رغم الأبواب الموصودة، والأسوار المرتفعة، التي تفصل السجناء عن حريتهم، ينجح البعض في مراسلة عالم ما قبل السجن، وتحديدا الأشخاص الذين شكلوا حياته لعقود، بطرق أكثر إبداعا من الخطابات الأسبوعية وأحيانا الشهرية. البعض يسجل يومياته والكتابة عن عالم جديد لم يألفه من هم بالخارج، وآخرون يستثمرون الوقت ثم الوقت في إنجاز منتج أدبي، وآخرون ينضمون لشريحة منعتها القيود عن الكتابة ولكن ظلت التفاصيل معلقة حتى تناقلها مع العالم.
“علاء في السجن، وكلامه في كتاب”، بتلك الكلمات أعلنت الروائية والمحللة السياسية الدكتورة أهداف سويف حالة المدون والناشط السياسي المحجتز علاء عبد الفتاح، عن كتابه المقرر طرحه في دور النشر في 20 أكتوبر المقبل.
كتاب علاء عبد الفتاح بمثابة طاقة نور للأسرة التي باتت تعيش على أمل انتظار الخطابات المرسلة من داخل السجن، للاطمئنان على حالته الصحية وأوضاعه.
أكملت أهداف كلماتها التي قامت بتدوينها على موقع التواصل الاجتماعي، في إعلان منها عن الكتاب “مش في إيدينا إننا نطلع علاء وبقية حبايبنا المظلومين من سجونهم، لكن في إيدينا إننا نطلق الكلام من الكتاب إلى عقول وقلوب الناس”.
وتحت عنوان “أنت لم تهزم بعد You Have Not Yet Been Defeated” تم طباعة كتاب علاء عبد الفتاح باللغة الإنجليزية بعد ترجمته من العربية، والذي يتضمن تأملات في السجن وأطروحات حول التكنولوجيا، وأصدرته دار النشر المستقلة “فيتزكارالدو إيديشنز”.
تجرع علاء مرارة الحبس طيلة عشر سنوات، بدأت من 2011 بعد القبض عليه في قضية “ماسبيرو” والتي وقعت أحداثها أمام مبنى الإذاعة والتلفزيون، وباشرت تحقيقاتها القضاء العسكري، ونسبت نيابة أمن الدولة العليا طوارئ له تهم سرقة أسلحة وذخيرة خاصة بالقوات المسلحة وحيازة أسلحة نارية، تخريب أملاك عامة عمدًا، إتلاف أموال ثابتة ومنقولة عمدًا تنفيذا لغرض إرهابي، وإحرازه أدوات تستخدم في الاعتداء على الأشخاص واستخدمها في نشاط يخل بالأمن العام والنظام العام.
تم الإفراج عن علاء بعد تحويل القضية إلى القضاء المدني، ليعقبها بعد عامين القبض عليه مرة أخرى في نوفمبر 2013 في قضية “أحداث مجلس الشورى” والتي تمت الدعوة لها للتظاهر ضد الدستور الجديد أمام مجلس الشورى، وتم اتهامه بالتحريض على اتظاهر آنذاك، وإخلاء سبيله بعد عام من الحبس الاحتياطي وبالتزامن مع أولى جلسات نظر القضية في مارس 2014.
وفي يونيو 2014 أي عقب 4 أشهر من إخلاء سبيله تم القبض عليه مرة أخرى على ذمة قضية “أحداث مجلس الشورى”، ليخلى سبيله بعد 3 أشهر، وفي أكتوبر تم القبض عليه مجددا، حاصلا على حكم بالسجن لمدة 5 سنوات.
خرج عبد الفتاح من السجن في مارس 2019 ليبدأ تنفيذ المراقبة الشرطية، والتي لم تغفر له البعد عن السجن، فقد تم القبض عليه من جديد على ذمة القضية 1356 لسنة 2019 حصر أمن دولة وهي القضية التي بدأت من قسم الدقي حيث مكان تنفيذ المراقبة، واتهامه بنشر أخبار كاذبة والانضمام لجماعة إرهابية، ليظل محتجزا حتى كتابة تلك السطور بسجن شديد الحراسة احتياطيا.
