في عام 1998 شنت حركة طالبان هجوما على القنصلية الإيرانية في مزار شريف لتقتل 11 دبلوماسيا ومراسلا صحفيا. في واحدة من أشد رسائلها دموية تجاه نظام الملالي الذي دعم تحالف الشمال الأفغاني بقيادة برهان الدين رباني وأحمد شاه مسعود. كادت الحرب تنشب بين البلدين، وتحركت القوات الإيرانية على طول الحدود المشتركة بينهما قبل أن تتراجع بفعل الضغط الدولي. لكن طهران لم تنس هذا الموقف وسيكون ماثلا في ذهنها بعد عدة سنوات.
في 2001، تقرر الولايات المتحدة بمعاونة التحالف الغربي غزو أفغانستان لإزالة نظام طالبان والقضاء على تنظيم القاعدة. تظهر طهران في الصورة وتلعب دورا هاما وحيويا في دعم هذا الغزو وإسقاط حكم الملا محمد عمر ورفاقه، من خلال توفير المعلومات الاستخباراتية والأمنية للأميركيين. وترد الصاع صاعين.
تمر سنتان، وخلالهما تتبدل أوراق اللعبة بعدما أحست طهران أنها محاطة بعملاء الجيش والمخابرات الأمريكية على حدودها الشرقية (أفغانستان) والغربية (العراق). وبدافع براجماتي، تقدم طهران دعما تكتيكيا عسكريا. وتفتح أبواب التواصل مع طالبان في الخفاء. فالهدف مشترك وهو استنزاف الولايات المتحدة عسكريا. رغم ذلك يبقى التوجس مسيطرا على العلاقة بين الطرفين.
في 2021 تعود طالبان إلى الحكم من جديد، بعد اتفاق مع الولايات المتحدة على الانسحاب من أرض الأفغان. تنسحب الإمبراطورية المهيمنة بارتباك وتخطيط غير متوازن فتبدو صورة الهزيمة أوضح مع دخول طالبان القصر الرئاسي. يطل الرئيس الإيراني الجديد ليبارك الهزيمة العسكرية للأمريكان وما تعنيه من فرصة لتحقيق السلام في الجارة الشرقية، وإمكانية تكرار هذا الانتصار في دول أخرى.
إلا أن العلاقة بين إيران وطالبان لا تبدو قائمة على الثقة. بقدر ما هي قائمة على الحذر الساعي للاستفادة من عدة فرص جيوسياسية واقتصادية تلوح في الأفق، وفي نفس الوقت المخاوف المتعلقة بطبيعة النظام الجديد حيث الأيدولوجية “السُنيّة” المناهضة والأقليات الإثنية ذات العلاقة المتشابكة واللاجئين على طول الحدود.
وهنا تصبح إدارة العلاقة بتوازن مهمة ليست سهلة تحتاج للكثير من الجهد، والاتفاق على الخطوط العريضة، في معرض خريطة تحالفات جديدة تتشكل بآسيا الوسطى.
انقسام إيراني بشأن طالبان
كانت إيران من بين دول قلة أبقت سفاراتها مفتوحة في كابول مع وصول طالبان للحكم. وقبلها استضافت طهران اجتماعا بين أفراد من الحركة والحكومة الأفغانية قبل سقوطها. ما قوبل برد فعل شعبي معادٍ، بحسب محمد موسوي زاده، المحلل والباحث الإيراني.
وفي الوقت الذي تعامل فيه الرئيس الإيراني الجديد إبراهيم رئيسي بحفاوة مع رحيل الأمريكين. ووصول طالبان. لم تستمر تلك الحفاوة مع إعلان الحركة تشكيل حكومتها المؤقتة. التي لم تكن “شاملة” مثلما وعدت، لتظهر التصريحات الرسمية الناقدة.
وفي أول تعليق على الحكومة قال وزير الخارجية حسين أمير عبد اللهيان. للرئيس الأفغاني السابق حامد كرزاي في اتصال هاتفي. إن طهران تريد رؤية حكومة شاملة في أفغانستان تقوم على الحوار بين جميع الفئات. مشددا على ضرورة تشكيل حكومة تعكس التركيبة العرقية والمجتمعية للبلاد، إذ أن البلاد لا يمكنها تحقيق السلام إلا بهذه الطريقة.
وحذر المجلس الاستراتيجي للعلاقات الخارجية، الذي ينصح المرشد الأعلى الإيراني آية الله علي خامنئي من أن “العلاقات بين إيران وطالبان أو الحكومة التي شكلتها لن تكون ودية”.
