلال السنوات الثلاث القادمة فقط، محذرا من اضطرابات اجتماعية واسعة وتشكل مناطق العشوائيات والصفيح حول المدن بدون أي خدمات صحية أو اقتصادية، مما يخلق بؤرة للتوتر الاجتماعي وللقوي المتطرفة في المنطقة.
سوريا تختنق بسبب نقص المياه
أعلنت السلطات السورية في مايو الماضي عن أكبر انخفاض في التاريخ لمنسوب نهر الفرات بأكثر من 5 أمتار ما يعرض أكثر من 3 ملايين شخص لفقدان مصدر غذائهم بسبب توقف ري الأراضي الزراعية وشح مياه الشرب. كما أثر انخفاض المنسوب على عمل محطات توليد الطاقة على مجرى النهر. ما دعا السلطات لحث المواطنين لترشيد استهلاكهم للكهرباء. موضحة أن كل ما تبقى لديها هو 6 مليارات متر مكعب من المياه المخزنة في بحيرة الفرات ستستخدم لمياه الشرب فقط.
ويخضع نصيب سوريا من مياه نهر الفرات لاتفاقية موقعة عام 1987 بين دول النهر الثلاث تركيا والعراق وسوريا. تقضي بتمرير تركيا 500 متر مكعب من المياه في الثانية إلى سوريا. ما يقدر بـ 16 مليار متر مكعب من المياه سنويا. ما انخفض الآن إلى أقل من 200 متر مكعب في الثانية فقط خلال هذا العام.
ويفاقم شح مياه نهر الفرات من أزمة الجفاف التي اجتاحت سوريا بدءا من عام 2006. التي دمرت جزءا كبيرا من الزراعة السورية. ودفعت بأعداد كبيرة من سكان الريف إلى الهجرة للمدن. التي يعيد إليها الكثير من المحللين السبب في الاضطرابات السياسية والاجتماعية التي أدت للحرب الأهلية في سوريا عام 2011.
صنعاء.. عاصمة الجفاف في العالم
صنعاء قد تصبح العاصمة الأولي في العالم التي تجف مياهها نهائياً. حيث تتناقص مياه الآبار في اليمن بشكل كبير كل عام. رغم وصول معظمها إلي عمق 400 متر تحت سطح البحر.
خبير شئون المياه بالوكالة الألمانية للتنمية باليمن “أنور السحولي” حذر من تحول صنعاء لمدينة أشباح خلال 20 عاماً، فالطبيعة لم تعد قادرة على إعادة ملء الخزانات الجوفية لتلبية احتياجات 23 مليون نسمة عدد سكان اليمن والمتوقع أن يتضاعف خلال 20 عاماً، فحجم المياه الذي تحتاجه البلاد يفوق مجموع ما تنتجه الخزانات الجوفية في اليمن.
وتستخدم 92% من المياه الجوفية المستخرجة في اليمن في الري والزراعة. 50% منها توجه لزراعة القات. وهو نبات مخدر يمضغه معظم اليمنيين حتى أثناء العمل. وتستهلك زراعته كمية كبيرة من المياه. ويحمل الخبراء الحكومة المسئولية عن أزمة المياه مطالبين بفرض قيود على الاستخراج العشوائي للمياه وعلي زراعة القات.
وبحسب تقديرات الأمم المتحدة يبلغ نصيب الفرد في اليمن من المياه الآن 198 مترا مكعبا سنويا. ما يجعلها أحد أفقر بلدان العالم في المياه.
وشهدت السنوات الأخيرة هبوط مستوى توفر المياه بنسبة 25%. رغم زيادة المزارعين من عمق آبارهم بمقدار 50 متر خلال السنوات العشر الأخيرة، ومع التوقعات باستمرار التدهور في الموارد المائية تزداد احتمالات نشوب صراعات بين السكان للسيطرة على المياه.
حرب الأربعة أيام بين مصر وليبيا
عام 1977 اشتبكت القوات المصرية والليبية في حرب استمرت أربعة أيام. بسبب إصرار مصر على الدفاع عن مواردها المائية، وتوقفت الاشتباكات بعد تدخل من القوى العظمى وقتها ممثلة في كل من الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة، ووساطة من عدد من الدول العربية والأفريقية.