خلال سنوات الاحتجاز والحرية المحدودة، استطاع علاء كتابة عدد من المقالات العديد منها داخل السجن في أجواء من الألم والأمل، وقامت أسرته وأصدقاؤه بتجميعها في كتاب واحد، ليعبر عن صوت علاء متجاوزا جدران الزنزانة.
من رحم الزنزانة الفردية.. دومة ينثر أشعاره
تجارب عديدة اخترقت أسوار السجون، ومنها من خرج من رحم الزنزانة الإنفرادية، حيث يقبع أحمد دومة الناشط السياسي والمحكوم عليه بالسجن 15 عاما في قضية أحداث مجلس الوزراء. تلك الاشتباكات التي وقعت بداية من الجمعة 16 ديسمبر 2011 بين قوات عسكرية مصرية من جهة وبين المعتصمين أمام مبنى مجلس الوزراء من جهة أخرى.
وكانت محكمة النقض قضت، في 4 يوليو 2020، برفض الطعن المقدم من أحمد دومة، على حكم محكمة جنايات جنوب القاهرة، وأيدت حكم السجن المشدّد 15 عامًا عليه، وتغريمه 6 ملايين جنيه.
“شايف بريق الأمل؟ شايفه، بعيد يا خيّ.. اسعى له من غير كل.. مهما هيبعد جيّ”، حلم الناشط السياسي بنشر ديوان العامية الذي كتب قصائده بأكملها في الزنزانة الانفرادية على مدار سنوات سابقة، وهو الحلم الذي تحقق بصدوره ديوان “كيرلي” والذي كان له الحظ في المشاركة في معرض القاهرة الدولي للكتاب الدورة الماضية، دون صاحبه للتوقيع عليه ومتابعة حركة مبيعاته، لوجوده في السجن.
وبحسب المحامي الحقوقي خالد على، فإن أحمد دومة كان يحلم منذ شهور بنشر ديوان العامية الذي كتب قصائده كلها في الزنزانة الانفرادية على مدار سنوات سابقة، وبالفعل تحقق حلمه.
تمثل تلك الأعمال المكتوبة لأصحابها الكثير، حيث قدرتهم على التواجد خارج أسوار السجن، محلقين بكلماتهم رغم أنف القرارات القضائية التي تحول بينهم وبين حريتهم، مطلقين العنان لأقلامهم لتحلق بعيدا عن أسوار السجن والسجان.
يوميات الواحات
“لم يجد الأهل وسيلة للتعبير عن رأيهم سوى الحجارة، تصورت الشرطة أنها تواجه انتفاضة على الطريقة الفلسطينية، وردت بإطلاق الرصاص على الطريقة الإسرائيلية!، كانت تلك كلمات الكاتب صنع الله إبراهيم في روايته “شرف” والتي صدرت عن دار الهلال عام 1997.
سجن صنع الله أكثر من خمس سنوات في الفترة من 1959 إلى 1964، وذلك في سياق حملات نظام الرئيس الراحل جمال عبدالناصر ضد رموز اليسار المصري، فترة قاسية استطاع أن يحولها صنع الله إبراهيم إلى منحة، وتحول معها إلى روائي فريد.
عبرت كتابات صنع الله إبراهيم من داخل أسوار السجن إلى الخارج عبر أوراق البفرة لتكون كتاب “يوميات الواحات”، هو العنوان الذي أطلقه على كتابه الذي سرد فيه تفاصيل تجربة سجنه، ملقيا الضوء على تجربة الشيوعيين المصريين في المعتقلات الناصرية، منذ انتمائه للحركة الديموقراطية للتحرر الوطني “حدتو”، واعتقاله مرات عدة حتى دخوله معتقل الواحات.
تتميز أعمال صنع الله إبراهيم الأدبية بالتشابك مع سيرته من جهة، ومع تاريخ مصر السياسي من جهة أخرى، حيث عبر في رواية “شرف ” عن شرف الذي دخل إلى السجن ذاكرة المعاناة وكيفية الحياة داخل السجن، ملقبا المساجين بـ “الأسماك الصغيرة” إسقاطا على أن المتهمين في القضايا الكبيرة مثل الفساد لا يتم حبسهم.
24 عاما مرت على تعبير صنع الله إبراهيم عن أسرار وخبايا السجون المصرية وما يدور داخلها، وتم تصنيفها ثالث أحسن رواية في قائمة أفضل مئة رواية عربية.
