رغم الإشارات الإيجابية التي صدرت من الجانبين المصري والتركي بشأن تطبيع العلاقات المتوترة بينهما منذ سقوط حكم الإخوان في 2013، إلا أن الشواهد تشير إلى أن هناك صراعا مكتوما تدور رحاه بين الطرفين على الساحة الليبية.
إصرار تركيا على نشر قواتها العسكرية وإرسال آلاف المرتزقة إلى الغرب الليبي، أبطأ وتيرة محاولات الوصول إلى حل للأزمة، يضاف إلى ذلك ما أُثير مؤخرا عن دخول أنقرة على خط ملف إعادة الإعمار في ليبيا ومحاولاتها تعطيل اتفاقيات ومذكرات تعاون أبرمتها حكومة عبد الحميد الديبية مع نظيرتها المصرية، ولو صحت تلك المعلومة التي لاتزال في إطار الاستنتاج فالأزمة ستتجه إلى التعقيد.
بعد ساعات من انتهاء اجتماعات الجولة الثانية من المباحثات الاستكشافية بين مصر وتركيا والتي عقدت في أنقرة يومي 7 و8 سبتمبر الجاري، أصدر رئيس الوزراء مصطفى مدبولي تصريحا يكشف فيه عن القضية التي حالت دون تطبيع العلاقات مجددا مع الأتراك، «يمكن استئناف العلاقات الدبلوماسية بين الجانبين هذا العام إذا تم حل القضايا العالقة.. القضية الرئيسية لمصر هي التورط التركي في ليبيا».
مدبولي أضاف في مقابلة مع وكالة بلومبرج الأمريكية: «لا ينبغي لأي دولة أخرى أن تتدخل في ليبيا، أو تحاول التأثير على صنع القرار هناك، ونود أن نترك الليبيين يقررون مستقبلهم»، مشيدا بالتحركات التي حدثت في الأشهر القليلة الماضية في اتجاه تطبيع العلاقات مع تركيا، لكنه أردف «لاتزال هناك أيضا بعض القضايا العالقة».
وفي الوقت الذي بشر فيه وزير الخاجية التركي مولود تشاووش أوغلو بإمكانية عودة السفراء بين مصر وبلاده، كان لوزير الخارجية المصري سامح شكري رأياً آخر، فالأمر من وجهة نظره يحتاج إلى مزيد من الوقت لاستعادة العلاقات الطبيعية بين البلدين، «مصر حريصة على إيجاد حل وصيغة لإعادة العلاقات الطبيعية مع أنقرة، لكن هناك المزيد من العمل الذي يتعين القيام به».
شكري قال في مقابلة مع «بلومبرج»: «عندما تكون مصر راضية عن حل القضايا العالقة، سيُفتح الباب لمزيد من التقدم»، لافتا النظر إلى أن المباحثات الجارية بين البلدين قد تحتاج إلى بعض الوقت.
تصريحات مدبولي ووزير خارجيته، يُفهم منها أن ملف تطبيع العلاقات مع أنقرة لايزال محل نظر، وإذا كان هناك تقارب حدث في عدد من الملفات يبقى الملف الليبي هو حجر الزاوية في تلك الأزمة، فمصر لن تقبل وقوع ليبيا تحت الهيمنة التركيبة بما يهدد حدودها الغربية وأمنها القومي.
البيان المشترك الذي صدر بعد انتهاء الجولة الثانية من المباحثات الاستكشافية التي أجريت مطلع الشهر الجاري، يعكس بوضوح أن الطرفين لم يجتازا بعد مرحلة إثبات النوايا الحسنة، واقتصر البيان على الإشارة إلى أن البلدين راغبان في «تحقيق تقدم في عدد من الملفات»، لكنه لفت أيضا إلى ضرورة اتخاذ خطوات إضافية لتيسير تطبيع العلاقات بينهما.
كانت مصر قد اشترطت لتطبيع علاقاتها مجددا مع تركيا أن تسحب الأخيرة قواتها العسكرية من ليبيا وتتوقف عن التدخل في الشؤون الليبية وباقي الدول العربية، وأن تتعاون في ملف غاز شرق المتوسط، وتوقف دعمها لجماعة الإخوان التي فتحت أنقرة لعناصرها أبوابها ومولت منصاتها الإعلامية لمهاجمة ونظامها الحاكم.
في المقابل طالبت تركيا مصر بعدم إعطاء مساحات في أي قنوات لتمثيل جماعة فتح الله غولن التركية، والتنسيق فيما يخص غاز المتوسط وترسيم الحدود البحرية.
قبل أسابيع من انعقاد الجولة الأولى من المباحثات المصرية التركية في مايو الماضي، ألزمت السلطات التركية القنوات التلفزيونية الإخوانية التي تبث من إسطنبول بالالتزام بميثاق الشرف الصحفي والإعلامي وتجنب الشأن السياسي ووقف الهجوم والتطاول على أركان النظام المصري والتخلي عن أسلوب التحريض والإساءة لمصر ودول الخليج.
وخلال اجتماع عقده مسئولون أتراك في مارس الماضي مع مديري منصات الإخوان الإعلامية «الشرق، ومكملين، ووطن» صدرت تعليمات تركية بوقف البرامج السياسية، لحقتها قرارات بإيقاف عدد من الإعلاميين الذين يهاجمون مصر وحلفائها في المنطقة، ورحبت الحكومة المصرية حينها بتلك الخطوة واعتبرتها «بادرة طيبة من الجانب التركي تخلق مناخا ملائما لبحث الملفات محل الخلافات بين الدولتين على مدار السنوات الماضية»، بحسب أسامة هيكل وزير الإعلام في ذلك التوقيت.
