في أربعة مواقع مختلفة وعلى رافعة. عُلقت جثث أربعة أشخاص في ساحة عامة في مدينة هرات حتى يكونوا عبرة لغيرهم. اختطف هؤلاء الأربعة رجل أعمال ونجله. أطلقت طالبان سراحهما وقتلت الخاطفين، موجهة رسالة قاسية إلى الجميع.
عرفت هرات الكثير من حوادث الخطف وعدم استباب الأمن خلال الآونة الماضية. ورسالة طالبان مفادها أننا سنردع ردعا حاسما كل من يخرج عن الأمن، إننا قادرون على فرض الأمن وإعادة الاستقرار إلى كافة ربوع أفغانستان، حتى لو تطلب مشهدا دمويا، بل إنه يتطلب.. فالدم أقوى رادع.
قبلها، وفي وقت سابق من الشهر الجاري. تكرر مشهد مماثل حينما أُلقيت جثث أربعة “مختطفين”، في ساحة مركزية في مدينة مزار شريف. وبحسب التقارير فقد قُتلوا في تبادل لإطلاق النار مع الحركة، بعد اختطاف العديد من الأطفال.
وفي ظل أنظار العالم والغرب. الموجهة نحو تصرفات طالبان منذ استعادتها للحكم، وانتظار الوفاء بتعهداتها الشفهية بالعفو العام واحترام المرأة. كان لزاما أن يتصدر مثل هذا الخبر العناوين. ليس لأنه يعيد إلى الذاكرة مشاهد دموية مماثلة خلال فترة حكمها الأولى، وإنما لأنه تزامن مع تصريحات من أحد قيادات الحركة توضح أن الفكر العقائدي لم يتحرك قيد أنملة، وهو ما يضعنا أمام إعادة إنتاج لنفس الأفكار.. حتى وإن بدا الثوب مغايرا.
“لا أحد سيخبرنا ما يجب أن تكون عليه قوانيننا”
الملا نور الدين ترابي، أحد مؤسسي الحركة ووزير العدل خلال فترتها الأولى. أجرى حوارا مع وكالة “أسوشيتد برس”. دافع فيه بشدة عن عقوبات الحركة، خلال التسعينيات وبداية الألفية، مثل تنفيذ إعدامات في الملاعب وقطع يدي السارق وغيرها. قائلا: “الجميع انتقدنا لتنفيذ عقوبات في الملعب، لكننا لم نقل أبدا أي شيء بشأن قوانينهم وعقوباتهم. لا أحد سيخبرنا ما يجب أن تكون عليه قوانيننا. سنتبع الإسلام وسنضع قوانيننا بناء على القرآن”.
وأضاف الرجل الذي كان كبير وزارة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر -التي عادت من جديد مع الحكومة المؤقتة: قطع الأيدي ضروري للغاية للأمن، وله تأثير رادع.. مجلس الوزراء يدرس ما إذا كان سيتم فرض عقوبات علنية (أم لا) وسيضع سياسة.
تصريحات ترابي عبّرت عن نهج الحركة في ولايتها الثانية. بعدما شكّلت حكومة تصريف أعمال أغلب مسؤوليها هم ذات المسؤولين الذين كانوا في الولاية الأولى، وإن اختلفت أسماء وزاراتهم.
الملا محمد حسن آخوند رئيس الحكومة الحالية، تولى منصبي نائب رئيس الوزراء ووزير الخارجية خلال الفترة الأولى من عام 1996 حتى 2001، أما النائب الأول لآخوند، عبد الغني برادر فقد كان نائبا لوزير الدفاع، ومثله النائب الثاني عبد السلام حنفي والذي كان نائبا لوزير التعليم، وفي وزارة الخارجية حل أمير خان متقي، الذي شغل منصب وزير الثقافة والإعلام في حكومة طالبان السابقة.
اقرأ أيضا – (ملامح وإشارات: بماذا تخبرنا حكومة طالبان الجديدة؟)
الحركة، التي أسسها الملا محمد عمر عام 1994. وعدت بالعفو عن الجميع ولكنها حنثت بالوعد مبكرا. فوفقًا لتقييم سري للتهديدات في الأمم المتحدة، كثفت طالبان مطاردة مسؤولي الأمن الأفغان السابقين والأشخاص الذين ربما عملوا مع القوات الأمريكية أو قوات الناتو. وأعدمت شقيق نائب الرئيس السابق أمر الله صالح. وأكدت مصادر أخرى أنها أعدمت مسؤولين بارزين في الشرطة في إقليمي فرح وبادغيس، كما طعن أفراد منها شرطية حامل حتى الموت أمام عائلتها في غور.
