بينما تواجه مصر تحديات في ملف المياه وتكافح من أجل وضع حلول طويلة المدى لها، يقفز إلى السطح ملف التعديات على منشآت الري والأراضي الزارعية. هذا تحدٍ آخر لكنه يضع الدولة في مواجهة المزارعين المخالفين، لكن التوجه لا يقبل القسمة على إثنين، إما إجراءات تحفظ الأمن المائي، أو البقاء رهن مسقبل غامض.
برز هذا التحدي لدى افتتاح محطة معالجة مياه مصرف بحر البقر، شرقي بور سعيد، الإثنين، وهو المشروع الذي تكلف بحسب التصريحات الحكومية نحو 22 مليار جنيه مصري.
ومن المتوقع أن توفر المحطة 5.6 مليون متر مكعب من المياه يوميًا أي نحو 2 مليار متر مكعب سنويًا، يتم تحويل مسارها عبر سحارات ترعة السلام لري ما يقرب من نصف مليون فدان في شبه جزيرة سيناء.
السيسي أشار خلال تعقيبه على كلمة اللواء إيهاب الفار رئيس الهيئة الهندسية للقوات المسلحة، إلى أن الـ 22 مليار جنيه التي تم إنفاقها لم تكن سوى تكلفة المحطة، لكن تكلفة المشروع بعد إضافة روافع المياه، وما يطلق عليه منظومة الاستفادة والزراعة، سوف تصل إلى 160 مليار جنيه.
من هنا بدأ السيسي في طرح سؤالًا يبدو منطقيًا: إذا كنا ننفق 160 مليار جنيه لزراعة 500 ألف فدان فقط، وإذا كنا سننفق نحو 80 مليار جنيه أخرى على تبطين الترع، فكيف نسمح باستمرار التعديات على منشآت الري والأراضي الزراعية؟
أثار هذا الكلام ربما غضب البعض لتلويحه بإمكانية إنزال قوات الجيش إلى جانب الشرطة للقضاء على هذه التعديات خلال 6 أشهر.
هذا الغضب كان مصحوبًا بلبس كبير، حيث ظن الكثيرون أن الحديث مقصورًا على البناء فوق الأراضي الزراعية، والتلويح باستخدام القوة لإزالة هذه التعديات، لكن الحديث كان منصبًا في الأساس على التعديات على منشآت الري من الترع والمصارف، والتعدي على الحرم الخاص بها، وتلويث هذه الترع وانسداد المجاري المائية.
حديث الرئيس يثير بشكل أكبر، التساؤلات حول حجم هذه التعديات وما تتسبب فيه من إهدار للمياه، وتقليصًا للأراضي الزراعية.
أشكال التعديات
تتنوع التعديات على منشآت الري ما بين مبان خراسانية أو أسوار، تعمل على تضييق مساحات الترع والمصارف، أو تعد بزراعة جسور المصارف أو ردم بالجسور أو قطعها، وبناء منشآت خاصة، كـ الورش و”التشوينات” والمقاهي، في حرم النيل والترع والمصارف، ما يعرقل ويمتص ملايين الكيلوات من مياه الري خلال مرورها بمجاري الري والصرف.
وتشير بعض بيانات وزارة الموارد المائية والري إلى حالات وصلت إلى التعدي على أكثر من 80% من حرم الترع والمصارف، هذا يؤدي تدريجا إلى تقلص مساحة الترع نفسها ما يعيق جريان المياه.
هناك أشكال أخرى من التعديات تتمثل في إلقاء المخلفات من القمامة والحيوانات النافقة في الترع، ما يؤدي لإهدار كميات كبيرة من المياه نتيجة انسداد المنشآت المائية جراء هذه المخلفات، إضافة إلى تصريف مخلفات المصانع والورش الصناعية في الترع والمصارف، بل وتصريف مخلفات الصرف الصحي أيضا في القرى التي لا تتمتع بشبكات للصرف الصحي.
حجم التعديات
ليس هناك أرقامًا رسمية إجمالية لحجم التعديات على منشآت الري، لكن يمكنا أن نرصد عبر البيانات الحكومية صورة مصغرة لهذه التعديات.
في شهر أغسطس من العام الماضي أعلنت وزارة الموارد المائية والري عن إزالة 2564 تعديًا على نهر النيل والمجاري المائية، وهو الشهر الذي شهد نسبة الإزالة الأعلى خلال العام، بينما أوضحت الوزارة أنها نفذت نحو 300 ألف إزالة خلال 5 سنوات منذ بدأت الحملة القومية لإنقاذ مياه النيل في 2015 وحتى موعد صدور بيان الوزارة في 2020.