رفض شعبي
يبدو الرأي العام الإيراني الشعبي غير مرحب بوصول الحركة. التي بدأت في قندهار عام 1994. نظرا لتاريخها في استهداف أقلية الهزارة الشيعية. وهي أقلية تتحدث الفارسية والكثير منها لاجئين في إيران، وقد تبدى ذلك في انتقادات رئيسين سابقين أحدهما إصلاحي والآخر من المحافظين.
وقال الرئيس الإصلاحي السابق محمد خاتمي، الذي مُنع من الظهور علنًا بعد تنحيه في عام 2005: “أفغانستان معرضة للتهديد الرئيسي وواسع النطاق لنسخة طالبان من الإسلام”، محذرا من “خطر الفصل العنصري العرقي والثقافي والاجتماعي الناجم عن طالبان والذي يعرض المنطقة بأكملها، إن لم يكن العالم، للخطر”.
من جانبه كان الرئيس السابق محمود أحمدي نجاد أشد قسوة في لهجته. بعدما ادعى أن السلطات حثته على إبقاء فمه مغلقًا. وأن مسؤولا أمنيا هدده “بالتعامل مع أقربائه ومرافقيه”، بعد تحذيره من المخاطر التي تشكلها طالبان على إيران.
وقال نجاد: “ما هي طبيعة علاقتك مع طالبان حتى إذا ما قلنا عنهم شيئا تنزعج؟ عندما أرى تهديدًا خطيرًا على البلاد، لماذا يجب أن أصمت؟”.
وفي الأيام الأخيرة، وجهت السلطات الإيرانية وسائل الإعلام بالتخفيف من حدة أي انتقاد لطالبان. وتجنب استخدام مصطلحات مثل “الوحشية، والجريمة، والفظائع”، عند الإشارة إلى الحركة الديوبندية.
ويذكر المجلس الأطلسي (مؤسسة بحثية غير حزبية في مجال الشؤون الدولية). أنه من المحتمل أن تكون إعادة تشكيل العلاقة المثيرة للجدل. قد روجت لها شخصيات قوية داخل الحرس الثوري ممثلة في قائد فيلق القدس إسماعيل قآني. الذي يعد لاعبا مخضرما في أفغانستان ومجنّدًا مزعومًا لمقاتلي الهزارة في سوريا (لواء فاطميون)، مشيرا في الوقت نفسه إلى تسارع الجهود المبذولة لإعادة تشكيل وجهات النظر الإيرانية عن طالبان في الرأي العام.
لكن لم تكن إيران وحدها هي من تمد يدها إلى طالبان لتوسيع اتصالاتها ونفوذها في أفغانستان. إذ سعت الأخيرة أيضًا إلى استيعاب إيران لتوسيع الدعم الدبلوماسي.
رسائل متبادلة
وفي العام الماضي. قدمت طالبان عرضًا كبيرًا بتعيين رجل دين شيعي من مجتمع الهزارة حاكمًا لمنطقة في شمال أفغانستان. وأدانت بانتظام الهجمات على المساجد والأحياء الشيعية التي نفذها الفرع المحلي لتنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش)، المعادي لكل من إيران وطالبان. كما سمحت، فور وصولها للحكم، للشيعة بإحياء ذكرى عاشوراء، في مزار شريف، بل وحضر ممثل عن الحركة الاحتفالات.
في قمة منظمة شنغهاي للتعاون لعام 2021 التي عقدت الأسبوع الماضي في دوشانبي بطاجيكستان، تناول الرئيس الإيراني الأزمة في أفغانستان قائلا: “قضية أفغانستان معقدة ولكنها معترف بها، والحلول معقدة ولكنها في متناول اليد. الجمهورية الإسلامية مستعدة لتوفير الموارد، كما في الماضي، للمساهمة في تقدم الحوار بين الأفغان وعملية السلام”.
لكن رئيسي لم يشر إلى خطط إيران للتعاون أو التعامل مع طالبان أو شروط طهران للاعتراف بالإمارة إسلامية. ويرى البعض أن حكومته تفضل اتخاذ القرارات والمبادرات من وراء الكواليس وانتظار الحليفين الصيني والروسي لقيادة الطريق الدبلوماسي.
وشددت صحيفة “جافان“، المقربة من الحرس الثوري الإيراني. على أن “العلاقة الحالية مع الصين وروسيا ستكون أكثر أهمية من المفاوضات النووية. لقد صُدم الغرب والولايات المتحدة بشكل خاص بالفشل في أفغانستان وهو أفضل فرصة للأطراف الثلاثة (إيران وروسيا والصين] للاستفادة منه”.