واستهدفت الحركة موظفي الخدمة المدنية السابقين الذين لم يعملوا في قطاع الأمن. وضايقت أيضًا أفراد عائلات المسؤولين الذين غادروا البلاد. كما أرهبت وعذبت وقتلت صحفيين أفغان وأقاربهم، بحسب مجلة “ذا ديبلومات“.
وتضيف المجلة أنه في بانشير. حيث واجهت طالبان مقاومة من أحمد شاه مسعود ورجاله. قتلت الجماعة ما لا يقل عن 20 مدنيا، وعذبت آخرين ومنعت دفن الضحايا. ويواجه الناس في بانشير، المحاصرين من قبل قوات طالبان، أزمة إنسانية حادة مع ندرة الغذاء والدواء بشكل متزايد.
وفي مدينة غزنة، ارتكبت طالبان مجزرة بحق تسعة مدنيين من عرقية الهزارة. بعد سيطرتها على الإقليم. وأطلقت النار على ستة رجال وتعرض ثلاثة للتعذيب حتى الموت، من بينهم “رجل خُنق بغطاء رأسه وقُطعت عضلات ذراعه”.
تشترك الانتهاكات في بانشير وغزنة في أوجه تشابه مزعجة أخرى -بحسب المجلة- إذ في كلتا الحالتين، سعت طالبان لتقليل فضح ممارساتها من خلال قطع الاتصالات مع العالم الخارجي، وتقييد الوصول إلى الكهرباء وخدمات الهاتف والإنترنت. كما مُنعت وسائل الإعلام وجماعات حقوق الإنسان من تغطية هذه المناطق أثناء تلك الحوادث. ونفت طالبان مسؤوليتها عن القتل.
ترجح هذه التكتيكات أن حجم الاعتداءات سيكون أكثر انتشارًا، مما تشير إليه الأدلة المتوفرة، و”توضح الطبيعة المتعمدة ومنهجية هذه الهجمات وجود سياسة تنظيمية وموافقة من القادة”، بتعبير المجلة الأمريكية.
لكن هل فعلا قيادات طالبان تتفق على نهج واحد في الإدارة؟ وهل يمتثل أفراد الحركة بانضباط لتعليمات القادة؟
تقول وكالة “بلومبيرج” الأمريكية إن الملا عبد الغني برادر، الوجه الإعلامي الأشهر للحركة والذي قاد مباحثات السلام مع الولايات المتحدة، تعرض للاعتداء الجسدي من قِبل خليل حقاني، القيادي في شبكة حقاني والمُدرج على قوائم الولايات المتحدة للإرهاب، ووزير اللاجئين لاحقا، في أوائل سبتمبر، خلال مباحثات في القصر حول تشكيل مجلس الوزراء.
كان برادر يدفع باتجاه تشكيل حكومة “شاملة” تضم قادة من غير طالبان وأقليات عرقية، لتكون أكثر قبولاً لبقية العالم. لكن يبدو أنه في وقت ما خلال الاجتماع، لم تعجب كلمات برادر، خليل حقاني ليقوم من كرسيه ويلكم أحد مؤسسي الحركة، وأقرب الأقربين إلى الملا عمر.
الأمور تطورت ودخل الحراس الشخصيين لكلا الرجلين في تبادل لإطلاق النار ما أسفر عن مقتل وإصابة عدد منهم. وبينما لم يصب برادر بأذى، غادر العاصمة منذ ذلك الحين وتوجه إلى قندهار للتحدث مع “أمير المؤمنين” هيبة الله آخوند زاده، زعيم الحركة الروحي.
الخلاف بين الرجلين كشف عن فروقات بين تيارين -إن جازت التسمية- داخل بنية طالبان. الأول يترأسه برادر، الذي قضى السنين الأخيرة في الدوحة منذ الإفراج عنه عام 2018 وقبلها كان في أحد السجون الباكستانية منذ 2010. وهو التيار الذي يبدو أكثر براجماتية وأقل تشددا، ويسعى لاكتساب الشرعية الدولية.