صور من الحياة في السجن
نتيجة لتصديه لأشكال الفساد العمالي، زج الشاعر الراحل أحمد فؤاد نجم في السجن الذي كان ملمها له لبدء الكتابة بالداخل، حيث التقى الكاتب والروائي عبد الحكيم قاسم، هناك ممثلا له السند، فقدم له نصائح بضرورة الكتابة، كما أن أحد ضباط السجن كان محبا للأدب ساعد نجم على نشر أشعاره بعدما قام بنسخ أشعاره على الآلة الكتابته وأرسلها إلى وزارة الثقافة، ليشارك في أحد المسابقات الشعرية والتي فاز بها بالجائزة الأولى لديوانه الذي حمل اسم “صور من الحياة في السجن” عام 1962.
لم يكتب يتفرد نجم بكتابة أشعاره، فكان للكاتب والروائي عبد الحكيم قاسم بداية جديدة مع الكتابة الأدبية حيث كتب روايته “أيام الأنسان السبعة” والتي صدرت في عام 1969 عن دار الكتاب العربي وترجمت إلى الإنجليزية في عام 1989، حيث تم القبض على قاسم في 26 ديسمبر 1959 بتهمة الانتماء للحزب الشيوعي المصري وحكم عليه بالسجن خمس سنوات قضاها بسجن الواحات.
في المرحلة الناصرية مثل قاسم أبرز الكتاب المصريين، حتى تم القبض عليه ككل صاحب فكر حينها، بسبب مواقفه وآرائه السياسية، ليستمر في الكتابة في السجن، حتى أن أصيب بالشلل وهو الأمر الذي جعله يلجأ لزوجته لتكتب كل ما يقوله لها.
اقرأ أيضا
ناشرون وكتاب غيبتهم السجون عن معرض الكتاب
“حرز مكمم”.. الكتابة بعد السجن
سبق كتاب علاء عبد الفتاح، سلسلة من الكتب والروايات عن أدب السجون والمعروف إنه نوع أدبي يصف الأدب الذي تم كتابته في السجن أو الإقامة الجبرية، حيق يكون الكاتب مقيدا في مكان ضد إرادته، والتي لم يكتب فيها طيلة عشر سنوات ماضية، بحسب الروائي أحمد ناجي الذي أصدر روايته “حرز مكمم” العام الماضي، بعد خروجه من السجن.
“عرفت أنني سأخرج ذات يوم، وحينما يأتي هذا اليوم فسأجلس على كرسي وطاولة آدمية، لا على طاولة من عظام ركبتي، أمام حاسوبي الشخصي، لأعيد كتابة الرواية ونقلها من دفتر السجن إلى شاشة الكمبيوتر”.حرز مكمم.
ظل ناجي محتجزا وبعيدا عن قلمه لمدة عام، حيث أدانته محكمة الجنايات بتهمة “خدش الحياء” بسبب نشر روايته “استخدام الحياة”.
قرارات صارمة فرضتها إدارة السجن على ناجي حيث تم منعه من الكتابة والنشر، بجانب فرض رقابة صارمة على الكتب المسموح له بها بقرائتها: “لم أكتب الكتاب بالسجن. كنت ممنوعا من الكتابة والنشر طوال فترة السجن وحتى بعد ماخرجت من السجن”، يقول أحمد ناجي.
قرر ناجي السفر بعيدا ليعود إلى شغفه مرة أخرى: “الكتاب لم ينشر إلا بعد سفري وهجرتي مصر”، بعد تعرضه لضغوط غير مباشرة عقب الحكم عليه بعامين حبس بسبب نشر رواية.
ولأن الكتابة هي وسيلة تواصل السجين مع أهله خارج الأسوار، لم يعد أمام ناجي إلا كتابة الخطابات وتسجيل الأحلام التي اعتاد عليها منذ 12 عاما، وبعض القصائد القصيرة، قائلا: “كل ذلك كان معرض للمصادرة والتفتيش، حيث يتم إحراق ما كتبه السجين إذا تم العثور عليه خلال حملات التفتيش”.
استعاد ناجي في كتابه، الذي أعاده إلى حالة الارتباط بقلمه وشغفه مرة أخرى، تفاصيل من التأملات التي تعالت على حالة الغضب الداخلي، وتجربة السجن التي امتدت إلى عام كامل.