نالت الحكومة اللبنانية المشكلة حديثا برئاسة “نجيب ميقاتي” ثقة المجلس النيابي بأغلبية 85 صوتا، وذلك بعد أن تقدمت الحكومة ببيانها الوزاري تحت عنوان “معا للإنقاذ”، والذي يمثل خارطة الطريق بالنسبة للمرحلة الراهنة.
وتعاني لبنان أزمات داخلية مركبة حالت دون تشكيل حكومة لمدة تزيد عن 13 شهر منذ استقالة حكومة تصريف الأعمال برئاسة “حسان دياب” في أغسطس 2020 عقب انفجار مرفأ بيروت. وبالتالي فإن حكومة ميقاتي يقع على عاتقها مسؤولية وضع استراتيجية مالية فعالة لإصلاح الانهيار الاقتصادي وإنقاذ البلاد وتخفيف معاناة الشعب اللبناني. بجانب تأهيل البلاد سياسيا وأمنيا لخوض الانتخابات التشريعية من أجل وضع البلاد على مسار مستقر بعد فترة طويلة من الغياب السياسي.
تحديات راهنة
الفراغ السياسي
منذ استقالة حكومة “حسان دياب” فور انفجار مرفأ بيروت، ظلت البلاد لمدة تزيد عن العام بدون وجود حكومة في ظل أوضاع متردية على المستوى السياسي والاقتصادي والاجتماعي. حيث عانى المواطنون انهيار اقتصادي لا مثيل له مما تسبب في انفجار اجتماعي الذي بدوره أجبر الشعب اللبناني على الخروج إلى الشوارع. احتجاجا على تردي الأوضاع ونظرا لما يعانيه الشعب اللبناني من أزمات متفاقمة. حال ذلك دون تشكيل حكومة مستقرة قادرة على الوفاء بحاجات المواطنين.
وفي هذا الصدد، جرت عدة محاولات لتشكيل الحكومة، ولكن باءت بالفشل، على سبيل المثال: رئيس الوزراء الأسبق “مصطفى أديب” الذي لم يستطع إقناع الكتل البرلمانية بتشكيلته الحكومية. وكذلك “سعد الحريري” رئيس تيار المستقبل، والذي واجه مشاكل متعددة تتعلق بالهوية السياسية للوزراء وإشكالية عدد الوزراء، مما دفعه نحو الاعتذار عن تشكيل الحكومة في منتصف يوليو.
وبالتالي ظلت البلاد حوالي 13 شهر بدون حكومة، بالتزامن مع سوء الأوضاع مما تسبب في ضغط شعبي في خضم انهيار اقتصادي غير مسبوق، وأعقب اعتذار الحريري. تسمية نجيب ميقاتي رئيسا للحكومة. والذي استطاع تشكيل مجلس الوزراء بالاتفاق مع كتل المستقبل وحزب الله وحركة أمل والحزب التقدمي الاشتراكي. وبالتالي يقع على عاتق الحكومة الجديدة معالجة ما تسبب فيه فراغ السلطة السياسية على مدار ال 13 شهر.
الأزمات الاقتصادية
تعاني لبنان أزمة اقتصادية متفشية نالت جميع القطاعات نتيجة فشل الحكومات المتعاقبة في تحقيق الاستقرار الاقتصادي. وتمثلت معالم التردي الاقتصادي وفقا لتقرير البنك المركزي في عدة صور منها وقوع 80% من المواطنين تحت خط الفقر. وارتفاع تكلفة الغذاء بنسبة 700% على مدار العامين الأخيرين، بالإضافة إلى العجز في توفير المواد الاستراتيجية وأهمها الأدوية والوقود والكهرباء. حيث بالكاد توفر الدولة الكهرباء لمدة ساعتين في اليوم، كما انخفض الناتج المحلي الإجمالي بنحو 33 مليار دولار 2020 عن مثيله في 2018 أي بنسبة تزيد عن 20%. وانخفض نصيب الفرد بنحو 40% بالدولار، وكذلك هبوط متوسط سعر الصرف، حيث انخفضت الليرة اللبنانية أكثر من 90% من قيمتها، وبالتالي ارتفاع معدل التضخم إلى 84.3 % في عام 2020. وترتب على هذه الأوضاع المزرية تخلف لبنان عن سداد ديونه الدولية، وبلغ حجم الدين العام ما يقترب من 90 مليار دولار في نهاية عام 2020.