أما الثاني فتمثله شبكة حقاني المسؤولة عن الشؤون الأمنية خلال السنين الأخيرة من خلال قواتها المتداخلة مع القاعدة، وقيادات أخرى ظلت على أرض أفغانستان طوال السنين الماضية. وهم يتبنون مقاربة سياسية أكثر تشددا، عبّر عنها رمزيا موقف خليل حقاني، شقيق مؤسس الشبكة وعم قائدها الحالي الذي بات وزيرا للداخلية في الحكومة الجديدة.
انتصار تيار حقاني
ويبدو أن التيار الأخير انتصر هذه الجولة بعدما أُعُلنت حكومة “غير شاملة”، وفيها كان برادر نائبا لرئيس الوزراء وليس رئيسا مثلما كان مرجحا.. وفي ذلك إشارة إلى الكفة التي رُجحت.
وفيما يتعلق بأفراد الحركة ومدى امتثالهم لتعليمات قاداتهم، فإن بيان وزير دفاع حكومة الإمارة، الملا محمد يعقوب، نجل الملا عمر، كان كاشفا. إذ طالب يعقوب أفراد حركته -بصرامة- بتحسين انضباطهم والتوقف عن سوء السلوك.
وقال يعقوب في بيان صوتي موجه لجنوده: “قُتل بعض الأشخاص مؤخرًا بشكل تعسفي في مناطق مختلفة من البلاد. كان هناك عفو عام أعلنته الإمارة الإسلامية لمن وقف ضدنا، بمن فيهم هؤلاء الأشرار. بمجرد إعلان العفو العام، لا يُسمح لمرة واحدة بخرق ذلك أو السعي للانتقام. إذا كان لدى شخص ما أي مشكلة مع شخص آخر، فيمكنه رفع هذه المسألة إلى المحكمة وستقرر المحكمة”.
وأضاف أن القتل التعسفي “مخالف لسياسة الإمارة وسيضر بالإمارة بشكل كبير”. كما انتقد سلوك بعض مقاتلي طالبان، قائلا إنهم يتجولون في المدينة، أو يزورون المكاتب الحكومية أو يسافرون من مقاطعة إلى أخرى دون سبب وجيه. وتابع: “هذه الأماكن ليست من أجل المتعة. لا ينبغي أن يذهبوا إلى تلك الأماكن دون سبب. يجب على كبار أعضاء المجاهدين أن يعيروا هذا الأمر اهتمامًا خاصًا من أجل السيطرة على منتسبيهم”.
وفي واقعة أخرى، اعتذرت الحركة، قبل أيام، لباكستان عن حادث نزع علمها عن شاحنات مساعدات عند معبر “تورخام”، نقطة العبور الرئيسية بين البلدين، مؤكدة أن الحادث كان تصرفا فرديا والحكومة اتخذت إجراءات فورية واعتقلت المتورطين، وذلك بعدما أظهرت مقاطع مصورة انتشرت عبر مواقع التواصل إزالة أفراد من حرس الحدود المتمركزين على حدود “تورخام” وعدد من المدنيين للأعلام الباكستانية عن شاحنات تحمل مساعدات إلى أفغانستان.
في تقرير سابق لـ”مصر 360″ قال الباحث في الشؤون الأوراسية، أحمد دهشان. إن افتراض أن طالبان ظهرت بثوب جديد يعبر عن المضمون فيه تعجل كبير. نعم قد تكون جادة في ذلك ولكنها في الواقع لا تملك كل القدرة على السيطرة على الأتباع على الأرض مع التناقضات القومية والعرقية. مما سيفجر الصراع حتميًا بعد نهاية نشوة النصر”.
وكانت الحركة قد عرفت انقسامات حادة في أعقاب وفاة الملا عمر، وتولي الملا محمد اختر منصور القيادة، ما وصل بأحد قيادات الحركة لفضح خبر وفاة الزعيم الروحي، بعد خلاف حول أحقية المناصب.
ما بين الموقف والرؤية.. كيف تنظر الولايات المتحدة؟
بُعيد تصريحات الملا نور الدين ترابي عن “تطبيق الحدود”، قال نيد برايس المتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية، إن مثل هذه التوجه سوف يشكل انتهاكا ملموسا لحقوق الإنسان، مشددا على أنه يجب محاسبة طالبان على ذلك.
ولكن بعيدا عن التصريحات العلنية والرسمية المنددة. هل الولايات المتحدة تصيغ، على الأقل جزئيا، استراتيجية مختلفة للتعامل مع طالبان؟
مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية في واشنطن، والمعبّر عن توجهات فكرية داخل دائرة صناعة القرار -سابقين أو حاليين- قدم رؤية صاغها أنتوني كوردسمان، المستشار السابق لوزارتي الخارجية والدفاع الأمريكية خلال الحربين الأفغانية والعراقية، قد تساعد على فهم ما يدور داخل رأس بعض من صناع القرار.