محددات التعاون: مخاوف ومكاسب محتملة
تشترك الدولتان في ما يقرب من 572 ميلا من الحدود الوعرة، والتي يصعب مراقبتها. وضمان احتفاظها بالسيطرة على المعابر الحدودية، وأن تظل المناطق الحدودية مع أفغانستان مستقرة وهادئة، أولوية رئيسية للجمهورية الإسلامية”، وفقا لما تذكره مجموعة الأزمات الدولية.
وتضيف الصحيفة: “يشكل تدفق اللاجئين الأفغان إلى إيران مصدر قلق كبير إذ تستضيف إيران بالفعل ما يقرب من 3.5 مليون أفغاني، منهم 780 ألف لاجئ مسجل. ويهدد وصول المزيد من الناس بتأجيج الاستياء المحلي في ظل ظروف اقتصادية متدهورة ونظام صحي مرهق بفعل جائحة كوفيد 19”.
وإلى جانب ذلك فإن العلاقات الاقتصادية تلعب دورا مهما خاصة وأن أفغانستان هي خامس أكبر مستورد من إيران، وتنظر إليها الأخيرة باعتبارهما منفذا لتجاوز العقوبات المفروضة دوليا. وقد تجسد ذلك سريعا في استئناف طهران تصدير النفط إلى كابول بعد أيام فقط من وصول طالبان للقصر الرئاسي، وردت الأخيرة بتخفيض الرسوم الجمركية على الوقود الإيراني.
وأعرب علاء الدين مير محمد صادقي، نائب رئيس غرفة التجارة الإيرانية الأفغانية المشتركة ، عن أمله في أنه إذا تم الوفاء “بالوعود التي قطعها مسؤولو طالبان”، فمن المحتمل أن تصل التجارة الثنائية إلى 3 مليارات دولار.
وبينما تستفيد إيران من البضائع المرسلة شرقا. فإن تهريب الأفيون والهيروين من أفغانستان يدمر مجتمعها. وعلى الرغم من مزاعم طالبان بأنها حظرت إنتاج وبيع المخدرات، إلا أنها تستفيد بشكل كبير من تلك التجارة غير المشروعة كما وثقها مجلس الأمن. ويخشى قادة طهران أن تستخدم طالبان المخدرات كسلاح لتقويض المجتمع الإيراني.
ويجسد الخوف من “الإرهاب” كذلك أحد محددات العلاقة بين الطرفين. وقد أقر وزير الخارجية حسين أمير عبد اللهيان أن “إيران قلقة للغاية بشأن انتشار الإرهاب” من أفغانستان بقيادة طالبان.
وذهب تخت رافانتشي، ممثل إيران لدى الأمم المتحدة، إلى أبعد من ذلك عندما خاطب مجلس الأمن الدولي: “يجب ألا تستخدم أراضي أفغانستان، تحت أي ظرف من الظروف، لتهديد أو مهاجمة أي بلد أو لإيواء أو تدريب الإرهابيين، أو للتخطيط لأعمال إرهابية أو تمويلها”.
مكاسب مؤكدة؟
على الصعيد السياسي. ترى مجموعة الأزمات الدولية. أن إيران تنظر إلى عودة طالبان على أنها خطوة صغيرة نحو تحقيق رؤيتها لمنطقة خالية من القوات الأمريكية. يسيطر عليها محور بديل يضم دولا مثل والصين وروسيا. وبينما يخلق رحيل القوات الأمريكية حالة من عدم اليقين وعدم الاستقرار، إلا أنه يمنح طهران فرصة لزيادة النفوذ في أفغانستان. وبالتالي المنطقة. لكن هذا سيتطلب منهم على الأرجح الاعتراف بحكومة طالبان الجديدة، وليس من الواضح تحت أي ظروف ستكون طهران على استعداد للقيام بذلك”.
“منذ استيلاء طالبان على السلطة، كانت طهران تؤسس نفسها لتأمين مصالحها في أفغانستان وإقامة علاقة عمل مع حكامها الجدد. سيتطلب ذلك لعبة دبلوماسية دقيقة يشير التاريخ الحديث إلى أن إيران قد تكون في وضع جيد للعبها”، بتعبير مجموعة الأزمات.