وبناء على ما تقدم، يتعين على الحكومة الجديدة اتباع خطة إنقاذ مالية لانتشال البلاد من انهيار اقتصادي محقق، تبدأ بإصلاح قطاع البنوك التجارية والبنك المركزي. وكذلك إعادة هيكلة القطاع العام، وتحقيق استقرار العملة الوطنية، فضلا عن مكافحة التضخم. تمهيدا للتفاوض مع الدائنين الدوليين لاسيما صندوق النقد الدولي، للحصول على الدعم اللازم لتحقيق السيولة من النقد الأجنبي.
المحاصصة الطائفية
يتحكم النظام الطائفي في لبنان بمفاصل الحياة السياسية، وعلى مدار عقود ظل نظام المحاصصة الطائفية حجر عثر في سبيل استقرار الأوضاع السياسية. حيث أعاق تشكيل الحكومة في مختلف المرات، على سبيل المثال، أثناء تشكيل سعد الحريري للحكومة، لم يستطع تخطي إشكالية حجم الوزارة. بجانب الحصة المستحقة لكل تيار، حيث تمسك التيار الوطني الحر بكتلة الثلث في الحكومة مما يعني التحكم في قرار الحكومة. وكذلك أعاق تمسك الكتل الشيعية “حزب الله وحركة أمل” بالحقائب السيادية على رأسها حقيبة المالية والعمل والأشغال إمكانية “مصطفى أديب” تشكيل الحكومة.
ويأتي شكل الحكومة برئاسة ميقاتي استمرارية للشكل الطائفي، حيث حصل الرئيس عون وتيار الوطني الحر على حصة 6 وزارات (الخارجية والشؤون الاجتماعية والطاقة والمياه والسياحة والعدل والدفاع). أما الثنائي الشيعي (حزب الله وحركة أمل) فقد حصل على 5 وزارات (المال والأشغال والزراعة والعمل والثقافة). فيما حصل (تيار المردة) على حقيبتي الإعلام والاتصالات، وتوزعت حصة الدروز (الحزب التقدمي الاشتراكي والحزب الديمقراطي اللبناني) على التربية وشؤون المهاجرين. فيما منح كل من الحزب السوري القومي الاجتماعي منصب نائب رئيس الحكومة وأسندت الصناعة لحزب الطاشناق الأرمني. ورفض كل من حزب الكتائب وحزب القوات المسيحيين المشاركة في الحكومة.
ويأتي النظام الطائفي ترجمة لمصالح الجماعات السياسية دون النظر إلى أوضاع الشعب، ولم يستطع النظام الطائفي تلبية حاجات المواطنين. بجانب دوره في انتشار الفساد وتردي الخدمات الحكومية، لذلك خرج المواطنون إلى الشوارع مطالبين برحيل الطبقة الحاكمة. وإلغاء نظام المحاصصة الطائفية، ومثلت الاحتجاجات الشعبية التي شهدتها البلاد خلال عام 2019، انتفاضة حقيقية ضد النخب الطائفية.
حزب الله
يعتبر حزب الله أحد العراقيل الرئيسية أمام استقرار الأوضاع السياسية في لبنان، إذ أنه أحد العناصر الفاعلة في أزمة لبنان الحالية. لاسيما في ظل تقارير الفساد التي طالت أعضاءه. مما يفسر تمسك الكتلة الشيعية بوزارتي المالية والأشغال، وعلى مدار الأعوام الأخيرة أدخلت إيران (حزب الله) لبنان في ساحة المواجهة بينها وبين الولايات المتحدة والدول العربية. خاصة وأنه –حزب الله- مدرج على قوائم التنظيمات الإرهابية بالنسبة لكل من الولايات المتحدة وكندا وألمانيا وبريطانيا والأرجنتين وكذلك دول مجلس التعاون الخليجي.
وفي الفترة الأخيرة، حاول حزب الله الزج بلبنان إلى صراعات ونزاعات إقليمية بالمواجهة مع الولايات المتحدة وإسرائيل في ظل حرب الغواصات ومباحثات الاتفاق النووي الإيراني. ومؤخرا أعلن عن خطته توريد الوقود الإيراني إلى لبنان عبر سوريا، مما يعرض البلاد لخطر العقوبات الأمريكية. خاصة وأن هناك عقوبات أوروبية وأميركية لا تزال مفروضة على تصدير النفط الإيراني. وعبر عن خطورة هذه الخطوة رئيس الوزراء السابق “سعد الحريري” مضيفا: إنها قد تدفع لبنان إلى “نزاعات داخلية وخارجية”.