وفي سبتمبر من العام 2021 أعلنت وزارة الموارد المائية والري أنه تم حصر 120 ألف تعد على النيل والمجاري المائية في المحافظات أزيل ما يقرب من نصف هذه التعديات خلال الستة أشهر الأولى من العام 2021.
إلا أن أرقام التعديات قد تصل إلى أضعاف المعلن عنها، نظرًا لاتساع مساحات المجاري المائية والترع، والتي من الصعب رصد التعديات عليها بشكل شامل دون وجود آليات رصد دقيقة وقاعدة عامة لبيانات هذا الرصد، وهو ما ليس موجودًا بحسب أحد المهندسين العاملين بوزارة الموارد المائية والري، والذي تحدث إلينا رافضًا عدم ذكر اسمه.
ويشير المهندس إلى أن: “الوزارة تتبع آليات تقليدية معتمدة على موظفيها من “البحارين” من واجبات عملهم المرور وتسجيل المخالفات والتعديات على الترع والمجاري المائية، وهم عمال يتم تعيينهم بمرتبات ضعيفة، وأغلبهم من الفلاحين المقيمين في نفس دائرة “حوض” عملهم، وليس هناك وسيلة للتأكد ما إذا كانوا قد قاموا بواجبات عملهم على الوجه الأكمل أم لا، في حين أن المهندسين لأسباب متعلقة بظروف تأمينهم يتجنبون المرور للرصد ومتابعة “البحارين” إلا إذا كان ذلك ضمن حملة مكبرة.
“أكثر من مجرد توجيه بالإزالة”
ويضيف المهندس، وهو باحث أيضًا في مجال هندسة الموارد المائية، أن المسألة أصعب بكثير من توجيه برفع الإزالات خلال فترة معينة، حتى لو كان هذا التوجيه من رئيس الجمهورية، مشيرًا إلى أن رفع التعديات مرهونًا بعدة أمور أهمها بناء قاعدة بيانات عبر آليات حديثة، تعطي أرقامًا دقيقة ومتجددة، وسرعة عمليات تبطين الترع، حتى لا تعود التعديات مرة أخرى، ومن أجل وقف تسريب المياه، إضافة للتطهير المستمر للترع من المخلفات والنباتات التي تمتص الكثير من المياه وتعيق جريانها.
يستكمل المهندس: “الأمر يحتاج أيضًا إلى نشر التوعية عبر آليات وزارتي الزراعة والري، ومن خلال المدارس الحقلية، وفعاليات مشابهة، للحد من تلويث الترع والمجاري المائية، وإقناع المواطنين بعدم إلقاء القمامة والحيوانات النافقة أو الصرف الصحي بها”.
الموارد المائية والاستهلاك
بحسب تقرير الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء في بيانه الصادر في شهر مارس الماضي بمناسبة اليوم العالمي للمياه، فإن حصة مصر من مياه نهر النيل تبلغ 55.5 مليار متر مكعب بنسبة 68.5% من الموارد المائية لمصر خلال 2019/2020، في حين تبلغ كمية المياه الجوفية والأمطار والسيول ومياه البحر التي يتم تحليتها، إضافة لمياه الصرف المعالجة 25.56 مليار متر مكعب بنسبة 31.5%.
وذكر التقرير أن كمية المياه التي تم استهلاكها في قطاع الزراعة خلال العام 2019/2020، بلغت 61.63 مليار متر مكعب، بينـما بلـغـت كمية المياه المـستهلكة فـي الـشـرب 11.53 مــليار متر مكعب، فيما استهلكت الصناعة 5.4 مليار متر مكعب في نفس العام.
هدر المياه
ووفقا للشركة القابضة لمياه الشرب والصرف الصحي، فقد بلغت نسبة الهدر في مياه الشرب إلى نحو 28% عام 2019.
لكن هناك ندرة في التقارير المحدثة الخاصة بنسب الهدر في مياه الري لكن تقارير سابقة للجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء تشير إلى أن الدلتا فقدت 6.5 مليار متر مكعب من المياه نتيجة البخر، بينما يشير خبراء إلى أن نحو 8 مليارات متر مكعب من المياه تهدر نتيجة التسريب نتيجة لطول قنوات ومجاري الري في مصر والتي تزيد عن 30 ألف كيلو متر.