ويشير معهد الشرق الأوسط بواشنطن إلى نقطة أخرى متعلقة بترسيخ الاستراتيجية التي تبنتها طهران خارجيا:”دفعت حقيقة أن الولايات المتحدة لم تنجح في النهاية ضد طالبان المسؤولين الإيرانيين إلى الاعتقاد بأنهم يستطيعون هزيمة الولايات المتحدة في أماكن أخرى من المنطقة باستخدام الميليشيات التي ترعاها. بعبارة أخرى، بينما أعلنت إدارة بايدن أنها تريد فرض قيود على سياسات إيران الإقليمية وسط المحادثات النووية الجارية، فإن قرار البيت الأبيض بشأن أفغانستان أقنع الجمهورية الإسلامية بأن وكلائها هم أهم أشكال نفوذها، ولا تستطيع تحمل خسارتهم”.
ويتابع معهد الشرق الأوسط أنه من المحتمل كذلك. أن تستخدم إيران ورقة الهجرة الأفغانية لابتزاز أوروبا، واستغلالها كفرصة لمحاولة تليين موقف الأخيرة في مجالات مثل المحادثات النووية، وذلك وسط مناقشات مفادها أن التنسيق والتعاون مع طهران لا غنى عنهما لتجنب موجة لاجئين كبيرة جديدة إلى القارة العجوز.
تحديات إقليمية
على الرغم من الفرص الحقيقية والمحتملة التي تراها إيران في أفغانستان، فإن توطيد حكم طالبان قد ينطوي أيضًا على تحديات خطيرة للملالي. وأحدها نهج طالبان تجاه الشيعة الهزارة، فمن غير الواضح ما إذا كانت طالبان ستواصل تطميناتها بعد ترسيخ حكمها أم لا.
“حتى لو كان قادة طالبان على استعداد لاتباع سياسة أكثر براجماتية، فليس هناك ما يضمن أن العناصر الأكثر راديكالية في الجماعة، سوف يطيعون الأوامر. قد يؤدي هذا إلى توترات ثنائية أو حتى صراع في حالة مقتل الشيعة الأفغان. مثل هذا السيناريو من شأنه أن يضع إيران بين المطرقة والسندان: إذا قررت التدخل عسكريًا فقد تعلق في نفس المستنقع الذي اجتاح الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي قبلها. ومع ذلك، فإن الجلوس مكتوف الأيدي بينما تقمع طالبان الهزارة من شأنه أن يقوض مصداقيتها كحامية للطائفة الشيعية”، يوضح معهد الشرق الأوسط.
وبصرف النظر عن العامل الطائفي. فإن نهج طالبان المتمركز حول العرق واحتكار للسلطة تحدٍ آخر لإيران. ما انعكس في قائمة الوزراء التي أغلبها مقرب من باكستان. وهذا يتناقض مع رغبة إيران في حكومة أكثر شمولا. وقد يهدد النفوذ الباكستاني المفرط مصالح إيران في بعض المجالات المهمة. مثل ميناء تشابهار، الذي من المفترض أن يربط الهند بآسيا الوسطى عبر أفغانستان. ويُنظر إليه على أنه منافس لميناء جوادر الباكستاني.
الدور القطري
لكن باكستان ليست الدولة الوحيدة التي أعادت تحديد دورها في المسرح الجيوسياسي لأفغانستان. فقد أصبحت قطر جهة فاعلة أخرى. بعد أن استضافت المكتب السياسي لطالبان لسنوات أثناء لعب الدور الرئيس في تسهيل الدبلوماسية بين الولايات المتحدة والحركة. وأصبح دورها لا غنى عنه. وعلى الرغم من أن الدوحة تتمتع بعلاقات إيجابية بشكل عام مع طهران في السنوات الأخيرة. إلا أن البلدين لا يتفقان في مجموعة من القضايا الإقليمية المهمة، بما في ذلك الأزمة السورية.
لذا يمكن لنفوذ قطر المتنامي في أفغانستان أن يمنحها فرصة للحصول على تنازلات من إيران في شؤون العالم العربي. ويمكن لتركيا، حليفة قطر الوثيقة. أن تستغل الوضع لصالحها -بحسب معهد الشرق الأوسط- فاستعدادها للعب دور أكثر نشاطًا في أفغانستان، بما في ذلك تأمين مطار كابول والتعاون الاقتصادي، قد يضع إيران في موقف صعب.
في النهاية قد يؤدي الوجود التركي المتزايد في أفغانستان. إلى جانب موطئ قدم أنقرة الراسخ في جنوب القوقاز. إلى خلق وضع تجد فيه إيران نفسها محاصرة من الناحية الاستراتيجية من قبل منافسها الإقليمي.