كوردسمان، وهو أحد منتقدي إدارة الرئيس الأسبق جورج بوش للحرب في البلدين لما يراه قصورا في إدراك الأبعاد الاجتماعية والعرقية داخلهما، يرى أن على الولايات المتحدة الابتعاد عن نهج فرض العقوبات الاقتصادية “الذي لم يثبت فعاليته مع الآخرين”.
بل يشير إلى أن الأوضاع الاقتصادية المتهالكة (75% من ميزانيتها تعتمد على مساعدات خارجية ونصف الشعب من الفقراء) والصعوبات التي تواجهها طالبان ستجعلها تعلم سريعًا حاجتها للتجارة والاستثمار الخارجي، ودرجة معقولة من الاعتراف الدولي، ومساعدات كبيرة لمسايرة التحديات، قائلا: “قد يمنح جهد الولايات المتحدة لدعم خطة المعونة نفوذًا كبيرًا لها، لا سيما إذا قدمت مثل هذه المساعدة في سياق دولي، دون أن تحاول فرض قيّمها. سيكون هذا مشروطا باستعداد طالبان لتقديم تنازلات في بعض المجالات”.
في المقابل، سيتعين على أمريكا أيضًا تقديم بعض التنازلات “المحرجة”، فوفقا لكوردسمان “دور المرأة هو مجرد واحد من هذه القضايا. من المرجح أن يكون مستقبل جميع الشباب وجميع الأفغان تقريبًا ممن لديهم تعليم علماني حديث صعبًا بغض النظر عن الجنس. ومع ذلك، تحتاج الولايات المتحدة إلى الواقعية وقبول بعض هذه التنازلات. كما تحتاج لإيجاد أفضل طريقة لممارسة درجة معينة من النفوذ بطرق تحمي الشعب الأفغاني وتقود طالبان إلى التطور”.
يدفعنا ذلك للتساؤل حول الطريقة المرجحة للتعامل مع الحركة، وهنا تظهر الصين.
في إطار رؤية الولايات المتحدة المُصعّدة للمواجهة مع الصين، فإن نبذ طالبان والتعامل معها بقسوة يعني تركها ترتمي في أحضان الصينيين، وفي هذه الحالة فإنك لا تحتاج أن تخسر مرتين، وعليك الحفاظ على خيط، حتى وإن كان ضعيفا، فالحفاظ عليه الآن يبقيه للغد.
ولا يتوقف الأمر عند الصين، بل تظهر روسيا وإيران إلى جوارها، فيما يمكن أن يشكّل محورا، وإن تباينت أهدافه فإنه يتوافق على خطوط عريضة: عدم الخنوع للأمريكان.
اقرأ أيضا – (إيران وطالبان: علاقة الأضداد تحكمها الفرص والمكاسب)
ومن هذه النقطة فإن إدارة للولايات المتحدة تنظر إلى أفغانستان بمنظارين. واحد يطل على سياسة ضغط قصوى. كالتي أتبعها دونالد ترامب. ولربما كانت تؤتي ثمارها إن استمر لولاية ثانية. وبالتالي يمكن أن يتبعوها. وأخرى ترى أن هذه السياسة لا تؤتي ثمارها ولم تفعل شيئا سوى تسريع ديناميكيات الصراع. وبالتالي علينا إدارة العلاقة بتوازن. وكُلُ على حدة بما لا يخلق تكتل موحد في درجة عداوته. ويكثف كامل الجهود تجاه تقليم أظافر الصين، في البحرين الشرقي والجنوبي.
وفي ظل هذه العوامل المتداخلة. تدرك طالبان طبيعة تلك الحسابات الجيوسياسية وسياقها. وترى فيها فرصة لتطبيق رؤيتها في الحكم بقدر -أو هامش- من الاستقلالية، وفي نفس الوقت إدراك أن العلاقة مع الولايات المتحدة، بالطبع لها الكثير من المنافع.
وهنا يُمكن القول إن سياسة الولايات المتحدة “فرض قيّمنا وتحقيق أهدافنا”. التي صُدّرت في أعقاب 11 سبتمبر، تحولت إلى “تحقيق أهدافنا دون فرض قيّمنا”. وأن الاحتواء مقابل السلطة.