واتهمت مصر وقتها ليبيا القذافي بسرقة المياه من الخزان الجوفي العظيم من خلال مشروع النهر الصناعي. بحفر 150 بئرا على أعماق كبيرة ومد أنابيب بطول 4200 كيلومتر لنقل هذه المياه لساحل المتوسط الليبي حيث تعيش أغلبية السكان.
ويمتد الخزان الجوفي من جنوب غرب ليبيا لداخل الأراضي المصرية في الجنوب الشرقي. وله امتدادات أخري في تشاد والسودان. ويتكون من مياه محجوزة لا تتجدد بين الصخور منذ آلاف السنين. منذ أن كانت منطقة الصحراء مغطاة بالثلوج.
وخشيت مصر وقتها من أن يؤدي سحب مياه الخزان الجوفي في تسرب مياه النيل لباطن الأرض. أو أن تتسبب عملية تراكم الطمي خلف السد العالي في تحويل جزء من مياه النيل إلي مجار أخرى تتوجه إلى الأراضي الليبية المنخفضة. ويكشف الباحث البريطاني “جون بولوك” في كتابه “حروب المياه: الصراعات القادمة في الشرق الأوسط” عن “إعداد القيادة العسكرية للجيش المصري لخطط طارئة سرية للسيطرة على مناطق واسعة غرب بحيرة ناصر جنوب غرب ليبيا. إذا ما دعت الحاجة. أو تسبب تراكم الطمي في خلق قنوات لمياه النيل تتدفق خارج الأراضي المصرية”.
وما تزال ليبيا أحد أفقر البلدان مائياً في العالم. تعاني من شح المياه منذ بداية الحرب الأهلية في البلاد. وانخفاض عدد الآبار العاملة على تزويد النهر الصناعي بالمياه من 149 إلى 101 بعد تدمير الكثير منها في الحرب. ما دعا الأمم المتحدة إلى التحذير من استخدام المياه كسلاح بين الأطراف المتصارعة.
إسرائيل تسرق مياه الدول المحيطة بها
دأبت إسرائيل منذ نشأتها عام 1048 على سرقة المياه من الأراضي المحتلة والدول المحيطة بها. وما تزال إسرائيل تسيطر على أكبر خزان ماء في المنطقة والمتمثل في “بحيرة طبرية” أكثر المناطق انخفاضاً في العالم للمياه العذبة بعمق يبلغ 213 متر تحت سطح البحر، والتي يصب فيها نهري “الليطاني” و “الوزاني” كما تغذيها أيضا ثلوج جبل الشيخ.
والبحيرة التي تقع بين الجليل والجولان السورية المحتلة، تعتبر من المصادر الرئيسية للمياه في إسرائيل وتوفر ربع احتياجاتها من المياه الصالحة للشرب، رغم تعرضها للجفاف تدريجيا بسبب كونها بحيرة مغلقة و تتأثر بارتفاع درجة حرارة الأرض.
كما تستمر إسرائيل في سرقة مياه “مزارع شبعا” اللبنانية الغنية بالمياه، وتحتلها إسرائيل بسبب مياهها الوفيرة التي تنبع من نبعين كبيرين هما “المغارة” و”الجوز” اللذان ينبعان من الخزان المائي “لجبل الشيخ” الذي يعد ثاني أكبر خزان مائي في شرق المتوسط.
نهر الأردن الذي ينبع من بحيرة طبريا ويصب في البحر الميت الذي سيطرت عليه إسرائيل بالكامل بعد حرب 1967 لكنه أخذ في الجفاف بسبب العوامل المناخية وارتفاع درجة حرارة الأرض.
ورغم سيطرتها على أغلب مصادر المياه في المنطقة. ما تزال إسرائيل تعاني من شح المياه بعد موجة الجفاف التي استمرت سبع سنوات من عام 2003 إلي عام 2011. لتتجه إسرائيل لزيادة مواردها المائية عبر تحلية مياه البحر. بإنشاء أكبر محطة في العالم في مدينة الخضيرة جنوب حيفا والتي تنتج 127 مليون متر مكعب من المياه العذبة سنويا.
وتعد قضية المياه أحد أهم الملفات المتعثرة التي تتسبب في فشل أي مفاوضات للسلام بين إسرائيل والفلسطينيين وكذلك لبنان بسبب رفض إسرائيل التخلي عن سيطرتها على مياه الأراضي المحتلة في الضفة الغربية والجولان السورية وسرقة مياه الجنوب اللبناني في مزارع شبعا..