الانتخابات التشريعية
تعتزم البلاد خوض الانتخابات التشريعية في مايو 2022، والذي يتطلب من الحكومة الحالية برئاسة ميقاتي تحضير البلاد على كافة المستويات. لإجراء هذه الانتخابات في موعدها دون تأجيل. إذ أنها ضرورية من أجل تجديد النخبة السياسية وفقا لما أكد عليه البيان الوزاري الأخير.
ويحتاج إعداد البلاد لهذه الخطوة إنعاش المناخ السياسي لفتح قنوات التواصل بين التيارات السياسية المختلفة بهدف النقاش الحر. من أجل إعداد برامج سياسية قابلة للتطبيق لتغطية حاجات المواطنين. ورفع نسبة المشاركة السياسية –حيث بلغت نسبة 49.2% في انتخابات 2018-، وإشراك المجتمع المدني، وضمان نزاهة العملية الانتخابية. وهو ما يتطلب بالطبع النهوض بالوضع الاقتصادي لأجل تخفيف الأعباء المالية على المواطنين.
التحديات الإقليمية والدولية
تواجه حكومة نجيب ميقاتي أزمة ضرورة التعجيل في إصلاح العلاقات على المستوى الإقليمي والدولي:
بالنسبة للعلاقات مع دول الخليج، تسبب حزب الله في توتر العلاقات بين المملكة العربية السعودية ولبنان. في ظل الخلافات العميقة بين كلا من السعودية وإيران. نتيجة سعي إيران نحو التوسع في الدول العربية من خلا مد أذرعها وأهمها حزب الله. والذي صنفته دول المجلس التعاون الخليجي في قائمة التنظيمات الإرهابية منذ عام 2016. وقد تمكن الحزب من التحكم في مفاصل الدولة، مما دفع دول الخليج إلى التوقف عن تقديم المساعدات المالية إلى لبنان. حيث أشارت تصريحات وزير الخارجية السعودية الأمير “فيصل بن فرحان بن عبد الله” إلى تراجع مرتبة لبنان داخل الأولويات الخليجية. منوها “لبنان لن يزدهر بلا إصلاح سياسي ونبذ ميليشيات حزب الله”
ويأتي الموقف السعودي متسقا مع نظيره الإماراتي، حيث اشترطت الإمارات العربية المتحدة استئناف عودة الدعم المالي بإبعاد حزب الله عن الإدارة. وأكدت ذلك تصريحات وزير الدولة للشؤون الخارجية “أنور قرقاش” محذرا: “شهدنا تراكم المشاكل في لبنان. وشهدنا أيضاً إملاء للخطاب السياسي من جانب حزب الله، الذي يملك فعلياً جيشاً داخل الدولة”. وأضاف: “إذا أحرقت جسورك، فسيكون من الصعب عليك جداً استخدام الرصيد الهائل من حسن النية، والرصيد الهائل من الدعم المالي الذي يحتاج إليه لبنان”.
وعلى صعيد العلاقات مع الولايات المتحدة الأمريكية، اتخذت واشنطون إجراءات مشددة تجاه حزب الله. وكل من يدعمه من خلال وضعه على قوائم الإرهابيين وحظر أنشطته، وقررت تجميد المساعدات المقدمة إلى لبنان طالما تصب في مصلحة حزب الله. ولم تتغير السياسة الأمريكية مع وصول الرئيس الأمريكي “جو بايدن”، حيث صرحت المتحدثة الإقليمية باسم الخارجية الأمريكية “جيرالدين غريفيث”. إن الإدارة الجديدة للبيت الأبيض لن تغير موقفها وسياستها تجاه “حزب الله” اللبناني، مؤكدة أنه سيظل “منظمة إرهابية”. وأضافت: “نسعى للحدّ من التدخل الإيراني في المنطقة سواء في لبنان أو في اليمن”.
وعلى الجانب السوري، في محاولة لانتشال لبنان من أزمة إنسانية محققة، اتفق كل من وزراء الطاقة في الأردن ومصر وسوريا ولبنان. على توريد الغاز المصري لتشغيل معامل إنتاج الكهرباء في لبنان عبر الطريق البري من خلال سوريا. حيث تحتاج لبنان حوالي 600 مليون متر مكعب من الغاز لتوليد 450 ميجاواط من الكهرباء. وتم هذا الاتفاق بموافقة أمريكية بهدف التقليص من نفوذ حزب الله -الذي أعلن عن خطته بتوريد المازوت إلى لبنان عبر سوريا-. وبالتالي فإن سوريا أصبحت عاملا رئيسيا في إصلاح الأوضاع في لبنان مما يتطلب من الحكومة الجديدة محاولة إصلاح الخلافات التي أضرت بالعلاقة بين الدولتين.