مع ذلك ظل ملف تسليم الجانب التركي للمطلوبين من عناصر الإخوان الصادر ضدهم أحكام في قضايا متعلقة بالإرهاب محل خلاف، إذ يصر الجانب المصري على تفعيل اتفاقية التعاون القضائي في المواد الجنائية وتسليم المجرمين بين مصر وتركيا والتي تم توقيعها في أنقرة في 4 أبريل عام 1988، وهو ما تحفظت عليه أنقرة بدعوى حصول عدد من قادة وكوادر الجماعة على الجنسية التركية وعلى صفة لاجئ.
ويتوقع مراقبون أن تكتفي مصر بالإجراءات التي اتخذتها تركيا في ملف الإخوان الشائك، خاصة بعد أن قامت السلطات التركية بتقييد التحركات التنظيمية لأعضاء الجماعة على أراضيها، فضلا عن إسكات منابرهم الإعلامية عن مهاجمة النظام المصري.
وكما سيقبل الطرفان بحل وسط في ملف الإخوان، من المتوقع أيضا أن يتم الوصول إلى حل مُرض في ملف «التنقيب في شرقي البحر المتوسط»، فالطرف المصري قدم بادرة حسن نية عندما أعلن قبل شهور عن طرح مزايدة للتنقيب عن النفط والغاز في 24 منطقة بعضها بالبحر المتوسط، لكنه لم يقترب من الجرف القاري لتركيا، ما دعا وزير الدفاع التركي خلوصي أكار أن يعتبر تلك الخطوة حينها «تطورا هاما للغاية»، أما وزير الخارجية تشاووش أوغلو فأعلن حينها أن بلاده من الممكن أن توقع اتفاقا لترسيم الحدود البحرية مع مصر في شرق المتوسط بناء على سير العلاقات بين البلدين.
«مصر قادرة على لعب دور توفيقي بين الأطراف المتنازعة في هذا الملف الشائك»، يقول أحد الخبراء المتابعين لأزمة العلاقات المصرية التركية، مشيرا إلى أن القاهرة استردت جزء كبير من ثقلها الإقليمي خلال الفترة الماضية وهو ما قد يمكنها من القيام بدور الوسيط والتوفيق بين الخصوم في شرق المتوسط.
ويرى هذ الخبير أن من مصلحة مصر ترسيم حدودها مع تركيا بشكل عادل يتفق مع ما يمليه القانون الدولي، كما أن من مصلحتها أيضا أن تُبقي على علاقاتها الودية مع اليونان وقبرص، بمعنى ألا يكون التقارب مع الأتراك على حساب اليونان وقبرص، «لعل مصر تلعب يوما دورا توفيقيا بين الدول الثلاث يمنحها قوة في شرق المتوسط ويساعد على تحقيق التكامل بين دوله».
الرئيس التركي رجب طيب أردوغان كان قد ألمح قبل أسابيع إلى فرص تعاون جاد مع مصر في منطقة واسعة من شرق المتوسط إلى ليبيا، وأشار إلى أنه لا يمكن مقارنة العلاقات بين تركيا ومصر مع العلاقات المصرية اليونانية، وقال: «بالنسبة لنا مصر ليست دولة عادية، والشعب المصري ليس عاديا لنا، هناك علاقات تجمعنا منذ فترة طويلة عبر التاريخ، وهناك جذور قوية بين الدولتين والشعبين».
يبقى الملف الليبي والمحاولات التركية للهيمنة على الأوضاع في ليبيا عسكريا وسياسيا، هو العقبة الأبرز في طريق تطبيع العلاقات بين القاهرة وأنقرة، كما أشار رئيس الوزراء مصطفى مدبولي، فإذا افترضنا أن مصر ستُبدي مرونة في ملف تسليم الإرهابيين المطلوبين، وأنها قد تلعب دورا وسيطا في ملف شرق المتوسط أو على الأقل شريكا محايد بين الأطراف المتنازعة، فأنها لن تتغاضى عن محاولة الأتراك التحكم في مصير الجارة الغربية.
مصر تعاملت مع اتفاقية التعاون الأمني التي وقعتها أنقرة مع الحكومة الليبية السابقة، على أنها ضربا مباشرا لأمنها القومي، فحدودنا الغربية والتي ظلت لفترة مرتعا لجماعات العنف والإرهاب لا يمكن أن تترك للأتراك ومقاتيلهم، فضلا عن أن إصرار تركيا على رفض سحب المرتزقة الذين دربتهم وسلحتهم ونقلتهم من سوريا إلى ليبيا، سيفتح مجددا أبواب النار في بلد ينتظر إجراءا استحقاقات انتخابية حاسمة بعد 3 شهور، وهو ما ترفضه مصر تماما.
قرار البرلمان الليبي بسحب الثقة من حكومة الديببة بسبب «توقيعها اتفاقيات طويلة الأمد مع جهات خارجية»، بدا منه أنه موجه ضد مصر التي وقعت مع الحكومة الليبية عقود واتفاقيات تعاون بنحو 33 مليون دولار قبل صدور القرار بـ4 أيام فقط، وتظل تلك النقطة أيضا موضع خلاف بين أنقرة والقاهرة، حتى تتبين الأخيرة كيف ولماذا صدر هذا القرار الذي أربك الحسابات.
سيظل ملف تطبيع العلاقات المصرية التركية مرهون بتفاهم الطرفين على نقاط الخلاف في ليبيا، قد تتنازل القاهرة في ملف الإخوان وقد تمارس دور الوساطة في ملف التنقيب في شرق المتوسط لكنها لن تقبل بفرض تركيا سيطرتها على الجار الغربي الذي يمثل عمق استراتيجي للأمن القومي المصري.