هنا يؤكد المهندس سعيد عليوة، استشاري الموارد المائية، في حديثه لـ “مصر 360” على ضرورة إتمام مشروع تبطين الترع ليغطي مصر كلها، مهما كانت التكلفة، لأنه إذا كان بحسب ما أشار إليه الرئيس السيسي نفسه من أن محطة معالجة إنتاجيتها 2 مليار متر مكعب سنويا، لن تصلح مياها سوى لزراعات محددة، قد تكلفت 22 مليون جنيه،. فإن توفير 8 مليارات متر مكعب من المياه تضيع نتيجة التسريب هي أولوية كبيرة أيضًا.
جوانب لم تر لمحطة مصرف بحر البقر
بينما يرى البعض أن الرئيس تجاهل أثناء حديثه عن تنمية الموارد المائية أزمة سد النهضة، خلال افتتاحه لمحطة معالجة مياه مصرف بحر البقر، شرقي بور سعيد، فإن آخرين يروا أن المشروع لم يأخذ حقه من الدعاية حيث تم تصويره على أنه مجرد مشروع محطة معالجة لتوفير جزء من مياه الري، رغم جوانبه الأخرى الهامة.
يقول فوزي عبد الحليم الكاتب بالأهرام، إن مشروع تنقية ومعالجة مياه مصرف بحر البقر واحدًا من أهم المشروعات البيئية في مصر خلال العشرين عاما الماضية كان هذا المشروع حلمًا صعب التحقيق نظرا للوضع المزري للبحيرة التي تتوسط عدة محافظات وتتلقى سمومها من صرف صحي وصناعي وكيماوي مسببة مخاطر بيئية لا حد لها.
ويضيف عبد الحليم في تدوينة على حسابه الشخصي بموقع “فيسبوك”: “للأسف الشديد لم تسًوق الحكومة المشروع إعلاميًا على الوجه الصحيح، فقد صورته على أنه مشروع لزيادة مواردنا من المياه، وهذا أقل أوجه المشروع أهمية، الأهم هو استعادة مورد بيئي هام، وحماية الصحة العامة وإيقاف التدهور البيئي في نصف الدلتا”.
لكن عبد الحليم يشير هنا إلى نقطة هامة: “أما المياه فيمكن أن نختلف بشأنها، فالمياه المعالجة حتى لو كانت ثلاثية فهي غير آمنة تماما لزراعة الخضر والمحاصيل”.
يشير عبد الحليم إلى جذر المسألة والذي ربما كان على المعارضين للرئيس أن يتمسكوا به وأن يحاولوا توجيه المشروع لوجهته الصحيحة، حيث يقول: “ولكنها [المياه المعالجة] تصلح أكثر في سيناء لزراعة الأشجار عالية القيمة الاقتصادية، وتعميم المراعي الطبيعية لتنمية نشاط الرعي وهو أهم الأنشطة لدى السكان، لزيادة الثروة الحيوانية وإنتاج الغذاء الحيواني وتوطين البدو ومساعدتهم على الاستقرار وإنشاء صناعات محلية بسيطة لتعليب التمور والزيتون والحرف التقليدية وغيرها”.
يستكمل عبد الحليم: “قد رأيت في محطة معالجة الصرف في بكين محطة داخلية لإنتاج الكهرباء من الحمأة الناتجة من معالجة الصرف وهذه الكهرباء تغذي الإنارة في شوارع بكين، أما المياه المعالجة ثلاثيا فيروون بها الحدائق العامة”
ويتساءل عبد الحليم: “إذن كيف نحصل على المياه لزراعة المحاصيل في سيناء”؟ ليجيب: “تهدي إلينا السماء سنويًا سيولًا تقدر بـ ٨٠ إلى ٢٥٠ مليون متر مكعب، يتم تخزينها في البحيرات، بالإضافة إلى كميات كبيرة أخرى من المياه الجوفية وإذا كنا نظن أننا يمكن أن ننقل أشكال التنمية في الدلتا إلى سيناء فإننا نخطيء خطأ جسيما، فسيناء أرض بكر ومجتمع له خصوصيته وملامحه الثقافية يعيش في بيئة مختلفة، وأشكال التنمية المستدامة هناك يجب أن تعتمد على تنمية البيئة المحلية بكل خصائصها وليس التنمية المستوردة من الدلتا بكل مساوئها وأمراضها”.